"إننا إن لم نؤرّخ لهؤلاء الأبطال فسوف يحوّلهم الكتبة المزوّرون مع مرور الزمن إلى قطّاع طرق" عبارة ذكرها سماحة السيد حسن نصر الله قبل سنوات متحدّثًا بمحفل من الأسيرات المحرّرات وزوجات الأسرى والشهداء، وأضاف: "نحن محتاجون لأن نعرّف أجيالنا الكثير من نماذج أمهات وزوجات الشهداء والأسيرات اللواتي هنّ قدوة ونعمة فيما بيننا".

 

كان يستشرف سماحته المستقبل القريب، في حال أي تقصير في التوثيق وقطع الطريق على المعرفة للأجيال التي ربما لم تكن قد ولدت في زمن الاحتلال ولم يتسنّ لها معرفة ما اقترفه هذا العميل أو ذاك. 
في شهر أيلول 2019 قمت بجمع شهادات من بعض الأسرى المحرّرين والأسيرات المحرّرات إثر إعلان خبر وصول العميل عامر فاخوري إلى الأراضي اللبنانية، لم أنشرها آنذاك، كان المرتجى المزيد من المقابلات المعمّقة لتشكّل كتابًا في التأريخ الشفوي على لسان أسرى وأسيرات (لا زالوا على قيد الحياة ولا زالت جراهم حيّة) حول جزار الخيام عامر الفاخوري وغيره من العملاء. 
وإن كنا نواجه مشكلة لدى مقابلتنا هؤلاء الأحرار نظرًا لحساسيّة الحفر في الذاكرة أولاً، والخجل أو التحفّظ من ذكر بعض التفاصيل ثانيًا، وثالثًا والأهم وليس آخرًا، أن كثيرين منهم ومنهن يعتبر أنّ الإدلاء بحديث التضحيات خيانة للنبل أو طعن بخلوص العمل وإخلاصه، لأن ما قدموه إنّما قدّم لوجهه، لوجه الله، فلم يدلوا أو لم يسجلوا ما ارتكبه بحقهم هذا العميل وغيره من العملاء وبالتالي لم يتسن لكثيرين معرفة تاريخه.

 

وقع كلمة سماحة السيّد على جمهوره ومحبّيه أمس شكّل الدافع الأوّل لهذه الخطوة وتحديدًا العبارة التي تألّمنا جميعًا لدى سماعها والتي، ولمن يتتبّع خطابات "نصر الله" ويقوم بتحليل مضامينها، يدرك أن سماحته لا يستخدمها إلاّ في المواضيع الحساسّة جدًا: "من نكد الدهر!".
وبعيدًا عن الأبعاد والأسباب المتعددة لعبارة سماحته، ونظرًا لأن حفظ الذاكرة الجماعية للتضحيات والاعتداءات والوجع وحمايتها واجب وطني، تاريخي وثقافيّ، وأحد أهم متاريس الحرب، ولأننا أمام هذا العنف التواصلي والمعلوماتي اليومي نعيش حرب ذاكرة يعمل البعض على تحريفها وتدميرها أو إفراغها من أبعادها، فلا بدّ من التذكير والتعريف والكشف دومًا عن الحقائق، قررت نشر بعض تلك الشهادات على أمل أن تكون هذه الخطوة مقدّمة لخطوات لاحقة أكثر عمقًا وشموليّة.

لمن لا يعرف الفاخوري، هل تعرف حيدر؟

 

والدة الأسير الشهيد حيدر الغول: خسرت ابني بسببه، أنا أمشي على العكّاز منذ شهادة ابني!
 "أعتذر منك يا ابنتي لا يمكنني الإدلاء بتصريح لأنني عند الطبيب"، اعتذرت والدة الأسير الشهيد حيدر الغول في بداية اتصالنا عن عدم الإدلاء بأي تصريح إعلامي، فلا كلام يلخّص الألم والمعاناة التي لا تزال تعاني منها: "كل ما سأقوله قليل، أنا أتابع الأخبار هذين اليومين وسأدلي بكلامي غدًا في المعتقل إن شاء الله".
السيّدة سهيلة الغول التي استشهد ابنها الإعلاميّ السابق في قناة المنار بعد مدّة من الإفراج عنه، إثر إصابته بمرض عضال في رأسه متأثرًا بالتعذيب في المعتقل، تلخّص موقفها إزاء قضيّة المسؤول العسكري لمعتقل الخيام عامر فاخوري بالقول: "ابني ربّيته يتيمًا من عمر ستّ سنوات، أخذوه من حضني واعتقلوه عندما بلغ السبعة عشر عامًا، ولم أره إلا بعد ستّ سنوات من الاعتقال، عندما خرج  بفعل عمليّة تبادل لدفعة من المرضى، لم أعرف كيف كبر بعيدًا عنّي"، مضيفة "ثم درس الإعلام وعمل في قناة المنار حتى استفحل به المرض الذي أصابه في المعتقل وقضى شهيدًا". وتختم والدة الأسير السابق والشهيد حيدر الغول بالقول: "تدهور وضعي الصحيّ منذ يومين حين سمعت بخبر التساهل بحق العميل فاخوري، لأن الأحكام لا تتناسب مع حجم الجرائم التي ارتكبها، أنا خسرت ابني بسببه، أنا حاليًا على العكّاز منذ شهادة ابني..".

