تأسس صندوق النقد الدولي، الى جانب البنك الدولي، في نهاية الحرب العالمية الثانية، كمؤسستين تابعتين لهيئة الامم المتحدة. والأهداف المعلنة لانشاء الصندوق هي مراقبة حسن سير الدورة المالية العالمية، وعدم حدوث الخلل والاضطراب في اسواق صرف وتبادل العملات، ومساعدة البلدان الضعيفة والمتضررة من الحرب في تحقيق نهضتها المالية والاقتصادية. وساهمت في تأسيس الصندوق 44 دولة منها روسيا والصين. ويجري اتخاذ القرارات بالتصويت في مجلس ادارة الصندوق بموجب حصة مساهمة كل دولة في الرأسمال التأسيسي. وتملك اميركا اكبر حصة مساهمة بنسبة تبلغ حوالى 18 %. ويقع مركز الصندوق في واشنطن بأميركا.

ولكن التجربة الملموسة أثبتت أن الأهداف المعلنة هي شيء، والواقع شيء آخر تماما. فطوال الـ70 سنة المنصرمة استخدمت الولايات المتحدة الاميركية الصندوق من أجل فرض هيمنتها على الدورة المالية العالمية، وتأمين مصالحها على حساب مصالح جميع الدول الاخرى، وتخريب اقتصادات شتى الدول وتحويلها الى مستعمرات مالية لها.

ولتحقيق غاياتها تمتلك الولايات المتحدة من وراء الستار وامامه، ليس فقط السيطرة على الدولار وحركته، بل وعلى آليات عمل مرتبطة بصندوق النقد الدولي.

كيف تقوم المؤسسات الدولية بالتدخل في الشؤون الداخلية للدول الاخرى؟

بأية طرق تقوم المؤسسات المالية بالتلاعب بمقدرات اي دولة اجنبية؟

ما هو الدور الفعلي لصندوق النقد الدولي في الجيوسياسة الدولية؟

مثل هذه الاسئلة ينبغي لكل مراقب ومحلل موضوعي أن يجيب عليها. وليكون من الواضح عن أي مصالح يدافع صندوق النقد الدولي، ينبغي الاعتراف انه يدافع عن المصالح الاميركية.

والبنية الداخلية للصندوق مغطاة بستار ديمقراطي في الشكل. ولكنها مبنية بطريقة تؤمن السيطرة الكاملة لاميركا على قرارات وخطة عمل مجلس ادارة الصندوق. ويمكن تشبيه آلية عمل الصندوق بـ"الفيروس المالي القاتل".

ونشير بالاخص الى ما يمكن تسميته "القتلة الاقتصاديين". وهؤلاء هم مجموعة من الخبراء التابعين لصندوق النقد الدولي. وبالشكل هم يمثلون الصندوق كمؤسسة. ولكن في الواقع هم خاضعون تماما للمصالح المالية لاميركا، وتقوم مهمتهم على مراقبة كيف تنفذ شروط المقرضين في كل دولة تتلقى قرضا.

ويقوم هؤلاء "القتلة" برشوة الحكام والمسؤولين في الدولة المرشحة للحصول على قرض، ويطالبونهم بالمقابل بتنفيذ بعض الشروط، كخصخصة قطاعات حيوية معينة، والحصول على تراخيص زراعية كبيرة، وتراخيص انشاء سلسلة مطاعم كبرى ومخازن كبرى او ما يسمى "مولات".

وبموجب هذه التراخيص تتغلغل الشركات الاحتكارية الاميركية في اقتصاد البلد المعين، وتقوم بزراعة الانواع المعدلة وراثيا، الضارة بالصحة ولكن الادنى تكلفة وتكتسح السوق المحلية بالاسعار الرخيصة وتقضي على الانتاج الزراعي الوطني الطبيعي. اما المطاعم والمخازن الكبرى الجديدة فإنها تعتمد سياسة تقديم الخدمات وبيع السلع بأسعار رخيصة حتى تقضي على المنتوجات الوطنية، ومن ثم تعمد الى التحكم بالاسعار كما تشاء. كما يقترح هؤلاء الخبراء - القتلة - فتح فرع لبنك اميركي محدد (JPMorgan مثلا) ومن ثم ستكون مسألة القرض محلولة. ومعلوم انه يعمل في بنك JPMorgan اكثر من 250 الف موظف في كافة ارجاء العالم، ويبلغ رأسماله مئات مليارات الدولارات. وبمجيئه الى البلد المعين يعمل البنك الاميركي JPMorgan (او غيره) على تخفيض قيمة خدماته البنكية، عاملا حتى بخسارة، مما يؤدي الى زعزعة وافلاس البنوك الوطنية لذلك البلد، واضطرارها للخضوع للبنك الاميركي و"التنسيق" معه، ومن ثم السيطرة الاميركية التامة على الدورة المالية في البلد الحاصل على القرض.

