ما لم يكن متوقعاً حصل. أن تقوم وكالة «فيتش» بخفض التصنيف السيادي للبنان بدلاً من وكالة «ستاندر أند بورز» التي استحوذت على كامل انتباه المعنيين، فأغفلوا «فيتش». أما اعتبارات هذه الأخيرة في خفض التصنيف فهي تكمن في الاحتياطات الصافية بالعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان والتي تكشف عن عجز بقيمة 32 مليار دولار. مفاعيل هذا القرار ليست كارثية، لكنها مؤشّر على أن الأزمة تشتدّ

قرّرت وكالة ”فيتش“ أن تخفض تصنيف لبنان من درجة (B-) إلى (CCC). بحسب تعريفات الوكالة لهذه الدرجة، فإنها تعني أن قدرة لبنان على سداد ديونه ضعيفة مع احتمال التخلّف عن السداد (التعثّر). هذا الخفض جاء بعد جولة من النقاشات بين المسؤولين في وزارة المال ومصرف لبنان وبين مسؤولي الوكالة. فبحسب أوساط مطلعة، كانت ”فيتش“ قد سلّمت لبنان مسودة التقرير الذي يتضمن خفض التصنيف يوم الأربعاء الماضي، إلا أن لبنان استعمل قواعد الوكالة التي تنصّ على إمكانية استئناف هذا الخفض إذا تبيّن أن هناك معطيات جوهرية لم تكن الوكالة على علم بها، وقدّم طلباً لهذا الاستئناف يوم الخميس قبل صدور التقرير النهائي بساعات. وافقت اللجنة المعنية في «فيتش» على الطلب، وأحالته إلى اللجنة المعنية بدراسة التصنيف، وقرّرت بعد ساعات من التدقيق في الأرقام أن لبنان استحق خفض التصنيف إلى درجة (CCC) وقرّرت أمس أن تنشر التقرير النهائي.
بين تسلم مسودة التقرير والاستئناف، كانت هناك جولة من النقاشات بشأن رقم أساسي وهو: ”الاحتياطات الصافية لدى مصرف لبنان بالعملات الأجنبية». الوكالة كانت تشير إلى أن هذه الاحتياطات تسجّل عجزاً كبيراً، ما يدفعها إلى خفض التصنيف، على اعتبار أن قيمة الالتزامات المترتبة على مصرف لبنان تبلغ 62 مليار دولار، مقابل موجودات بالعملات الأجنبية تقل عن 30 مليار دولار، ما يعني أن عجز الاحتياطات الصافية يبلغ 32 مليار دولار.
وفي الاستئناف المقدّم للوكالة، ردّ مصرف لبنان بأن أرقام تموز عن الاحتياطات لم تكن قد صدرت حين كان فريق «فيتش» في لبنان يجري تقويماً تمهيدياً للتصنيف، وأن أرقام تموز تظهر ارتفاعاً في الاحتياطات بقيمة 700 مليون دولار، أي أنها عادت إلى الارتفاع لتبلغ 30.5 مليار دولار، مشيراً إلى أن الالتزامات بالعملات الأجنبية لديه تتضمن 19 مليار دولار من الاحتياطي الإلزامي، وأن الوكالة لم تحتسب قيمة الذهب من ضمن موجوداته، والتي ارتفعت قيمتها إلى 13 مليار دولار.
في المقابل، رأت الوكالة أن الاحتياطي الإلزامي، أي المفروض على المصارف من قبل مصرف لبنان، يشكّل التزامات عليه للمصارف بأي حال من الأحوال، فضلاً عن أنه يشكّل التزامات على المصارف تجاه الزبائن، أما الذهب فهو مقوّم بأسعاره السوقية، لكن لا يمكن اعتباره سيولة احتياطية إلا في حال بيعه وهذا يتطلب موافقة من مجلس النواب. والاستنتاج الذي يقدّر أن الوكالة خرجت به من هذه الأرقام، أن العجز في الاحتياطات الصافية بالعملات الأجنبية بعد احتساب الاحتياطات الإلزامية المقدرة بنحو 19 مليار دولار سيبلغ 13.6 مليار دولار، أي ما يوازي 41.5% من الموجودات بالعملات الأجنبية.
