رغم كونها من أكثر الدول مرورا بالأزمات عبر التاريخ، إلا أن الكارثة الصحية الأخيرة التي حلت بالصين منذ بدء تفشي فيروس الكورونا في شهر ديسمبر من العام 2019 تعد الأسوأ في تاريخ الأمة الصينية على الإطلاق. فقد فاق الوباء كل التوقعات من حيث سرعة انتقال العدوى وقدرته على التفشي على نطاق جغرافي واسع في غضون أيام قليلة، مما تسبب في خلل تام في مفاصل الحكومة الصينية التي كانت عاجزة في بداية الأمر عن احتواء الجائحة.
ومنذ انفجار تلك الأزمة، قامت الحكومة الصينية بالتعاون مع الحزب الشيوعي الصيني باتخاذ وتطبيق مجموعة من الإجراءات والتدابير الحازمة في محاولة منهما للسيطرة على نطاق نفشي المرض. فقد ارتكزت الرؤية والأهداف الصينية على حماية حياة المواطنين المقيمين، والوافدين، والعمل على الحفاظ على صحة البشرية بوجه عام والحد من انتقال الفيروس القاتل إلى باقي أجزاء العالم. وبالتالي فقد خاضت الصين معركة ضارية فيما يمكن ان نطلق عليه الحرب الصينية الجديدة 2020.
ويمكن القول بأن الحرب الصينية للقضاء على الوباء قد تمت على مراحل، أولا فقد بدأت المعركة الصينية تحت قيادة الرئيس الصيني شي جين بينغ الذي عمل على تسخير كافة جهود الدولة والحزب الشيوعي والجيش الوطني من أجل مقاومة الوباء القاتل، بل وإشراك الشعب أيضا في تلك المعركة الفاصلة من خلال فرض مجموعة من القيود الصارمة على المواطنين وإلزامهم البقاء داخل منازلهم والإخلاء التام لشوارع المدن التي تفشى فيها المرض على نطاق واسع. وقد أثبت الشعب الصيني للعالم أجمع قدرته على خوض تلك الملحمة الوطنية بجدارة، فقد كان لشجاعة المواطنين وثقتهم التامة في حكومتهم دورا بارزا في إنجاح تلك المهمة الصعبة والتي تعد الأولى من نوعها في تاريخ الأمة الصينية.
وثانيا، قام الرئيس الصيني بتشكيل وكالة فرعية خاصة تابعة للقيادة المركزية بالحزب الشيوعي ، والتي عمدت إلى تشكيل فريق يضم مسئولين من نحو 30 وزارة حكومية وإرساله فورا إلى مدينة ووهان التابعة لمقاطعة هوبي –حيث البؤرة الأولى لتفشي المرض- بهدف جمع المعلومات اللازمة واتخاذ القرارات القاطعة في التو واللحظة. وقد تم نشر أعضاء الفريق الجديد في جميع أنحاء المدينة للعمل على احتواء الأزمة وبث روح الثقة لدى المواطنين في قدرة الدولة على إنقاذهم من الأزمة الراهنة.
ثالثا، ارتكزت مهمة الوكالة في الأساس إلى السيطرة على تفشي العدوي والقضاء التام على مسار انتقال المرض وذلك من خلال إعلان حالة الطوارئ في جميع المقاطعات الصينية واحدة تلو الأخرى، واتخاذ بعض التدابير الحاسمة التي شملت إغلاق المدارس وخفض ساعات العمل وتقنين الأنشطة الاقتصادية وحركة الأسواق، مع الحث الدائم للمواطنين على البقاء في منازلهم. وقد ساعدت استجابة المواطنين للقرارات الحكومية على الحد من مستويات انتقال العدوى.
رابعا، العمل على التعبئة العامة والحشد في القطاع الصحي وإلزام المقاطعات الصينية الأخرى بتقديم الدعم إلى المقاطعة المنكوبة “هوبي” وتحديدا مدينة ووهان. فقد تم تجنيد أكثر من 41 ألف من العاملين في المجالات الطبية المختلفة للعمل ليلا ونهارا في المستشفيات الميدانية التي تم إنشائها بسرعة البرق في ووهان لاستقبال وعلاج آلاف الحالات المصابة. كما تمثلت المهمة القومية الأولى للدولة في توفير المستلزمات الطبية والأدوية اللازمة لعلاج المرضى مما ساعد على رفع معدلات الشفاء والسيطرة لحظة بلحظة على معدل انتقال العدوى.
