بعد تجاهل له استمر طويلا خلال مرحلة اجتياحه لدولة الصين، أعربت البلدان الأوروبية مؤخرا عن قلقها البالغ إزاء فيروس كورونا الذي تمكن من ضرب بلدان عديدة في أسابيع قليلة فقط. حيث تم اعتبار تلك الأزمة الوبائية العالمية بمثابة المحرك الأساسي حاليا نحو ركود اقتصادي محتمل خلال المرحلة المقبلة.
ويتساءل أصحاب الأعمال والمعنيون بأسواق المال بوجه عام عن السيناريو المحتمل وحال الاقتصاد العالمي بعد انتشار ذلك الوباء القاتل الذي أدى إلى تراجع الأسواق على نحو يهدد بحدوث ركود اقتصاد عالمي جديد، ولكن المؤشرات الحالية لازالت عاجزة عن تقديم إجابة وافية في ظل النطاق الغير محدد لتفشي الفيروس وحالة التخبط التي تسود أرجاء العالم في محاولة لاحتواء الأزمة. ففي ظل تلك الأجواء الضبابية، تبقى توقعات إجمالي الناتج المحلي غير وردود أفعال الشركات والمستهلكين ليست أهل للثقة.
وكي يمكننا تقديم لمحة أو رؤية عن المسار المقبل، ربما يجب إلقاء نظرة فاحصة على المؤشرات الحالية للأسواق عبر مراجعة فئات الأصول والسيناريوهات المحتملة للركود ومحاولات إنعاش الاقتصاد، بالإضافة إلى ضرورة مراجعة تاريخ الأوبئة في العالم والسياق الاقتصادي المقترن بها، وذلك كي نتمكن من تقديم واستخلاص رؤية واضحة عن مستقبل الاقتصاد العالمي خلال المرحلة المقبلة.
لقد تراجعت الأسواق المالية بصورة فجة مما يشير إلى أن الاقتصاد العالمي قد أصبح في طريقه إلى الركود. حيث ارتفعت التقييمات الخاصة بالأصول الآمنة بشكل حاد، إلى جانب تدني مستويات الفائدة المستحقة على سندات اليورو الحكومية إلى مستويات غير مسبوقة. الأمر الذي أدى بدوره إلى طرح سيناريوهات المخاطر الاقتصادية والركود المحتمل. ولكن مع ذلك فحتى تلك اللحظة لا يمكن التسليم التام بأن الركود هو النتيجة الحتمية والمؤكدة للأزمة الراهنة.
أولا، بالنسبة للتقييمات الخاصة بالأصول غير الآمنة- حيث لم يكن تأثير كوفيد 19 متجانسا- ارتفعت فروقات الائتمان بصورة محدودة، مما يشير إلى أن أسواق الائتمان لا زالت بمنأى عن مشكلات التمويل. وقد انخفضت تقييمات الأسهم بفارق واضح عن المستويات الأخيرة، إلا أنها لا تزال مرتفعة نسبيا بالنظر إلى تاريخها على المدى البعيد. ولكن على النقيض من ذلك، فإن التقلبات الحالية وحالة عدم الاستقرار في الأسواق ينذر بموجة جديدة من الاضطرابات العالمية والتي تتشابه مع الأزمات التي وقعت على مدار الثلاثين عام الماضية باستثناء الأزمة المالية العالمية.
ثانيا، على الرغم من كون هبوط الأسواق مؤشرا واضحا للركود، إلا أنه يجب عدم تعميم الأمر في كل الأحوال، فالهبوط قد لا يقترن بالضرورة بالركود. وبالنظر إلى التداخل الواضح بين الأمرين في أسواق الولايات المتحدة الأمريكية، يتبين لنا أن واحد من كل ثلاثة أسواق هابطة، قد يصبح معرضا للركود. وعلى مدار المائة عام الماضية، تم رصد سبع حالات مشابهة لتلك الحالة حيث لم تتطابق الأسواق الهابطة مع حالة الركود.
لا شك أن الأسواق المالية باتت حاليا في مهب الريح نظرا لتفشي فيروس كورونا، مما يهدد بمخاطر وشيكة. لكن التباين الواضح في تقييم الأصول يؤكد حالة عدم اليقين التي تحيط بذلك الوباء الغامض. ولطالما قدم التاريخ لنا تحذيرات سابقة من وضع خط فاصل بين الأسواق المالية الخاسرة والاقتصاد الفعلي.
