تتبع الحكومة اللبنانية في السنين الأخيرة سياسات تقشّفية من وحي وصفات صندوق النقد الدولي، وإلى حدّ ما، البنك الدولي، أسوة بالدول المُفلِسة التي تمرّ بأزمات مالية وتخضع لوصفات هاتين المؤسّستين الدوليتين، والتي يعارضها الاقتصاديون التقدّميون. أدّت هذه الوصفات إلى دخول الاقتصاد اللبناني في حلقة من الانكماش، في حين كان يحتاج إلى إجراءات تدعم النشاط الاقتصادي وتعزّز إيرادات الدولة.
نذكر هنا الكتاب الشهير لجون بيركنز الموظّف السابق في البنك الدولي، الذي ندّد في مذكّراته بسياسات البنك وصندوق النقد الدوليين، والتي تأتي تحت مسمّى «التعديل البنيوي»، وهو ما يعني ضرورة القضاء على الاقتصاد السياسي للتنمية والمُضي نحو خصخصة مرافق الدولة وتسليم مقاليد السياسة الاقتصادية إلى رأس المال الوحشي. وأخيراً رأينا ماذا حلّ بالاقتصاد اليوناني، الذي يعدّ الدليل الأحدث على مساوئ هذه السياسات، بعدما تراجع مفهوم دولة الحماية والقواعد الكينيزية السليمة للاقتصاد لصالح سياسات تقشّفية أدّت إلى إفقار ليس فقط الفئات الشعبية وإنّما أيضاً الطبقة الوسطى.
من المعروف، كما ذكرنا في مقال سابق، أن جمعيّة مصارف لبنان باتت تسوّق سندات الدَّيْن اللبناني المُحرّر بالدولار في الخارج، وهو ما يعطي الدائنين الجُدد الأجانب كلمة في تحديد السياسات الاقتصادية الداخلية. وهذا أمر خطير للغاية، يُفقد لبنان مصدر قوّة مالية رئيسية كانت تتمثّل بإبقاء الدَّيْن المُحرّر بالدولار داخل الاقتصاد اللبناني. وأيضاً، زادت السياسات التقشّفية التي مورِسَت في السنتين الأخيرتين الطين بلّة، وأثّرت على تراجع إيرادات الدولة الضريبية، ما خلق هذه الحلقة المُفرغة التي نتخبّط فيها، بعد أن هربت رساميل عديدة إلى الخارج خشية المزيد من التدهور. وهذه هي تماماً البيئة التي تعجّل اللجوء إلى تمويلات صندوق النقد الدولي أو مؤسّسات دولية أخرى تضع شروطاً قاسية لإجراء الإنقاذ المالي.
صحيح أن ما يمكن أن «يستفيد» منه لبنان من تمويلات الصندوق قد لا يكون كبيراً، إنّما هناك مروحة من مؤسّسات التمويل العربية والدولية التي تقدّم التسهيلات التمويلية، مثل صندوق النقد العربي والصندوق العربي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والبنك الإسلامي، إلّا أنها جميعها تضع شروطاً، على غرار شروط صندوق النقد والبنك الدوليين والبنك الأوروبي لإعادة الإعمار. في خلاصة القول، فقد لبنان اليوم مناعته الاقتصادية بسبب السياسات الخاطئة التي اتبعتها الحكومات المتعاقبة والمتأثّرة بنهج المؤسّسات الدولية، ما يضع لبنان على طاولة المؤسّسات الدولية ويُخضعه لشروطها.
لكن على الرغم من كلّ ذلك، إن المؤسّسات الدولية ليست قدراً، ويمكن الخروج من الأزمة الحالية من دونها، إلّا أن ذلك يتطلّب إجراءات جريئة وجدّية. إذ لا نفهم اليوم كيف تحوّل العجز المتوقّع في الميزانية إلى فائض بسحر ساحر. عملياً، ما يحتاج إليه لبنان هو رؤية تنموية سليمة على غرار ما قام به الرئيس فؤاد شهاب بمعاونة «بعثة إيرفد» في ستينيات القرن الماضي، على أن تأخذ هذه الرؤية في الاعتبار مبادئ الإنماء المتوازن والتنشيط الاقتصادي وسياسة نشِطة لمكافحة الفقر، وليس فقط برنامجاً لمساعدة الفئة الأكثر فقراً أسوة بما تقوم به وزارة الشؤون الاجتماعية حالياً. فمن المؤلم اليوم أن نرى جيوب الفقر نفسها التي لا تزال كما كانت عليه منذ أكثر من نصف قرن. وتتمثّل هذه الإجراءات بـ:
(1) زيادة الإيرادات المباشرة أي الإيرادات المفروضة على ضريبة الدخل، على أن تترافق مع توحيد هذه الضريبة بضريبة واحدة تتناول كلّ إيرادات المكلّف بدل الاستمرار في النظام الحالي حيث لا تجمع المداخيل المختلفة للمكلّف بل تبقى منفصلة عن بعضها، ما يقلّل كثيراً من الاقتطاع الضريبي على المُكلّفين الكبار بشكل خاصّ.
(2) التوجّه نحو مصادر استدانة بديلة وبفوائد متدنية إمّا من المؤسّسات التمويلية الاستثمارية التي أسّستها مجموعة دول البريكس أو من دول مثل الصين، إذ يجب أن لا ننسى بأن لبنان وسوريا كانا سابقاً محطّة أساسية من طريق الحرير القديمة التي تعمل اليوم الصين على إعادة إحيائها.
(3) إعادة تكوين نظام نقدي رشيد ومنطقي في لبنان يقوم على ربط العملة المحلّية بسلّة من العملات التي نستورد بضائع من بلادها كمرحلة تمهيدية، يتخلّلها العمل على تقوية القطاعات الإنتاجية قبل التخلّي عن تثبيت سعر الصرف وتعويمه ضمن هوامش محدّدة على أن يتمّ الحفاظ على سعر العملة المحلّية بقوّة الاقتصاد. وهذا بدلاً من مشاريع «سيدر» التي ستكوّن مصدراً إضافياً لزيادة الدَّيْن العام من دون أن تترافق مع أي رؤية تنموية ومناطقية من هذه المشاريع التي لن يستفيد منها إلّا الفئة الثرية نفسها من المقاولين ورجال الأعمال.
(4) يبقى أن تتمّ مساءلة البنك المركزي على كلّ السياسات التي اتبعها خلال السنوات الثلاثين الأخيرة، وعلى الآليات التي أدّت إلى إغراق لبنان في مديونية عامّة هائلة تتجاوز الـ130 مليار دولار، بعد أن خرج من الحرب الأهلية الطويلة في عام 1990 بدَيْن لا يتعدّى ما يعادل 1.5 مليار دولار مُحرّراً بالعملة اللبنانية. وكشف حقيقة ما حصل في أواخر عام 1992 حين انخفض سعر صرف الليرة إلى 2800 ليرة بينما كان يراوح 800 ليرة مقابل الدولار في بداية العام، فيما لم يكن ميزان المدفوعات في حالة عجز بل كان هناك فائض متواضع بقيمة 50 مليون دولار، وهو ما أدّى إلى انتفاضة شعبية أسقطت حكومة الرئيس عمر كرامي والإتيان بالرئيس رفيق الحريري على رأس الحكومة الجديدة وتعيين رياض سلامة حاكماً للبنك المركزي، وانطلاق مسار النهج الذي وصل إلى حائط مسدود ملقياً على عاتق الشعب المنتفض إرث هذه السياسات والتي يُطلَب منه دفع ثمنها.