حصل ما كانت المصارف خائفة منه. صدر قرار قضائي عن القاضي أحمد مزهر، يكسر كل القيود غير القانونية التي فرضتها على حسابات الزبائن في إطار عمليات السحب والتحويل. ففي النبطية، تجرّأ قاضٍ شجاع على مواجهة منظومة المصارف، مسجّلاً سابقة قانونية قضت بإلزام «بنك بيبلوس» بتسديد قيمة الحساب العائد لشركة «كومرس إنترناسيونال» والبالغة قيمته 129 ألف يورو فوراً ومن دون تأخير، تحت طائلة غرامة إكراهية قيمتها 20 مليون ليرة عن كل يوم تأخير، وعلى أن يكون الدفع «نقداً أو وفقاً للوسيلة التي ترتضيها الدائنة المستدعية».
على مدى عقدين ونصف عقد، أمعنت المصارف في سلب أموال الزبائن، وراكمت بإشراف قوى السلطة وبمشاركتها وبإدارة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، أرباحاً هائلة. سلامة أتاح حرية فرض العمولات وتحديد معدلات الفوائد على القروض وعلى الودائع، وغضّ النظر عن مخالفاتها، وأقرضها من المال العام، وموّل عمليات اندماجها من المال العام أيضاً، وخلق النقود من أجل بقائها... ووصلت به الأمور إلى حدّ تركها تفرض قيوداً استنسابية على عمليات السحب والتحويل بحجّة أن فرض هذه القيود ليس ضمن صلاحياته. مَنّ عليها بأرباح سخيّة للغاية على حساب المال العام، لكنه رفض أن يفرض «كابيتال كونترول» رسمياً على عمليات السحب والتحويل في عزّ الأزمة التي تنذر بالأسوأ يومياً. عملياً، هو ترك المصارف تتخبّط مع زبائنها، متخلياً عن مسؤوليته كناظم للقطاع المصرفي، وغافلاً عن صلاحياته المطلقة وفق قانون النقد والتسليف التي تعطيه اليد الطولى.
في الواقع، إن القيود الاستنسابية التي فرضتها المصارف سبقت الانتفاضة بأشهر، إلا أنها كانت ضمن حدود ضيّقة تحمّلها الزبائن. لكن عندما أقفلت المصارف لـ12 يوماً بعد اندلاع الانتفاضة، عُقد العديد من الاجتماعات بين مجلس إدارة الجمعية والحاكم سلامة، وعُقدت أيضاً اجتماعات موسّعة للمصارف، خلصت جميعها إلى ضرورة تشديد القيود. حينذاك، طالبت المصارف سلامة بإعلان حظر عمليات التحويل بشكل رسمي خوفاً من دعاوى إفلاس قد يلجأ إليها الزبائن أمام المحاكم. سلامة كان له موقف متشدّد رفضاً لهذا الأمر، متذرّعاً بأن الأمر لا يقع ضمن صلاحياته بل ضمن صلاحيات مجلس النواب. لاحقاً، تلقى سلامة مراجعة من وزير العمل في الحكومة المستقيلة كميل بوسليمان، طالباً منه فرض هذه القيود استباقاً للدعاوى القضائية التي يُعدّها مودعون أجانب أمام محاكم نيويورك، والتي قد تأخذ المصارف إلى الإفلاس. أبلغه سلامة، بحسب المطلعين، أن مجلس إدارة جمعية المصارف سيزور رئيس المجلس النيابي نبيه برّي لسؤاله عن هذا الأمر. بعد أخذ وردّ، أتى جواب برّي الذي تسلّمته الجمعية عبر وزير المال علي حسن خليل، بالإشارة إلى عدم موافقته على هذا الأمر.
