عندما يحّمل رياض سلامه حاكم البنك المركزي الطبقة السياسية مسؤولية تدهور الأوضاع الأقتصادية فهو على حق لأن هذه الطبقة ساهمت بجشعها واستهتارها وفسادها في استنزاف المالية العامة بحيث أصبح العجز في الموازنة، ومعها العجز في الميزان التجاري وميزان المدفوعات، ظاهرة مقيمة يصعب السيطرة عليها في ظل رفض هذه الطبقة ولوج باب الأصلاح وفي ظل القيم المتداعية التي يدين بها اطراف هذه الطبقة المرتبطين مع بعضهم البعض بشبكة مصالح تأسرهم وتجعلهم كواسرا يستعجلون سقوط الضحية للانقضاض علهيا والتهام ما تبقى منها.

ولكن اذا كان الحاكم قد أصاب نجاحاً في توصيفه لماهية الطبقة الحاكمة وإذا كان قد أتقن دوره في التمويه على أجراءاته وإغراق الآخر في مستنقع الأرقام الملتبسة والمعلومات الغامضة، إلا أنه حتى اللحظة لم ينجح في الإجابة المقنعة عن أي سؤال يتعلق بالسياسة النقدية التي يمسك بزمامها من غير شريك، بعد أن “تخلى” له كبار المسؤولين عن صلاحيات المتابعة والمراقبة التي يتمتعون بها وأطلقوا يده في قيادة العمل المصرفي عبر تعطيل دور المجلس المركزي ودور مفوض الحكومة لدى البنك المركزي وصولاً إلى تعطيل قانون النقد والتسليف نفسه.

ومقابل النجاحات الدعائية التي أحرزها ” الحاكم” بالأستناد إلى شبكة واسعة متغلغلة في كل القطاعات ومستفيدة من “تقديماته” الباذخة (تسليفات بفوائد متدنية للمحظوظين أفراداً ومؤسسات، توظيفات أبناء وأقرباء النافذين، أغداق الرواتب والمخصصات الخيالية، أستئجار خدمات إعلامية وأعتماد أسلوب العلاقات العامة) فشل الحاكم  في تبرير الخطوات الكبرى التي أتخذها خلال السنوات الماضية في مجال السياسة النقدية وأدارة  الشأن المصرفي فأجتمعت أخطاؤه مع أخطاء المسؤولين عن السياسة المالية العامة لتسفر عن أزمة ضارية تضرب الأقتصاد الوطني وتقتات على مدخرات الناس وتنال من سمعة لبنان وأقتصاده ومصارفه وسط أنكار مشبوه لاصحاب الشأن الذين يراوغون ويماطلون ويتقاذفون التهم دون أن يرف لهم جفن.

وبالحديث عن الودائع المحتجزة  بأمر من جمعية المصارف وموافقة كلية من البنك المركزي فلا يمكن لأحد التكهن بما يمكن أن يترتب عن هذا الأجراء الذي قض مضاجع المودعين الذين يشعرون بغضبة عارمة تجاه من أمطرهم بالوعود وأوحى لهم بالثقة من خلال منظومة أعلامية محلية وخارجية تعرف التلاعب بالحقيقة وألقاء الأضواء الساطعة على براعة الحاكم ومتانة القطاع.

وإذا كانت الغضبة قد تجلت حتى الأن برفع الصوت والوقفات الاحتجاجية وبعض الحوادث الفردية ومنها ما حصل مؤخراً في باحة البنك المركزي وشارع الحمراء فإن الأمر حتما  سيتفاقم عند أشتداد الأزمة وتردي الخدمات المصرفية والطبية وفقدان بعض السلع المهمة من الأسواق والعجز عن شراء المواد الغذائية او دفع الايجارات والاقساط المدرسية وسواها من الامور الضاغطة التي تزيد من نقمة جمهور مقهور يعضه الجوع ويستبد به القلق.

