قال الصرَّار للنّملة :
يا جارةُ عَطفاً.. وارحمي قلب المُعنّى
أقرِضيني بعض زادٍ.. وابسطي للجودِ يُمنَى
فتريني قبل آبٍ.. حينما أَثرى وأغنَى
موفِياً مالَكِ أصلاً.. ورِباً كَيلاً و وَزنَا ـ [ إليّا أبو ماضي]
إنها حكاية من تورّط في خيارات الريّع.. فاستُغِلَّ حتّى الثمالة.. !!
أن تحقِّقَ نموّاً في رحمِ العجز !! وأرباحاً في زمنِ الكساد !! فأنت إمّا استغلاليّاً أو محتكراً وفي كلتا الحالتين عدم مشروعيّة..
يصنّف نشاط الحكومة بأنّه من أعمال السّلطة التي تؤمنها بواسطة أجهزتها ومؤسساتها لتسيير المرافق العامّة..
كلّ تلك الأنشطة لا تدخل أساساً ضمن المشروعات التجارية من حيث طبيعتها القانونيّة، ما يفسّر أنَّ القروض الممنوحة للقطاع العام حكومةً ومؤسسات، بحسب طبيعتها وغايتها لتسيير المرافق العامة الحيويّة، لا يمكن إدخالها تحت فئة القروض الممنوحة لغايات تجاريّة..
والسؤال الذي يطرح نفسه، هل إنَّ قروض المصارف اللبنانيّة الممنوحة للقطاع العام بما تتضمنه من فوائد فاحشة تخطت ال 30 بالمئة مع الهندسات الماليّة لمصرف لبنان، تؤلف قروضاً ربويّة..؟؟
ينصّ قانون العقوبات اللبناني في المادة 661 – المعدلة بالمرسوم الإشتراعي رقم 112/1983 على أنَّ : ” كل عقد مالي، لغاية غير تجارية، يفرض على المستقرض فائدة اجمالية ظاهرة او خفية، بمعدل يزيد عن 12 بالماية سنويا يؤلف قرض ربا “.
وفي هذه الحالة يصبح الموجب الذي ليس له سبب أو له سبب غير صحيح و غير مباح كأنه لم يكن و يؤدي إلى اعتبار العقد الذي يعود إليه غير موجود أيضاً على ما جاء في نص المادة 196من قانون الموجبات والعقود اللبناني ، لتضيف المادتين 198 و 201 موجبات وعقود أن السبب غير المباح هو الذي يخالف النظام العام والقواعد القانونيّة الآمرة، وإن كان سبب العقد غير مباح وقع العقد باطلاً أصلاً..
من هنا وللوهلة الأولى، فإنَّ القروض المصرفيّة المعطاة للقطاع العام، كونها قروض غير تجاريّة بمفهوم أعمال السلطة العامّة وتسيير المرافق لقاء فائدة فاحشة، تشكّل قروض ربا وتقع باطلة أصلاً ولها سبب غير مباح لمخالفتها أحكام القانون الإلزاميّة فتكون سندات الدين باطلة أصلاً .
إلا أنه، وخلافاً لأي تأويل أو تفسير، ففي كلّ مرة يكون فيها المُقرِض مصرفاً، فلا يكون فعل الربا متوفراً حتى ولو تجاوزت الفائدة المعدل القانوني.
فالنص العام الوارد في قانون العقوبات اللبناني الذي ذكرناه آنفاً لا يسري على القروض المصرفيّة ككل بخاصة مع وجود القانون الصادر بالمرسوم رقم 5439 تاريخ 20/9/1982 الهادف لتطوير السوق المالية في لبنان حيث نصت المادة الرابعة منه أنه: ” على الرّغم من كل نصّ مخالف، تعتبر تجاريّة، في ما خصّ معدل الفائدة، القروض التي تمنحها المصارف.”
ما خلاصته أنه مجرّد أن يكون القرض ممنوحاً من المصرف فإنّه، وخلافاً لأي نصٍّ ، تعتبر فائدته تجاريّة، وطالما أنّ فائدته تجاريّة، وفق ما اعتبرها القانون، فإنها وان تجاوزت الـ 12 بالمئة، لا يكون من استفاد من هذه الفائدة مرتكباً لجرم المراباة المحدد في المادة 661 عقوبات لا سيّما وأنّ المادة 181 من قانون العقوبات نصت في فقرتها الثانية على أنه اذا انطبق على الفعل نص عام من الشريعة الجزائية، ونص خاصّ، أخذَ بالنصّ الخاص.
إزاء وضوح نص المادة 4 المذكورة لم يعد من فائدة البحث في ما اذا كان الدّين تجارياً أم أعطي لغاياتٍ مماثلة ما يزيد المصارف استفحالاً وتحكماً في ضيق وعجز القطاع العام ..
إلا أنه، ومع تحقيق النشاط المصرفي نمواً ملحوظاً على حساب ديون القطاع العام وتخبّطه بعجزه، وبالوقوف قليلاً عند الرّبح أو المكسب المحقّق من عائدات فوائد القروض المصرفيّة، فقانون الموجبات والعقود في المادة 140 منه، ” يلزم من يجتني بلا سبب مشروع، كسباً يضر بالغير الردّ ” حيث المداعاة المبنيّة على الكسب غير المشروع تشترط عدم وجود وسائل قانونيّة أخرى منتجة لنيل الحقّ المدعى به إذ تكون علاقة الفريقين قد نشأت بالاستناد الى علاقة مدنيّة، متى كان الكسب بدون سبب مشروع يعود الى ظروف خرجت عن نطاق العقد الذي نظّمه الفريقان..