مذذاك، لم يتجرّأ أيّ من النواب على تقديم اقتراح لمعالجة هذه المسألة التي باتت ملحّة. وما يدلّ على ضرورتها أن إضراب نقابة موظفي المصارف كانت حجّته الأساسية رفض ترك موظفي الفروع المصرفية لمصير مجهول بوجه زبائن غاضبين لديهم حقوق لا يستطيعون الحصول عليها. في ذلك الوقت، أشار رئيس اتحاد نقابات موظفي المصارف جورج الحاج إلى أن أحد الفروع المصرفية الذي يموّل بشكل يومي بقيمة 100 ألف دولار نقداً، لم يحصل إلا على 10 آلاف دولار نقداً، ما يعني أن مدير الفرع بات يواجه الزبون بلا أدوات. التنصّل من المسؤولية بدأ من أعلى هرم القيادة في هذه المنظومة، أي من سلامة الذي ترك المصارف تأخذ قرار الـ«كابيتال كونترول» بشكل استنسابي، ومن دون سيولة كافية لتغطية طلبات الزبائن (إلا للمصرف الذي يستدين من مصرف لبنان بفائدة 20% على الدولار)، والمصارف تركت مديري الفروع في مواجهة الزبائن، والزبائن لم يعد لديهم ملجأ سوى القضاء.
السابقة التي أرساها القاضي مزهر، سيكون لها وقع كبير في السوق، ولا سيما أنه لم يترك مجالاً لاستنسابية المصارف، بل ألزمها بتسديد الأموال نقداً أو أي وسيلة يراها الزبون مناسبة. القاضي استند إلى المادة 249 من موجبات العقود ليشير إلى أن «اكتفاء المصرف بعرض سحب شيك بالمبلغ على طرف ثالث هو مصرف لبنان كل ذلك يشكل خرقاً لالتزاماته التعاقدية والمصرفية».
وفي وقائع القضية، تقدّمت المديرة العامة لشركة «كومرس إنترناسيونال ش.م.ل.» أميرة كاعين، بدعوى أمام قاضي الأمور المستعجلة في النبطية في 21/11/2019، تشير فيها إلى أنها تملك حساباً جارياً لدى «بنك بيبلوس» ــ فرع النبطية بعملة اليورو، وقيمته 129,033.39 يورو. المدّعية قالت إن المصرف تمنّع عن دفع المبلغ المذكور الذي ستستعمله لتسديد التزامات مترتبة عليها تجاه مستخدميها، متذرعاً بحالة البلد. وطالبت القاضي بإلزام المصرف بأن يدفع قيمة الحساب المذكور باليورو فوراً تحت طائلة غرامة إكراهية بقيمة 50 ألف يورو عن كل يوم تأخير، وتسطير مذكرة إلى المصرف لإجراء المقتضى.
ردّ المصرف على ادعاءات الشركة بأنه على استعداد لتسديد قيمة المبلغ المودع بموجب شيك مصرفي مسحوب على مصرف لبنان وفقاً للأصول، مشيراً إلى أن عرضه هذا رفضته الشركة التي طالبته بتسليمها الوديعة نقداً.
في حيثيات قرار القاضي أن عرض المصرف تسديد الوديعة بواسطة شيك مصرفي مسحوب على مصرف لبنان يؤلّف دليلاً قاطعاً على وجود حق واضح لا لبس فيه للمستدعية لديه، لافتاً إلى أن «إيفاء الموجب يكون عيناً عملاً بنص المادة 249 من قانون الموجبات والعقود، إذ للدائن حق باستيفاء موضوع موجبه بالذات...»، وأوضح أن مخالفة هذه القاعدة «واكتفاء المصرف بعرض سحب شيك بالمبلغ على طرف ثالث هو مصرف لبنان، كل ذلك يشكل خرقاً لالتزاماته التعاقدية والمصرفية، والموجبات الملقاة على عاتقه قانوناً، ويلحق ضرراً محتّماً بالمستدعية ومصالحها الاقتصادية». كذلك أوضح أن تذرّع المصرف بـ«الظروف التي يمرّ بها البلد» لا تؤلّف قوّة قاهرة … لم يثبت توافرها صراحة أو ضمناً أو يناقش في وجودها، كما أنه لم يثبت عدم ملاءته بحيث لا يتاح له الدفع بل أقرّ بتوجب المبلغ».
في النهاية قرّر القاضي: «إلزام المستدعى ضده بنك بيبلوس ش.م.ل. بتنفيذ موجبه الذي التزم به ودفع قيمة الحساب العائد للمستدعية والبالغة 129،033،39 يورو فوراً من دون تأخير، تحت طائلة غرامة إكراهية مقدارها 20 مليون ليرة عن كل يوم تأخير، وذلك نقداً أو وفقاً للوسيلة التي ترتضيها الدائنة المستدعية، وإبلاغ نسخة عن القرار للمصرف».