د. علي مطر

بات الأمن العالمي بسبب أزمة كورونا مهدداً بفقدان أركانه التي تعد من أساسيات النظام الدولي، فيما أظهرت منظومات الامن الجماعي الدولية تراجعاً لا بل فشلاً واضحاً في مواجهة أزمات غير عسكرية، ما قد يجعل مفهوم الأمن الجماعي عرضة للتبدل أو الانهيار وذلك رهناً بكيفية التعامل مع الجائحة الفيروسية في الأيام القادمة. 

كذلك بدأت الجائحة تولّد الأزمات الممتدة التي تتولد عن أزمة رئيسية، وهي كما تعرّفها منظمة الفاو عبارة عن سياقات حادة تتعرض فيها نسبة كبيرة من السكان إلى الجوع والمرض وعرقلة سبل كسب العيش لفترات مطولة، مع الإشارة إلى أن جميع الدول التي عانت من أزمات ممتدة شهدت تقريبًا نزاعًا عنيفاً على مدار فترات زمنية مطولة، وهذا ما ينذر بتراكم هذه الأزمات ونشوء نزاعات جديدة بسبب كورونا.

وفق ما تقدم يطرح انتشار الجائحة سؤالاً جديداً يضاف إلى أسئلة قديمة، حول دور الأمم الحقيقي في وضع حد للصراعات في شتى أنحاء العالم، فأين دور الأمم المتحدة الحقيقي في مواجهة كورونا؟ أين مفهوم حفظ الأمن والسلم الدوليين مما يحصل اليوم؟ لماذا لا تتحرك الأمم المتحدة بشكل سريع لمواجهة هذه الأزمات؟ أين محورية دورها الذي يفقده العالم بشكل جدي أمام كل أزمة؟ أوليس الأمن الصحي هو جزء لا يتجزأ من السلم والأمن العالمي؟ هذه الأسئلة وغيرها من الصعوبة في مكان الإجابة عنها لدى مسؤولي المنظمة الدولية، كما أن العدد الهائل من الأزمات دائماً يبدو مستعصياً على الحل، في الوقت الذي تقف فيه المنظمة الدولية عاجزة تماما عن القيام بدورها.

أولاً: الارتهان يخل في تحقيق مقاصد الأمم المتحدة

تقوم الأمم المتحدة منذ تأسيسها في 26 حزيران/يونيه 1945 في سان فرانسيسكو على مقاصد متعددة هي حفظ السلم والأمن الدوليين، وإنماء العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها، وتحقيق التعاون الدولي على حل المسائل الدولية ذات الصبغة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإنسانية وعلى تعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية، وجعل هذه الهيئة مرجعًا لتنسيق أعمال الأمم وتوجيهها نحو إدراك هذه الغايات المشتركة، لكن لم تتمكن المنظمة الدولية من تحقيق هذه المقاصد بشكل فاعل، حيث يسود العالم توترات كبرى جديدة في الجغرافيا السياسية العالمية، إذ تشهد العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا والولايات المتحدة والصين تدهوراً سريعاً يرافقه تقارب استراتيجي جديد بين روسيا والصين، وهناك تحولات اقتصادية عالمية عميقة، حيث تعد الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم، لكنها ستصبح أكبر اقتصاد في العالم وستحل محل الولايات المتحدة بعد أكثر من 150 عاماً من الهيمنة الاقتصادية العالمية الأميركية.

ورغم أن قضايا الامن والسلم الدوليين هي من المعضلات الأساسية في العلاقات الدولية، إلا أن العلاقات الدولية اتسعت لتشمل مواضيع واهتمامات عالمية أخرى تحوز على مصالح إنسانية مشتركة، بغض النظر عن مدى تعارض السياسات بين الدول، وهي تشمل قضايا البيئة والصحة ومواجهة الكوارث الطبيعية والهجرة وحقوق الانسان، إلا أن هيمنة الولايات المتحدة على النظام الدولي بعد انتهاء الحرب الباردة، جعل من الأمم المتحدة أداة طيعة في يدها، تستخدمها لتحقيق مصالحها السياسية المتمثلة في الهيمنة وقيادة النظام الدولي، وتخفيف الأعباء عنها في هذا الاطار .