الشهيد الغول كان أحد الأسرى الذين تمّ التنكيل بهم إثر الانتفاضة التي قام بها الأسرى في معتقل الخيام عام 1989، والتي أعطى فيها الفاخوري الأوامر برمي القنابل داخل الزنازين والتعذيب الوحشيّ بعدها لبعض المعتقلين كان من بينهم الغول الذي استدعت حالته بعد التعذيب نقله إلى المستشفى. "بعد التنكيل بنا أعادوني إلى الزنزانة فوجدت حسن عسيلي وعامر الخالد ولكن حيدر لم يأتِ. خشينا عليه أن يكون قد قضى تحت التعذيب لأنه كان يعاني من مشاكل صحّية نتيجة اعتقاله. انتظرنا ثلاثة أيّام حتى عاد، كان جسده لا يزال متورّماً وآثار الكدمات والبقع على كلّ جسده. أخبرنا عندها أنه تمّ نقله إلى المستشفى بعد تعذيبه". يقول الأسير المحرّر محمّد صالح (اعتقل من أيلول 1985إلى تمّوز 1996).

 

الأسير المحرّر محمّد ضاوي: فاخوري كان الآمر الناهي
بدوره، يوضّح الأسير المحرّر محمّد ضاوي أن عامر الفاخوري كان المسؤول العسكري واللوجستي: "كان الآمر الناهي والمتحكّم بكل مواردنا: الطبابة والاستشفاء، سياسات التجويع، أوامر التعذيب، أما المدعو جان الحمصي (أبو نبيل) فكان المسؤول الأمني للمعتقل"، مؤكدًا أن مقتل الأسيرين بلال السلمان وإبراهيم أبو العزّ أثناء الانتفاضة جاء بناء على أوامر فاخوري برمي القنابل داخل الزنازين.

 

الأسير المحرّر أحمد نصر الله: هل تريد أن تكون القتيل العشرين؟
 من جهتها تؤكّد الأسيرة المحرّرة فريدة رسلان (اعتقلت من العام 1987 إلى 1994) أن الفاخوري"كان المرافق الأساسي للإسرائيلي أثناء عملية اقتحام الزنازين للتفتيش الفجائي"، مشيرة إلى أنها شاهدته عدّة مرّات، لا سيّما عقب حادثة هروب أحد المعتقلين حيث حضر فجرًا لتفتيش المعتقل.
بدوره ينقل زوجها الأسير المحرّر أحمد نصر الله (اعتقل من العام 1992إلى 1996) ما قاله الفاخوري لأحد المعتقلين مهدّدًا: "لقد قتلت تسعة عشر شخصًا حتى الآن، وبإمكاني أن أقتلك وتكون أنت العشرين!"

 

الأسير المحرّر محمّد صالح: بإمكاني قتلك وإخفاؤك!
"أخرجونا من الغرف إلى باحة الشمس بعد إصابتنا بحالات اختناق أثناء انتفاضة 1989، وأخذ يهدّدنا الفاخوري بالقتل بعد أن أتهمنا أنا وزملائي بالغرفة عن مسؤوليتنا عن هذه الانتفاضة التي جاءت نتيجة الإهمال الصحيّ والتقصير بالاستشفاء والطبابة، بالإضافة إلى سياسات التجويع التي كان يعتمدها من خلال مصادرته بعض الأطعمة وبيعها في الأسواق" يقول الأسير المحرّر محمّد صالح مردفًا: "عندها أضربنا عن الطعام أربعة أيام، فداهم فاخوري الزنزانة وأخرجنا أنا وزملائي منها وقام بتعذيب كلّ منّا على حدة تعذيبًا مبرحًا، بحيث تكالب على كل واحد منّا أكثر من خمسة عناصر من "شرطة" المعتقل وكانوا يستخدمون العصا التي تستخدم عادة في كل المعتقلات في العالم، ولدى إعادتي إلى زنزانتي جاء فاخوري وهو يضحك ويتكلّم معي بشماتة، فأجبته أنني معتقل الآن ولو كنت في الخارج لكان لي معك تصرّف آخر، فدخل عندها الزنزانة وجلس قربي القرفصاء معتبرًا كلامي تهديدًا له، وقال: "
نحن هنا سلطة الأمر الواقع، بإمكاني قتلك وإخفاء أثرك، فأجبته إن قتلتني هنا لن تستطيع تحمّل ردّة فعل المقاومة في الخارج!".

