محمد عبد الله لافي

تمتلئ المكتبات الأجنبية والعربية بالكتب التي تتحدث عن مدى تفوق أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، وعلى رأسها جهاز “الموساد” الذي يختص بالعمل خارج إسرائيل، وحاولت هذه الكتب وبعض المقالات الصحفية أن ترسخ في الأذهان صورة أسطورية عن التفوق الاستخباري الاسرائيلي، وقد احتوت هذه الكتب بعديد من القصص والمغامرات التي تشبه إلى حد بعيد أفلام هوليوود، ولمن حاول أن يقرأ تلك القصص بعين الناقد سيجد أن من كتب هذه القصص تعمّد أن يضيف إليها الحبكة الدرامية والحركة البطولية وتفاصيل غير واقعية، لتضع القارئ في حالة من الانبهار لا يفوق منها إلا بعد إتمام الكتاب وابتلاع الطُّعم.

وقد تابعتُّ معظم تلك الاصدارات، فوجدتها تصدر عن عقلية إسرائيلية أو صهيونية واحدة، فالكاتب إما إسرائيلي مقرب للأجهزة الأمنية، وإما ضابط استخبارات إسرائيلي سابق، وإما كاتب غير إسرائيلي ولكنه يهودي يتلقى توجيهاته من الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، أو غير يهودي ولكنه صهيوني الفكرة والاعتقاد.

ففي خلال شهر ديسمبر الحالي، وقعت الاستخبارات الاسرائيلية في عمليتين فاشلتين، العملية الأولى هي عملية “حد السيف” حسبما أطلقت عليها المقاومة الفلسطينية والذي عرضت تفاصيله قناة الجزيرة الأحد 1/12/2019 خلال برنامج “ما خفي أعظم”، وذكر البرنامج تفاصيل تُعرض لأول مرة عن الاشتباك العنيف الذي دار بين عناصر من المقاومة مع عناصر الوحدة الاسرائيلية الخاصة، والذي بدأ بعد أن كشف القائد في المقاومة “نور بركة”  فريق الوحدة الخاصة الذي كان يتحرك ميدانياً في منطقة شرق خانيونس، بغرض زرع أجهزة تنصت على شبكة الاتصالات السلكية التي تستخدمها المقاومة كشبكة داخلية آمنة، والعملية الثانية هي عملية “سراب”، هو اسم الفيلم الذي أصدرته المقاومة مساء الثلاثاء 17/12/2019، ويروي الفيلم أحداث عملية خداع قامت بها عناصر من استخبارات المقاومة عبر توجيه “عميل مزدوج” كان يعمل لصالح المقاومة ضد رجل المخابرات الاسرائيلي “كمال”.

وفي يوم السبت 16/11/2019، كشفت الشرطة القبرصية عن ضبط سيارة يمتلكها ضابط استخبارات إسرائيلي، مجهزة بأدوات تجسس إلكتروني متطورة، تستطيع قرصنة اتصالات هاتفية في دائرة قطرها 500 متر.

يلعب العمل الاستخباري دوراً هاماً وخطيراً في مجال الصراع بين الدول، وهو بمثابة العين البصيرة للعمليات العسكرية، وفي كثير من الأحيان قد تقوم أجهزة الاستخبارات بتنفيذ عمليات “عسكرية” ولكنها محدودة وخاطفة، دون الاعلان عن هوية المنفذين، مما يمنع الحرج الشديد والتبعات المدمرة فيما لو استخدمت المواجهة العسكرية المباشر ضد الهدف المحدد، وخاصة عند اغتيال شخص “الهدف” على أراضي دولة ترتبط مع إسرائيل باتفاقات سياسية وعلاقات ديبلوماسية متبادلة.

وهذا ما برعت فيه اسرائيل، حيث كثفت عملياتها ضد قيادات المقاومة الفلسطينية بجهود استخبارية جريئة، ونال “الموساد” النصيب الأكبر في مسئوليته عن تلك العمليات، وبالتالي حظي بالنصيب الأكبر من الصورة الأسطورة عن أجهزة الاستخبارات الاسرائيلية.

مع التأكيد هنا، أن استخبارات إسرائيل نجحت في كثير من عملياتها، ولكنها فشلت فشلاً ذريعاً في عمليات أخرى، مع ملاحظة أن إسرائيل تسارع برسم صورة هوليودية مبالغ فيها عند إتمام عمليات ناجحة، وفي المقابل تتهرب من تحمّل أو تبنّي عملياتها الفاشلة.

فقد نجحت استخبارات الاحتلال في اغتيال قادة منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت وتونس، واغتيال عماد مغنية في دمشق، ومحمود المبحوح في دبي، ولكنها فشلت في اغتيال أبو حسن سلامة في بلجيكا، وخالد مشعل في عمان، ومحمد الضيف في غزة، مع ملاحظة أن عملية اغتيال “محمود المبحوح” تعتبر فاشلة حسب المعايير الاسرائيلية ذاتها، فقد تم الكشف عن هوية المنفذين، وتوترت العلاقة بين اسرائيل ودول أوروبية بسبب استخدام ضباط الموساد جوازات سفر مزورة باسم تلك الدول.

ولعل أهم انجازات المقاومة في الجانب الاستخباري ضد المخابرات الاسرائيلية تمثل في قدرة المقاومة على اخفاء الجندي الاسرائيلي “جلعاد شاليط” الذي أسرته واحتفظت به لمدة عن خمس سنوات في غزة.