اليوم يلعب مصرف لبنان دور العرّاب الرئيسي لسلطة رأس المال النيوليبرالي، وأمام الثقة التي سوّقها من استفاد من وجوده من وسائل الإعلام والمصارف والمؤسسات صار الحاكم رمز الإدارة الرشيدة التي تفتقدها مؤسسات القطاع العام فصار القطاع المصرفي المقصد الأوحد والمموّل للدولة و منقذ الإقتصاد من هولِ الإنهيار.
لقد هدفت سياسة المصارف لتجميع الأرباح ومضاعفتها، على حساب الدولة وحتى على حساب الإئتمان النقدي
حيث أدار حاكم مصرف لبنان واحدة من أكبر عمليات خلق وتحويل النقد من مال عام لمال خاص. فضخ المصرف المركزي (وهو شخص من القانون العام) أرباحاً استثنائية ضخمة إلى المصارف الخاصّة وكبار المودعين، قاربت حصّة المصارف منها ستّة مليارات دولار أميركي..
فقام مصرف لبنان بإعادة شراء أو استرداد شهادات إيداع صادرة عنه وسندات خزينة صادرة عن وزارة المال، ويدفع سعراً لكل سند يزيد 39 بالمئة وسطيّاً على السعر الأصل، أي سعر أصل السند مضافاً إليه نصف أرباح الفوائد التي كان سيحقّقها حتى استحقاقه وبذلك تحقق المصارف الخاصة ربحاً فورياً وسطياً بمعدل 39 بالمئة، وهو عائدٌ مرتفعٌ بكل المقاييس. في المقابل، تشتري المصارف سندات دين بالدولار من يوروبوندز وشهادات إيداع جديدة بالقيمة نفسها لسندات الدين بالليرة التي استردها مصرف لبنان وتحتفظ بالربح الفوري المحقق..
هل كان ذلك استجابةً بريئة لشروط العرض والطلب على النقد الذي حرّك أسعار الفائدة صعوداً بهذه السرعة القياسيّة وبهذه النسبة الفائقة ؟ ، أم أنَّ هناك أسباب وجيهة، للإعتقاد أنَّ مكسب ما غير مشروع قد حصل بين أطراف النظام المصرفي ؟.
والحال أنَّ كلّ من اتطّلع على الشّروط التي أحاطت بانطلاق عمليات الهندسة الماليّة يعلم تمام العلم أنَّ هناك مصرفان لبنانيّان حقّقا خسائرَ مؤلمة في مصر و تركيا وقبرص وكانا بحاجة لمخطّط إنقاذ واسع (Bail out)، أمّنتها لهما السلطة النقدية بسخاء غير مسبوق.
يكمن السؤال الأهمّ، في الإجابة على تساؤل هل كان مصرف لبنان مضطرّاً لرفع الفائدة بأكثر من 25 نقطة دفعة واحدة لإعادة تعبئة إحتياطه من العملات الأجنبيّة، فما هي التجربة التي استند إليها لافتراض أنه بحاجة لرفعٍ خيالي للفوائد ؟
إنَّ منطوق الأمور يقول أنَّ السلطة النقدية قد هدفت بشكل اساسي إلى إنقاذ هذين البنكين وعدم تدفيع حملة الأسهم فيهما ثمن أخطاء إدارة مصارفهم، لماذا لم تطلب السّلطة المركزيّة ضخ رساميل جديدة في المصرف بدل اللجوء إلى عمليات تنطبق عليها صفة الكسب غير المشروع ؟
الأخطر أنه وتبعاً لمنطق المحاصصة الذي بات سائداً في كلِّ شيءٍ في لبنان، فقد انبرت بنوك كثيرة أخرى للإنتفاع بمنافع الهندسات الماليّة إسوةً بهذين المصرفين، حتى وصل مجموع ما تكبّدته الدولة اللبنانيّة إلى ستة مليارات دولار من الفوائد أي ما يوازي كلفة إستيراد لبنان من القمح لخمسة وأربعين عاماً..!!، أو كلفة فاتورة الدواء لخمسة أعوام.!!
هل كانت أموال الهندسات الماليّة حق للمصارف؟ قطعاً لا !! إنه سنداً لما تقدّم كسبٌ غير مشروع، ومن لا يزال لديه شك فيما ذهبت إليه هذه المطالعة القانونيّة فليقرأ ما قاله وزير الإقتصاد في الحكومة اللبنانية : ” حان الوقت على المصارف لتعيد أرباح الهندسات الماليّة إلى الدولة ”
..أن تقرضَ القطاع العام تأميناً لمبدأ إستمراريّة تسيير مرافقه هو واجبٌ وطنيٌّ في ظلّ ما يؤمنّه لك هذا القطاع من وسائل متاحة ، أما أن يصبح الإقراض استغلالاً لضيقه بمواجهة تسيير هذا المرفق بفرض فوائد فاحشة، يكون من قبيل الكسب غير المشروع..