كيف سيبدو وجه الركود الاقتصادي في ظل تفشي فيروس كورونا؟
رغم التفاؤل الضئيل الذي أبداه البعض تجاه الأسواق العالمية، إلا أن شبح الركود بات وشيكا لا محالة في ظل استمرار الوباء القاتل. فقد تأثرت الاقتصادات العالمية على نحو واضح، بما في ذلك الاقتصاد الأمريكي الذي يشهد تباطؤ شديد في معدلات النمو، كما اصبحت اقتصادات البلدان الأخرى أقل قدرة على التصدي للصدمات المتوالية.
وعادة ما يتخذ الركود الاقتصادي أحد الأنماط التالية:
– الركود التام في صورته الكلاسيكية، حيث تنهار دورة النفقات الرأسمالية مما يعرقل ويحد من إمكانية التوسع ويؤثر سلبا على مستويات العرض والطلب، فمن المتعارف عليه أن الأحداث الاستثنائية كالحروب والاضطرابات والكوارث يمكن أن تدفع الاقتصاد نحو الانكماش، ومن ثم فإن هناك فرصة ذهبية أمام كوفيد-19 لتحقيق الركود.
– الركود السياسي، وذلك عندما تترك البنوك المركزية أسعار الفائدة مرتفعة جدا بالمقارنة بالوضع المحايد للاقتصاد، فإن ذلك من شأنه تضييق الخناق على الأوضاع المالية والائتمانية، مما يحد بدوره من إمكانيات التوسع. وفي امريكا لا يزال ذلك الخطر متواضعا، فقد انخفضت معدلات الفائدة الأمريكية، وقد حقق مجلس الاحتياطي الفيدرالي تخفيضا مفاجئا بواقع 50 نقطة أساسية. وعلى صعيد السياسات النقدية العالمية، فقد تعهد وزارء المالية بمجموعة الدول السبع بتقديم دعم مالي للخروج من الأزمة الراهنة.
– أزمة مالية، والتي تؤدي إلى حدوث الاختلال وتباطؤ النمو على مدار سنوات وتعطيل آليات الوساطة المالية ومن ثم الاقتصاد الفعلي. ويختلف الأمر من دولة لأخرى، ولكن بالنسبة للاقتصاد الأمريكي، فقد يصعب الإشارة إلى مخاطر الأزمة المالية على وجه الدقة. ويتحدث بعض خبراء الاقتصاد عن المعضلة الاساسية الكامنة في ائتمان الشركات، ولكن فعليا فإن القروض العقارية وائتمان الشركات لا تمول الاقتصاد الفعلي على النحو الذي يحقق الازدهار، كما أن تلك الديون لا يتم الاحتفاظ بها في الميزانيات العمومية للبنوك. ولعل ذلك ما قد يحد من وقوع هزة محتملة في قطاع الائتمان. ولكن لا يمكن استبعاد تلك المخاطر بالكامل. ومن هنا فقد يصعب رؤية كوفيد 19 مسئولا بشكل أساسي عن حدوث الاختلالات المالية ، لكن الأزمة قد تتولد من ضغوط التدفق النقدي ، خاصة في المؤسسات الصغيرة والمتوسطة.
وبالنظر إلى التصنيف السابق الخاص بأنماط التاريخ، وبمطالعة التاريخ مرة أخرى، يتبين لنا أن ثمة بعض الأخبار الإيجابية المتعلقة بالتعريف الخاص بـ (الاقتصاد الفعلي). وعلى الرغم من كون حالات الركود الاقتصادي تبدو متفردة بعض الشئ، إلا أنها تعد في المجمل أكثر اعتدالا من حالات الركود السياسي أو تلك الناجمة عن الأزمات المالية الشديدة، حيث أنها تشير في الأساس إلى صدمة على صعيد كل من العرض والطلب. وعلى النقيض من ذلك، فإن حالات الركود السياسي تبدو أكثر حدة بالنظر إلى حجم الأخطاء السياسية التي تم ارتكابها، فالكساد الكبير مثلا كان نتاج أخطاء سياسية فادحة، كما تعد الأزمات المالية أشد خطورة لأنها تؤدي إلى خلق مشكلات هيكيلية في البنية الاقتصادية والتي قد تستغرق وقتا طويلا لمحاولة تصحيحها.