على هذا الأساس، رفضت الوكالة استئناف لبنان ضدّ خفض التصنيف، وقرّرت اللجنة المعنية في الوكالة أن تحوّل قرارها الأولي إلى قرار نهائي بخفض تصنيف لبنان بعد تصحيح بعض الأرقام. وانتقدت الوكالة في تقريرها النهائي، الطرق غير الاعتيادية التي يقوم بها مصرف لبنان لاستقدام الدولارات من الخارج، مشيرة إلى ”أنها تزيد الضغوط على التمويل»، فضلاً عن أن ”الحكومة تعتمد كثيراً على مصرف لبنان للحصول على التمويل بالعملة المحلية وبالعملات الأجنبية أيضاً لسداد سندات اليوروبوندز المستحقة» (في إشارة إلى أن مصرف لبنان سدّد أكثر من 3 مليارات دولار من سندات اليوروبوندز وفوائدها عن الحكومة اللبنانية نظراً إلى عدم القدرة على إصدار سندات ناجح).
في الوقت نفسه، أصدرت وكالة ستاندر أند بورز تصنيفها للبنان، مؤكدة أنه لا يزال عند مستوى (B-)، مشيرة إلى أنها تتوقع تراجع احتياطات مصرف لبنان، ”لكننا نعتقد أنها لا تزال كافية لتمويل اقتراض الحكومة وحاجات القطاع الخاص على مدى السنة المقبلة». تبريرات ”ستاندر أند بورز“ للإبقاء على التصنيف عند مستوياته السابقة، مناقضة تماماً لحسابات «فيتش»، وهي تعكس الضغوط التي مورست على الوكالة من أجل التراجع عما كان شبه مؤكد منذ أشهر بأنها ستعمد إلى خفض التصنيف بسبب تراجع احتياطات مصرف لبنان وبسبب العجز الكبير في احتياطاته الصافية.
في الواقع، إن خفض التصنيف من قبل «فيتش» يعني أن تصنيف لبنان بات ضمن درجة (احتمال التعثّر) من قبل وكالتين، إذ إن ”موديز“ سبق أن خفضت تصنيف لبنان في مطلع السنة الجارية إلى هذا المستوى. وبالتالي فإن الانعكاس المباشر لخفض التصنيف سيظهر لدى المصارف اللبنانية التي ستضطر الى أن ترفع الأموال الخاصة الأساسية (رساميلها) إلى مستويات تتلاءم مع درجة المخاطر المرتفعة التي ينطوي عليها التصنيف الجديد.
وبشكل مباشر أيضاً، فإن خفض التصنيف يعني أن كلفة اقتراض الحكومة من السوق ستكون بفائدة أعلى. كلما انخفض التصنيف ارتفعت كلفة الفائدة المدفوعة لتغطية درجة المخاطر المرتفعة واحتمال التعثّر.
كذلك، فإن خفض التصنيف يضع لبنان في مصاف زامبيا والأرجنتين والكونغو التي نالت تصنيفاً مماثلاً من وكالتي تصنيف. لكنه لا يشكّل كارثة كبيرة على الاقتصاد اللبناني، إذ إن التقديرات المصرفية تشير إلى أن كلفة الفائدة السوقية، اليوم، هي مساوية لدرجة التصنيف الجديدة المتدنية، أي أن السوق احتاط لخفض التصنيف وحسم مسبقاً كلفته، ”لكنه يبقى مؤشراً على اشتداد الأزمة وليس مؤشراً على الانهيار، فالفرصة لا تزال متاحة للخروج منها»، يقول أحد الخبراء.
وزارة المال أصدرت بياناً ليل أمس قالت فيه إن تصنيفَي «فيتش» و«ستاندر أند بورز» يذكّران «بأهمية خفض العجز وتنفيذ الإصلاحات الهيكلية التي بدأنا بها، وسنزيد وتيرتها في موازنة 2020 وما بعد».

المصدر: محمد وهبه - الاخبار