خامسا، الحشد الكامل لكافة الفرق الطبية والبحثية والتقنية من أجل احتواء الأزمة، حيث ركز الأطباء على التشخيص المبكر للأعراض وعزل المصابين وفرض الحجر الصحي على جهات الاتصال القريبة منهم، وتكريس الجهود البحثية والتقنية في سبيل التوصل إلى علاجات فاعلة وأمصال واقية ضد الفيروس الجديد، والعمل على رفع معدلات الشفاء وخفض نسبة الوفيات، في ملحمة وطنية رائعة أشادت بها منظمة الصحة العالمية.
سادسا، تم تطبيق نهج شمولي لتحقيق التنسيق بين الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية وتسخيرها لخدمة مهمة القضاء على الوباء، حيث تم إعداد خطة فورية توضح آليات تعافي الاقتصاد الوطني بعد الأزمة الصحية الطارئة. وركزت الخطة على أن المقاطعات الأقل تضررا من الوباء يجب عليها المساهمة بصورة تامة في أعمال التنمية الشاملة واستعادة النشاط، تأتي بعدها المقاطعات الأكثر تضررا نسبيا وهكذا، بينما يتعين على المناطق التي عصف بها الوباء كليا التركيز على النواحي الصحية والاستمرار في السيطرة على نطاق تفشي المرض.
كما وضعت مخططات لتعويض الأنشطة الاقتصادية والشركات التي تضررت خلال الفترة الماضية والحفاظ على القوى العاملة، إلى جانب إقرار سياسات ناجزة لجذب الاستثمارات الأجنبية وإعادة الحركة إلى الأسواق. وبالفعل تمكنت الصين من استعادة عافيتها اقتصاديا بنسبة كبيرة بعد السيطرة على وباء الكورونا حتى باتت بعض المصانع والشركات تعمل بكامل طاقتها الإنتاجية. فالقواعد الصينية لتحقيق التنمية المستدامة قد برهنت على قدرة تلك الدولة على العبور الآمن من الأزمات.
سابعا، تحقيق أعلى درجات التنسيق والتعاون مع الدول الأخرى للحد من انتشار الفيروس، حيث حرصت الصين على مشاركة المعلومات والبيانات الهامة مع منظمة الصحة العالمية وتقديم المساعدات للبلدان الأخرى التي تضررت من الوباء، من حيث تزويدها بأجهزة للكشف عن المصابين، والبدل الواقية، والقناعات، وأجهزة التنفس الصناعي وغيرها من التجهيزات الطبية اللازمة لإدارة الأزمة. فقد ارتكزت الرؤية الصينية في مكافحة الكورونا في الأساس إلى “الحفاظ على صحة العالم”.
ويمكن القول بأن الصين قد تمكنت من الفوز في تلك المعركة الضارية ضد عدو خفي بفضل تضافر الجهود الوطنية وتوحيد الصفوف الداخلية، مما ساهم بصورة واضحة في خفض معدلات الإصابات من 10 آلاف حالة خلال ذروة الأزمة إلى أقل من 100 شخص فقط مما يعد إنجازا غير مسبوق، وبالنسبة للمقاطعات الأخرى بخلاف هوبي، فقد انخفضت الأعداد المصابة بنسبة كبيرة وارتفعت مؤشرات التعافي حتى أن أكثر من 70% ممن كانوا مصابين تم السماح لهم بمغادرة المستشفيات.
لقد أشاد العالم أجمع بالتجربة الصينية في حربها ضد الكورونا، وأقر القادة السياسيين في شتى الدول بنجاح الرئيس الصيني في إحتواء الأزمة مما أعاد الجدل حول قدرة الكيان الشيوعي الأول في العالم على إنقاذ دولته من الانهيار. وقد أعلن المدير العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غيبريسوس إن “الصين قد نجحت في إنقاذ العالم”.
لقد لقن وباء الكورونا العالم برمته درسا لا ينسى، تعلمت الأمم والشعوب والأحزاب السياسية أن عصر العولمة الذي نحيا فيه الآن يفرض علينا المزيد من التعاون والمؤازرة وأن الأزمات التي تمر بها دولة ما يتردد صداها في البلدان الأخرى. وبالتالي فلا مجال للحديث عن أن أمة قد تنجو بنفسها فقط في حال وقوع أزمات عالمية. فالتحديات الكبرى والأوبئة القاتلة لا تعرف الحدود بل تعمم أحكامها على الجميع. فالمصير الموحد لهذا العالم المتشابك قد بات مرهونا بتوحيد الصفوف وتحقيق سبل التفاهم الدولي مما يسهم في التغلب على الأزمات وإقرار السلام العالمي والتنمية الشاملة.