واذا كانت السلطة الحاكمة تواجه الواقع بالارتباك والأنكار فأن الحاكم بتوجه الأن من خلال الاعلام إلى مخاطبة الجمهور لطمأنته مرة أخرى ورمي كرة النار في ملعب الجناح الآخر من السلطة ، مذكراً الناس  بأن الأحتيال والفساد يساهمان في تعطيل النمو الاقتصادي وكأن الناس التي أكتوت بنار الأحتيال والفساد بحاجة إلى معلومة جديدة في هذا المضمار. لا بل أن الحاكم يكاد يدخل البلاد في دوامة جديدة عندما يطلب صلاحيات استثنائية من أركان الدولة لتشريع عمليات السطو على ودائع الناس تحت عناوين مختلفة مع علمه بأن الأمر يحتاج الى قانون أو تعديل في الدستور لتغطية هذا الأمر الخطير الذي يغير من طبيعة النظام الأقتصادي الحر. هذا مع العلم بأن العمليات المصرفية الأخيرة إقتطعت نسبة مهمة من الفوائد المصرفية وتضمنت نقضاً للأتفاق بين المصرف والمودع  بالدولار عندما أرغمت هذا المودع على قبض نصف فوائده المستحقة بالعملة اللبنانية وعلى أساس السعر الرسمي مما رتب عليه خسارة مفاجئة.

ولعل أخطر ما جاء في كتاب الحاكم إلى وزير المال طلباً للصلاحيات الاستثنائية قوله : ” إن تطبيق بعض القيود على العمليات المصرفية أدى إلى أجحاف بحقوق العملاء ولا سيما لجهة المقاربة  غير المتساوية مع عملاء آخرين .”

فهو هنا يعترف صراحة بأن أجراءات المصارف لم تكن عادلة ومتساوية تجاه الجميع، بل أنها ميزت بين أصحاب الودائع فحرمت البعض من بعض حقوقه في السحب والتحويل فيما سهلت الأمر لأخرين من سياسيين ومتمولين ومساهمين، مما يعرّض بعض أصحاب المصارف ومديريها للمساءلة والملاحقة القضائية، وهذا ما يجب ان يحصل بالفعل لأن تغييب العدالة يؤدي الى انتشار الجريمة.

ولكن الحاكم إذ يطلب هذه الصلاحيات الاستثنائية دون أن يحدد تماماً ماهية هذه الصلاحيات وسقفها ومداها الزمني، فأنه حتى الآن لم يبادر من موقعه الرسمي الى مساءلة أصحاب هذا الإجحاف وهذا التفاوت في معاملة المودعين وكأن الذي يحتجز أموال الناس ويميز بينهم ويتلكأ في استعادة الأموال المنهوبة ويماطل في زيادة رأسمال المصارف هم مجرد أشباح لا تشملهم  المساءلة أسوة بالذين أستفادوا بغير وجه حق من الفوائد الفلكية ودمج المصارف فضلا عن الهندسات المالية التي كلفت الخزينة ما يقارب العشرة مليار دولار – وهو مبلغ كبير قادر اليوم لو وجد بيد البنك المركزي أن يحتوي أزمة السيولة التي تسمم الوضع الاقتصادي برمته.

والحاكم هنا عبر كتابه يعرف تماماً عما يتكلم  فثمة مجموعات استفادت من التمييز الذي يتحدث عنه في التعميم ومن واجبه إذا أراد إستعادة الثقة بالقطاع المصرفي الغاء هذا التمييز واسترداد الأموال التي خرجت بقوة النفوذ، وإلا كان كمن يكرر تجربة الوسيط الأمريكي الشهير برنارد مادوف الذي هدر 50 مليار دولار دون أي أحساس بالمسؤولية..

إن حل هذه  الأشكالية أمر لا بد منه قبل الانتقال الى خطوة أخرى. وإذا كان هدف التعميم تغطية الذين خالفوا بالتعاون مع متواطئين في القطاع المصرفي فهو مرفوض جملة وتفصيلاً، أما اذا كان هدفه تعميم المساواة وتأمين حاجات الناس تدريجاً فامر يمكن البحث فيه من زاوية ايجابية. لكن الاشكالية الأخرى التي ينبغي للمراجع المختصة البحث فيها أيضاً فهي المتعلقة بالصيارفة لجهة بروز سعر واقعي جديد ومرتفع للدولار، وهذا أمر ما كان له أن يحدث لولا تواطؤ البعض ممن نهبوا المال العام وأصبحوا قادرين على إنزال العملة الأجنبية إلى السوق بمقادير مدروسة  تكفل لهم تحقيق أرباح هائلة  على حساب الناس ولا سيما الفقراء منهم، وكل ذلك في مرحلة تعاني فيها البلاد من شح السيولة وتفكك السلطة وتلاشي الأمل. وإذا كان الحاكم مصراً على التعامل مع هذه الظاهرة كما فعل بالأمس فمعنى ذلك أن لا إرادة معلنة للتصحيح وأنما المضي في السيناريو الحالي الذي يستفيد  منه نفس الذين استنزفوا الدولة في الماضي.

 

 

المصدر: بشارة مرهج - رأي اليوم