ارتأتْ مجلّة "شؤون خارجية" (Foreign Affairs) في عددها الأخير (مارس/ أبريل 2020) أن تختار "صعود الدكتاتوريات الرقمية" كعنوانٍ بارزٍ للواجهة. وبمراجعةِ مقال الباحثة أندريا تايلور حول هذا الموضوع سيتّضحُ حجم مُعضلات الاختزالية والنّظرة الأحادية، بل والمنطق التراندنستالي (المُتعالي) الذي بات مُتحكّماً في العقل التحليلي الأميركي للأحداث السياسية، وهو ما مِنْ شأنه أن يطرح استفسارات عميقة حول "موضوعية" عِلم السياسة في ظلّ إصرارٍ، قد يكون قصدياً وأحياناً غير ذلك، من دول العالم الثالث على استقاء المعلومة الأكاديمية السياسية مما يُشاعُ على أنها خلايا التفكير الأكثر شهرة في العالم.

بدأت الباحثة بطرح استفسارٍ لافت: كيف تعمل التكنولوجيا على تقوية الاستبداد؟

وبمُقاربة تاريخية، تبدو شاذّة وغير مُتناسقة، أفردت المؤلّفة جزءاً غير يسير للتذكير بتجربة جهاز أمن الدولة سيّىء السمعة في ألمانيا الشرقية "شتازي Stasi ". هذا النمط، في الحفاظ على السيطرة وفق رأيها، لم يعد قابلًا للتطبيق، في أعقاب "الانتصار الواضح" للديمقراطيات الليبرالية بعد الحرب الباردة؛ وبالمقابل سيكون من السذاجة أن تُمنّى الأنفس بمستقبلٍ واعد للديمقراطية، فتقنيات التكنولوجيا الجديدة ستسمح لـ"الطّغاة"، كما تقول، بتتبّع المعارضة، وبطرق أقلّ تدخلّا بكثير ممّا كان عليه الأمر في المراقبة التقليدية. ولكن، ما هي هذه الأنظمة الاستبداية التي تحتضن التكنولوجيا لإعادة تشكيل السلطويات في عالم اليوم؟

بشكل صادمٍ، ومن دون أيّة مقدّمات علمية، وبتصنيفٍ ارتجالي، تُجيبُ الباحثة: أنّ الصّين هي قائدة "الأوتوقراطيات الرّقمية".
وما هي حججها في ذلك؟ تعود لتُجيب: إنّ الكاميرات عالية الدّقة للتعرّف على الوجه ونظام "الائتمان الاجتماعي" أو "تحدّي الثّقة" هي أهمّ ميزات "الدكتاتورية الرّقمية الناشئة في الصين".

وحتّى تُعطي لاستدلالها مُعطى إمبريقياً؛ فإنها لن تجدَ طريقاً أحسن منْ ما هو معتادٌ أميركياً؛ أيْ العزف على وتر اضطهاد الأقليات؛ فاستدلّت الباحثة بمعسكرات إعادة التأهيل في شينجيانغ، والتي تمّ تجهيزها ببوابات رقمية مدعومة بأجهزة التعرّف على الوجه لتحديد مَن يُسمح لهم بالمرور ومَن يتمّ احتجازهم.

يبدو أن الباحثة قد أحسّت بأنها أغرقت المقال بالأدلجة والذاتية، فخصّصت فقرة صغيرة للومِ الديمقراطيات (إيطاليا و"إسرائيل" والولايات المتحدة) على تصديرها التكنولوجيا إلى الاستبداديات (أوغندا، أنغولا، البحرين، كازاخستان، موزمبيق، نيكاراغوا، المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتّحدة).

بغضّ النّظر عن الطرح اللّاموضوعي والتقصّي العنيف في تصنيف الحقائق العلمية، فإنّه من الصّادم جدّاً أن يتمّ اختزال برنامج "الإدارة الاجتماعية"، الذي أطلقته بكين، في ممارساتٍ أوتوقراطية؛ فهذا البرنامج الفريد والواعد يُصنّف على أنه شبكةُ مراقبة جماعية مُترامية الأطراف، لم يشهد لها العالم مثيلاً من قبل، وإنّ الـ 200 مليون كاميرا، التي تمّ نشرها، لا ترتبط فقط بأنظمة التعرّف على الوجه، كما ذهبت الباحثة الأميركية، بل يحتوي على مراجعة شاملة للسّجلات المالية والقانونية والصّحية؛ إنّه من أسمى أشكال الاستثمار في الذكاء الاصطناعي. ببساطة وحدهم الجديرون بالثّقة سيتجوّلون بحرية وثقة تحت سماء الصين.