 

عندما سقط القناع عن وجهي أثناء التعذيب رأيته!
صالح قال إن الفاخوري كان عادة يكتفي بإعطاء الأوامر بالتعذيب، ولفت إلى أنه شارك في تعذيبه وجلده شخصيًا: "عندما سقط القناع عن وجهي أثناء التعذيب رأيت الفاخوري مشاركًا بالعملية" موضّحًا: "ربما لذلك تبعني إلى الزنزانة محاولاً التورية عمّا فعله". كما أشار صالح إلى أن الفاخوري كان مسؤولاً عن العسكر في المعتقل من العام 1985 إلى العام 1987، وتم تكليفه عام 1988 من قبل المخابرات الإسرائيليّة بإدارة شؤون المعتقل من الداخل. 
 
الأسيرة المحرّرة سكنة بزّي: كان يعمل وراء الكواليس
من جهتها، تصف الأسيرة المحرّرة سكنة بزّي (اعتقلت من العام 1988 إلى 1991) وزوجة الأسير المحرّر علي أيوب (الذي اعتقل عشر سنوات في معتقل الخيام: من العام 85 إلى العام 95)  الفاخوري "بالرجل الذي كان يعمل وراء الكواليس وخلف الأضواء غالبًا" موضحة أن احتكاكه غالبًا كان مع بعض الأسرى الذين كانوا يعملون بـ"الكلفة" والمطبخ الذين عذّبهم بيديه، ومنهم من عذّبهم داخل وخارج الزنزانة كالأسير المحرّر حسن عسيلي، والأسيرين المحرّرين علي درويش وعمر الخالد، بالإضافة إلى الأسير الشهيد حيدر الغول، وكل من الأسير محمّد ضاوي (شاهد على أساليب تعذيب الفاخوري) ومحمّد صالح.

 

الأسيرة المحرّرة رسميّة جابر: العميل لا هويّة له ولا وطن
بدورها الأسيرة المحرّرة رسميّة جابر ذكرت أنه حين تمّت المطالبة بالإفراج عن عوائل المعتقلين لم نعترض "أما السماح للعملاء بالعودة إلى ربوع الوطن فلا، لأن العميل لا هويّة له ولا وطن ولا نرضى لهم بالعيش في هذه الأرض"، مناشدة رئيس الجموريّة "عدم السماح للذي باع وطنه وأرضه بالدخول إليها وتدنيسها بعد أن تمّ تطهيرها بدم شهداء الوطن وعذابات الأسرى وآلام الجرحى".

 

الأسيرة المحرّرة فريدة رسلان: لولا وجودهم لما تمكّن الإسرائيلي من البقاء
الأسيرة المحرّة فريدة رسلان تمنّت القيام بعمل جدّي لمحاكمة الذين كانوا أكياس رمل لحماية العدو والتنكيل بنا وبشعبنا، وهم المسؤولون عن كل الجرائم في تلك الحقبة، "فلولا وجودهم لما تمكّن الإسرائيلي من البقاء في أرضنا آنذاك"، مطالبة الدولة بأن تحكم بالعدل، وأن تأخذ العدالة مجراها بحقّه وبحق جميع العملاء.

 

حسنًا، لم تأخذ العدالة مجراها في لبنان، لكن سماحته أكّد أمس أن قضيّة الفاخوري لم تنته، وستتم متابعتها قضائيًا بصفته مطلوبًا وهاربًا من العدالة وفتح تحقيق في قرار المحكمة العسكريّة الذي اتخذ بإجماع أعضائها بإطلاق الفاخوري. 
لم تأخذ العدالة مجراها في لبنان نعم، ولكن من يؤمن بالسنن التاريخيّة يعلم جيّدًا أن العدالة الإلهيّة لا يمكن أن تغفل عن حقوق المظلومين والمستضعفين، "ما ضاع حقّ وراءه مطالب" سننتظر، "إنّ غدًا لناظره قريب".

المصدر: خاص الرافد