وسواء كانت الاقتصادات الكبرى قادرة على تجنب وقوع الركود أم لا، فإن الحديث عن المسار الأكثر أمنا للتعافي من الأزمة الراهنة يطرح ثلاثة سيناريوهات محتملة في هذا السياق، والتي تم الإشارة إليهم اختصارا بالحروف V- U – L
أولا: السيناريو الأول (V) ، ويشير هذا السيناريو إلى صدمة الاقتصاد الفعلي “الكلاسيكية” حيث يتم خسارة الناتج تماما، ولكن في نهاية الأمر يحدث ارتداد في معدلات النمو حيث يمكن استيعاب الصدمة تدريجيا بمرور الوقت.
ثانيا: السيناريو الثاني(U) ، وهو الوجه القبيح من السيناريو الأول، ويعبر عن استمرار الصدمة، وخلال محاولة اسئتناف مسيرة النمو، يتعرض الناتج للمزيد من الخسائر . وبالنسبة للأزمة الراهنة المتمثلة في تفشي فيروس كورونا، فإن التسليم بهذا السيناريو يحتاج إلى مزيد من الأدلة حول حجم الضرر الفعلي الواقع على الاقتصاد العالمي.
ثالثا: السيناريو الثالث (L)، ويشير إلى العلاقة ضعيفة الارتباط بين كل من الأول والثاني. ولكي يتحقق ذلك السيناريو، لابد من وجود شواهد محققة على قدرة فيروس كورونا على تسديد ضربة قاضية لإحدى الركائز الاقتصادية الأساسية مثل سوق العمل، مصادر الحصول على رأس المال، أو الانتاجية بوجه عام. وقد يصعب تخيل ذلك حتى في أكثر الافتراضات تشاؤما، لأننا ربما قد نواجه تداعيات جديدة في مرحلة متقدمة من ذلك الفيروس.
ومرة أخرى، يتعين علينا مطالعة التاريخ للتعرف على مسار الأوبئة العالمية السابقة ووضع تصور عن مسار الوباء الحالي. ويعبر السيناريو الأول ( V) عن المشهد التجريبي للأوبئة السابقة، مثل سارس وأنفلونزا H3N2 (“هونج كونج”) عام 1968 ، وأنفلونزا H2N2 (“الآسيوية”) عام 1952، و الأنفلونزا الإسبانية عام 1918.
والسؤال الآن: هل ستكون هناك عواقب اقتصادية دائمة لتفشي فيروس كورونا؟ تحتاج الإجابة على هذا السؤال إلى تفنيد الآلية التي تنتقل من خلالها العدوى إلى الاقتصاد لتصيبه في مقتل. وإذا تمكنا من خلال تصنيف حالة الركود التعرف إلى الموضع الأساسي الذي سيكون مستهدفا في الاقتصاد بواسطة الفيروس، فإن تتبع قنوات انتقال الفيروس قد تمكننا من معرفة كيفية قيامه بالسيطرة على مضيفه، ومن ثم تساعدنا في التوصل إلى الحلول المناسبة. وهناك ثلاث قنوات للانتقال محتملة في هذا السياق:
– ضربة غير مباشرة تصيب الاقتصاد من خلال نشوب أزمة الثقة والتي تؤدي إلى تغير في أنماط الإنفاق لدى الفرد في ظل عدم ثقته في حجم الثروة أو الدخل المتوقع، وهنا تنتقل الصدمات الخارجية إلى الاقتصاد الفعلي من خلال أسواق المال. ففي ظل تراجع الأسواق وانخفاض الدخل الخاص بالأسرة، يتجه الأفراد نحو خفض الإنفاق والحد من الاستهلاك والميل نحو الإدخار المنزلي، وهذا التأثير يتجلى بوضوح في الاقتصادات المتقدمة التي تكون الثروات الخاصة فيها عرضة لتغير قيمة الأسهم الخاصة بالأصول.
– ضربة مباشرة تصيب ثقة المستهلك في السوق بوجه عام، حيث أن أداء الأسواق المالية يرتبط بصورة مباشرة بثقة المستهلك وسلوكياته الشرائية. ولعل الدراسات الاقتصادية والبيانات الاستشرافية تظهر أن ثقة المستهلك قد تتأثر على نحو كبير حتى في حال انتعاش الأسواق من جديد، وبالنسبة لما فرضه فيروس كورونا من حظر على المواطنين وأجبرهم على ملازمة منازلهم، فمن الطبيعي أن يحجم الفرد عن مستوى الإنفاق المعتاد وربما يظل متشائما على المدى الطويل.
– صدمة العرض، فالقناتان السابقتان تتعلقان بحجم الطلب، ولكن ماذا لو استمر التخفيض في مجال العرض. إن استمرار أزمة كورونا يهدد بتعطل الإنتاج وتسريح العمال كنتيجة مباشرة لتوقف سلاسل الإمداد عن العمل. وبالنسبة للاقتصاد الأمريكي، فإن استعادة الرواج الاقتصادي مجددا قد يتطلب سنوات طويلة.