وفي المقابل نجحت المقاومة الفلسطينية قديماً وحديثاً في ملاحقة عملاء الاحتلال، واستطاعت الوصول إلى ضباط استخبارات اسرائيلية وقتلهم على أيدي أشخاص حاولت اسرائيل تجنيدهم كعملاء لصالحها ضد المقاومة الفلسطينية، كما فعل الشهيد ماهر سرور عام 1993، والشهيد عبد المنعم أبو حميد عام 1994.

وبعد إذاعة فيلم “سراب”، كان لا بد من طرح السؤال: ما المقصود بالعميل المزدوج؟ وهل هذه الحالة الأولى التي تنجح فيها المقاومة من تشغيل عميل مزدوج لصالحها ضد ضباط الشاباك؟

هناك ثلاثة صور لتشغيل العميل، الحالة الأولى، يتم من خلالها تجنيد الشخص “الهدف” الذي ينتمي للمنظمة المستهدفة، وانتمائه للمنظمة ذاتها بمثابة غطاء يسهل عليه دخول الأماكن التنظيمية الحساسة، والتي يرغب ضابط المخابرات معرفة ما يجري داخلها، أو تنفيذ مهمة فيها، والحالة الثانية، وفيها يُجنّد الشخص “الهدف” غير المنتمي إلى المنظمة المستهدفة، وبعد تجنيده يتم تهيئته وتدريبه لينتسب إلى المنظمة، ويأتي ذلك بعد التأكد أنه استطاع اكتساب كافة شروط العضوية، أما الحالة الثالثة فهو “العميل المزدوج” كما أظهره في فيلم “سراب” وهي الحالة الأكثر تعقيداً وصعوبة.

تتلخص فكرة العميل المزدوج في حالة المقاومة، بأن العميل الذي حاولت مخابرات العدو تجنيده ليعمل لصالحها، تقوم المقاومة بالاتصال به وقطع الطريق على مخابرات الاحتلال، وتجنيده ليعمل لصالحها والتمثيل على رجل مخابرات الاحتلال بأنه يعمل معه ضد المقاومة، ويتم إدارة “العميل المزدوج”  كاملاً من طرف استخبارات المقاومة فيما يطلبه منه مخابرات الاحتلال، أما كيف تعرف استخبارات المقاومة بأن مخابرات العدو تعمل على تجنيد هذا “العميل” بالذات، فهذا له احتمالان، أحدهما أن يقوم “العميل” نفسه بالاتصال برجال المقاومة فيخبرهم بما جرى مع ضابط المخابرات الاسرائيلي، ويعرض موافقته بما تراه المقاومة مفيداً لها، والاحتمال الثاني فيتم تحديد هوية “العميل المرشح” من خلال جهد استخباري خاص للمقاومة، وفي الحالتين، ليس كل “عميل مرشح” للتخابر مع الاحتلال يمكن أن يتم تشغيله كعميل مزدوج، كونها عملية معقّدة وتحفّها المخاطر، وخاصة عندما يكون الطرف المقابل هو الاستخبارات الاسرائيلية ذات السمعة الأسطورية!!

فالخبرة الطويلة لضباط جهاز “الشاباك” الاسرائيلي ومعرفتهم بتفاصيل الحياة الفلسطينية، وتشربهم للثقافة المحلية من لهجات وأمثلة شعبية، وحذرهم الشديد إلى درجة الهوس من فشل العميل المرتبط معهم، يجعل من الصعب على المقاومة إدارة “العميل المزدوج”، حيث أن كل كلمة أو مهمّة تعتبر بمثابة اختبار للعميل أمام ضابط الشاباك يزيد من احتمالية كشفه.

ويمكنني التأكيد بأن حالة “العميل المزدوج” التي استعرضها فيلم “سراب” ليست الأولى في إنجاز الأجهزة الأمنية الحكومية أو استخبارات المقاومة، ولكنها الأولى التي تم كشفها بإرادة تامة من قيادة المقاومة، وهو ما يشير إلى وجود عملاء مزدوجين آخرين ما زالوا ينشطون في ميدان صراع الأدمغة ما بين المقاومة والاحتلال.

ويعتبر الاحتفاظ بالعميل المزدوج دون اكتشافه نجاحاً بحد ذاته، وابقاؤه في حالة من الخدمة والتشغيل استمراراً في نجاح التجنيد، وليس بالضرورة أن يتم الكشف عن العميل المزدوج بعد انتهاء مهامه، ويخضع الكشف عنه إلى عديد من الاعتبارات الأمنية قبل السياسية، وفي حالتنا العميل “ن”، فإن الكشف عنه جاء باختيار التوقيت فقط، وإن لم يقم ضباط المقاومة بإنهاء مهمته كما حصل بالطريقة الصادمة لرجل المخابرات، فحتماً كانت مخابرات الاحتلال ستكشف أمره بعيد أيام وليس شهور، كون الهدف النهائي من تجنيد العميل “ن” لم يتحقق، وفشل تحقيقه في الخطوة الأخيرة بعد إتمام كافة الخطوات السابقة، لا يمكن تفسيره إلا بأن العميل “ن” يتم توجيهه وإدارته من قبل استخبارات المقاومة.

وفي تقديري أن أفضل ما يمكن قوله بعد مشاهدة فيلم “سراب” و”حدّ السيف” أن للمقاومة الفلسطينية أصبح لها رواية استخبارية صادقة وقوية تتحدى الرواية الاستخبارية وتتفوق عليها في الجانب الأخلاقي وأن الحصار الخانق المفروض على قطاع غزة، وقلّة الامكانات لم تمنع المقاومة من تراكم الخبرة الأمنية ومواجهة الاحتلال في ميدانه المفضل -الاستخبارات- كما واجهته في المواجهة العسكرية المباشرة.

المصدر: موقع المجد