أكثر من ذلك يحقُّ لبكين أنْ تثمل فخراً بأنها اتّبعتْ نهجاً أكثر إبداعاً وذكاءً يضمن لها وجوداً ديناميكياً على "الويب". الشاهد على ذلك موقع "سينا ويبو" (Sina Weibo) الذي أنشأته الصين لمنافسة موقعي "تويتر" و"فيسبوك"، حيث أنه بعد هجوم كونمينغ الإرهابي في 1 مارس/آذار 2014 نشرت السفارة الأميركية منشوراً على موقع "ويبو" تدين فيه هذا "العنف الرهيب الذي لا معنى له"؛ وهو ما ولّد ردود فعل لدى مُستعملي الإنترنت الصينيين الذين ندّدوا بتجنّب السفارة استعمال عبارة "هجوم إرهابي"، وتفاعل مع منشور السفارة السابق أكثر من 50,000 تعليق، كما أعيد نشره أكثر من 40,000 مرة، حيث أن معظم التغريدات كانت تركّز على تجنّب السفارة الأميركية توظيف مصطلح "هجوم إرهابي" لوصف المأساة.

ماذا في جُعبة عِلم السياسة الصّيني؟

إنّ مُعضلة السياسة الدولية في الفلسفة الصينية لا تكمنُ في دولٍ مُستبدّة أو فاشلة، بل في "عالم فاشل" ومضطرب وفوضوي، مازال يدفع تكاليف الأزمة المفاهيمية التي استكانت إلى تعاليم المركزية الغربية الوستفالية، لذلك تطرح الصين عقيدة "تيانكسيا Tianxia"، وهي أكبر من أن يستوعبها المكان أو تضبطها دولة ومنظّمة؛ هي طريقة للتفكير في أزمات الكون بمنظورٍ كلّي وشامل، تعترفُ بواقع التنوّع الحضاري وتُقرُّ أيضاً بحقيقة تعدّد المصالح، وتستند إلى فكرٍ سمْح لا يرفض الآخر ولا يُقصيه، فعندما قام الغرب بتقسيم العالم على أسسٍ عرقية، فإنّ الفكر الصيني وحّدهُ على أرضيات أخلاقية وثقافية، وعندما صدح كارل شميت أنّ السياسة تقوم على التمييز العلني بين الصديق والعدو، فإن "التيانكسيا" هدفت إلى تحويل العدو إلى صديق.

تُبنى عقيدة "التيانكسيا" على نظامٍ هرمي، تكون فيه منظومة القِيَم أعلى من الحرية، والأخلاق فوق اعتبارات القانون، وصفوة الحكومة أسمى من مطالبات الديمقراطية وحقوق الإنسان، فالعلاقات الاجتماعية بمنظور "التيانكسيا" لا تكون بين كائنات أدغال توماس هوبز (عدائية) وليست كتلك التي وصفها مجتمع جون لوك (مُتنافسة) ولا حتّى الواردة في ثقافة إيمانويل كانط (متراحِمة ودَمِثة)، وإنما تستكين هذه العلاقات إلى قواعد السلوك الكونفوشيوسية الأربع: اللّباقة والاستقامة والإخلاص والإحساس بالعار.

تُولي المدرسة الصينية في عِلم السياسة أهمية قصوى لـ "لغة نشأة المفاهيم"، لذلك يبدو مُتعذّراً على الباحثين الصيّنيين أن يتواصلوا مع المجال الأوسع السائد في عِلم السياسة، والذي يُهمين عليه المنظور اللغوي الأنكلوساكسوني، وترتبط طهارة وانعزالية الباحثين المحافظين الصينيين عن التأثيرات الغربية بالنظرة الواثقة في الماركسية على أنها أساسٌ لنظريات العلوم الاجتماعية ومرشدٌ لخصائص الحضارة الصينية، هذه الطهارة هي شكلٌ من أشكال الحمائية ضدّ التلوّث الروحي القادم من الغرب.

إنّ مقال "الدكتاتوريين الرقميين" هو نموذجٌ بسيط عن معضلات الموضوعية وتعمّد تعليب فكر الآخر المختلف من دون مراعاةٍ لخصوصياته الحضارية والثقافية، ويجدرُ بمناهج العلوم السياسية في دول العالم الثالث أنْ تتبنّى إستراتيجية التعاون اليقِظ مع مخرجات السّرديات الأنكلوساكسونية، بمقابل الانفتاح على مساهماتٍ مُهملة في الحقل، من بينها إسهامات زهنغ بيجيان في الصين وألكسندر دوغين في روسيا، وعلي مزروعي في كينيا وفرانتز فانون في الجزائر.

 

 

المصدر: بوناب كمال - الميادين نت