وبكلمات مختصرة فإن صندوق النقد الدولي، وطبعا الى جانبه البنك الدولي، يعملان بطريقة تهدف الى ابقاء 1% من سكان العالم يحوزون موارد تعادل وتفوق ملكية الـ99% من سكان الكرة الارضية.

وبالطبع ان الدول والبلدان التي تتحدى هذا النظام الغربي العالمي الظالم، والتي ترفض الخضوع للقواعد المعمول بها بموجب هذا النظام، يتم شيطنتها والاعلان عنها أنها عدوة للاستقرار والسلم والدمقراطية. وهذا هو في المرحلة الراهنة وضع روسيا وايران والصين وفينزويلا وكوبا وكوريا الشمالية.

وتجدر الاشارة انه في تسعينيات القرن الماضي، بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، وقعت الفيديرالية الروسية في براثن نظام القروض الاجنبية، وسيطر الاوليغارشيون الفاسدون واليهود المرتبطون بالغرب على قطاع البنوك والاعلام وشبكة التجارة، وتغلغلوا في قطاع النفط والغاز والصناعة المنجمية، ونشأ خطر القضاء التام على الزراعة الوطنية والصناعة ولا سيما المجمع الصناعي الحربي، ومن ثم القضاء على الجيش الروسي بطريقة "القتل الاقتصادي"، والقي ملايين المزارعين والحرفيين والعمال في الشوارع، ولاحت في الافق مخاطر مجاعة حقيقية.

ولكن مع صعود النهضة القومية ـ الروسية الجديدة، ومجيء بوتين الى السلطة، بدأت روسيا في الصراع القاسي للخروج من هذه الازمة المصيرية، فتم ضرب الاوليغارشية واليهود الروس الموالين للغرب، ووضعت روسيا الجديدة نصب عينيها هدف التخلص من القروض الاجنبية، واحتاجت لحوالى 10 ـ 15 سنة لتحقيق هذا الهدف. وكان المقرضون الاجانب يتحايلون ويتلكؤون في الحصول على قروضهم. وقد نشأ في تلك الفترة ـ وخاصة ابان الازمة مع جورجيا والازمة الاولى مع اوكرانيا في 2008  ـ نشأ خطر تدخل عسكري اميركي ـ ناتوي ضد روسيا. ولكن روسيا نفضت الغبار عن الصواريخ والاسلحة النووية الموروثة من العهد السوفياتي وهددت بشن هجوم نووي معاكس وشامل، ضد اي اعتداء على الاراضي الروسية.

ومع استتباب الأمر للسلطة القومية الروسية الجديدة بقيادة بوتين، بدأت روسيا ـ بالتعاون الوثيق مع الصين الشعبية والجمهورية الاسلامية الايرانية ـ المعركة الطويلة لنزع الدولرة عن الاقتصاد العالمي، وقد بدأت تتحقق نتائج كبرى على هذا الصعيد.

والان يشهد العالم معركتين: الاولى المعركة ضد فيروس كورونا، والثانية المعركة الاقتصادية الكبرى لتحرير قطاع النفط العالمي من سيطرة الاحتكارات الاميركية، خصوصا بواسطة تابعها الذليل: المملكة السعودية البن سلمانية، التي عمدت الى تخفيض اسعار النفط لاجبار روسيا على خفض انتاجها. ولكن روسيا رفضت بشدة تخفيض انتاجها. ويقول الخبراء ان روسيا اكثر قدرة من السعودية وزعانفها الخليجية على تخفيض اسعار النفط لان الاقتصاد الروسي لا يرتبط بالنفط والغاز فقط بل هو اقتصاد متكامل صناعي ـ زراعي ـ خاماتي. وفي هذه المعركة تتعاون روسيا تعاونا وثيقا مع الجمهورية الاسلامية الايرانية ومع الصين الشعبية: اكبر مستورد للنفط والغاز في العالم.

هما معركتان اذاً: معركة التخلص من فيروس كورونا؛ ومعركة التخلص من فيروس ترامب، الذي يمثل تماما نظام الهيمنة المالية والاقتصادية لاميركا.

 

المصدر: جورج حداد - موقع العهد