والجدير بالذكر أن فترات الركود الاقتصادي هي أزمات عرضية دورية وليست هيكلية، فمثلا كانت الأزمة المالية العالمية من أسوأ الأحداث الدورية في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، ولكنها ادت إلى خلق أزمات هيكيلة في الاقتصاد، فقد انخفضت رغبة وقدرة المواطنين على الاقتراض، مما جعل صناع القرار يجدون صعوبة في إدارة الدورة الاقتصادية مجددا من خلال اتخاذ تدابير مناسبة تخص أسعار الفائدة.
هل يمكن لأزمة فيروس كورونا أن تخلق إرثا بنيويا اقتصاديا خاص بها في المستقبل؟
يتوقع الخبراء أن تلك الأزمة سوف تغير وجه العالم الاقتصادي تماما، وقد
يتخذ الاقتصاد العالمي الجديد إحدى الصور التالية:
– إرث الاقتصاد الجزئي: حيث يمكن للأزمات العالمية- بما في ذلك الأوبئة- أن تدفع العالم نحو اعتماد التقنيات ونماذج الأعمال الجديدة. فمثلا أدة انتشار وباء سارس في عام 2003 إلى ظهور التسوق الالكتروني في الصين، وعليه فقد صعد نجم بعض الشركات مثل علي بابا وغيرها. ومع استمرار إغلاق المدارس، قد تشهد منصات التعليم الالكتروني طفرة غير مسبوقة. وهناك من يتساءل أيضا عن مدى تأثير تطبيقات تتبع المرضى التي تم العمل بها بمدينة ووهان خلال الأزمة على تطور النظام الصحي العالمي في المستقبل.
– إرث الاقتصاد الكلي: يبدو أن أزمة فيروس كورونا تجعل العالم يسارع الخطى نحو سلاسل القيمة العالمية اللامركزية، حيث يضيف الفيروس بعدا بيولوجيا للقوى السياسية والمؤسسية التي دفعت نموذج سلاسل القيمة ما قبل عام 2016 في اتجاهات متعددة.
– الإرث السياسي: لا يمكن استبعاد التداعيات السياسية لتفشي فيروس كورونا. فالأنظمة السياسية جميعها الآن في اختبار لمعرفة مدى قدرتها على حماية مواطنيها، وحجم التقلبات السياسية التي تحدث داخل الدولة. ويمكن لتلك الأزمة أيضا أن تؤثر على مسار الانتخابات الرئاسية الأمريكية. ويمكن النظر إليها أيضا بمثابة دعوة للتعاون الدولي أو دافعا لتغيير مراكز القوى العالمية والقضاء على نظرية القطبية مما يؤدي بدوره إلى تحولات جذرية في خريطة العالم الجيوسياسية.
وأخيرا، ما هي الإرشادات التي يجب أن يتبعها القادة في سبيل تلافي المخاطر الاقتصادية المحتملة؟ يمكن استلهام بعض الرؤى من الأسواق المالية وتاريخ الأزمات المشابهة عبر التاريخ على النحو التالي:
– يجب تجنب الاعتماد على التوقعات. فالأسواق المالية تعكس حاليًا قدرًا كبيرًا من عدم اليقين. ولا تزال مجموعة واسعة من السيناريوهات منطقية ويمكن تبنيها من قبل الشركات .
– لابد من الحرص على ألا تكون الأعمال عرضة لتقلبات سوق المال.
– ضرورة التركيز على ثقة المستهلك في الأسواق، باعتبارها القوة الأساسية الدافعة لعجلة الإنتاج.
– التخطيط للأفضل مع الاستعداد دائما لوقوع الأسوأ.
– السيناريو الأول للركود هو الأكثر قبولا من الناحية النظرية والتجريبية.
– لابد من النظر إلى ما بعد الأزمة، والتعرف إلى الصورة الجديدة للاقتصاد سواء أكان الاقتصاد الجزئي أم الكلي، مع ضرورة التعرف إلى الفرص والتحديات الناشئة عن ذلك.
– يجب طرح السؤال عن مدى قدرة كل دولة على تبني المستحدثات التقنية ، وهل تمكنت القيادة السياسية بالدولة من استلهام مميزات جديدة من الأزمة وتسخيرها لصالح الاقتصاد، وتوظيفها لصالح المجتمع؟