وقد كشف وباء كورونا العديد من العيوب في النظام الدولي ولعل أهمها ما تعانيه الأمم المتحدة من الارتهان ومن عدم الاستجابة السريعة، حيث لوحظ تباطؤ في دور الأمم المتحدة في مواجهة هذه الازمة التي تعصف بالعالم، فمنظمة الصحة العالمية وهي احدى وكالات الأمم المتحدة كانت الأقل تعاطيًا مع ازمة دولية هي من صميم مهامها وواجباتها الأممية، وباستثناء إعلانها عن كورونا وباء عالميا وربما بعض التصريحات الخجولة، لم نلاحظ أي نشاط فاعل في مواجهة الفيروس، او وضع خطة استراتيجية لمواجهة كارثة إنسانية مثل كورونا، ورغم كل العيوب التي تعاني منها منظمة الأمم المتحدة الا أن اللوم يقع على الدول الأعضاء فيها وبشكل خاص الولايات المتحدة الامريكية التي ما برحت تعمل خلال العقدين الماضيين على تهميش هذه المنظمة.

ثانياً: خطر الأوبئة والجوائح على المجتمع الدولي 

لقد قال داغ همرشولد الأمين العام السابق للأمم المتحدة بين تاريخي 1953 ـ 1961، "لم يتم إنشاء الأمم المتحدة لإدخالنا الجنة، بل لإنقاذنا من الجحيم"، فأين دور الأمم المتحدة اليوم في إنقاذنا من الجحيم؟ دائماً ما ينظر إلى الأمم المتحدة على أنها مهمة للغاية لأنها تشكل جزءًا كبيرًا من نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، لدرجة أنها إذا فشلت أو تعثرت، فإن ذلك من شأنه زيادة ضعف الاستقرار لنظام عالمي ضعيف أصلاً. 

وفيما يواجه نظامنا الحالي تحديات جديدة ومتصاعدة ومتفاقمة، يبقى خطر الأوبئة والجوائح تحديا للمجتمع الدولي، ويتفاقم هذا الخطر بسبب الزيادة السريعة والمستمرة لعدد سكان العالم بـ 83 مليون شخص سنويًا. وفي حين أن خطر الأمراض المعدية على مستوى العالم في تزايد، فإن قدرة النظم الصحية العامة الوطنية والعالمية على كشف الأمراض والوقاية منها غير جاهزة. وتعتمد مشكلة الأمراض المعدية في العالم على مجموعة من العوامل، وهي: كفاءة النظم الصحية المحلية، وكفاءة مستويات التغذية وغيرها من الأمور التي تعد أكثر تعقيداً من الصراعات والنزاعات المسلحة، والتي كشفت عن ضعف المنظومة الدولية بعد انتشار جائحة كورونا. وبالتالي فإن فشل منظمة الصحة العالمية في الاستجابة السريعة وبفعالية لأزمة كورونا يسلط الضوء على المخاوف المتعلقة بقدرة منظومة الأمم المتحدة على التعامل بفعالية مع الأوبئة المماثلة في المستقبل. وبموازاة ذلك فإن أزمة البحث عن المضادات الحيوية العالمية ومشكلة مقاومة المضادات الحيوية العالمية عبر العالم الناتج عن الإفراط في الوصفات الطبية والإفراط في الاستخدام تلوح في الأفق كواحدة من أكبر التحديات الهيكلية التي يواجهها المجتمع الصحي الدولي. كذلك فإن القدرة المحدودة للخدمات الصحية الوطنية والعاملين في مجال الصحة الدولية والمرافق التي سيتم نشرها على نحو فعال للأزمات في جميع أنحاء العالم تمثل مشكلة لوجستية متنامية. (للمزيد انظر، الأمم المتحدة 2030: تجديد النظام في عالم متفرق، تقرير رئيس اللجنة المستقلة المعنية بتعددية الأطراف، آب 2016، ص 27).

ويبدو أننا نقترب بعد وباء كورونا من نقطة تحول عالمية جديدة تنطلق من افتراضات شهدتها العقود الأخيرة مفادها أن ديناميات المزيد من الاندماج العالمي لا يمكن وقفها بطريقة أو بأخرى. لذلك ففي الوقت الذي نشهد فيه ظهور قوى جديدة تهدد بتفريق العالم، فإن المؤسسات المنشأة من قبل المجتمع الدولي لتجميع العالم من خلال أشكال تعاونية ذات حوكمة عالمية ينبغي أن تكون لها أهمية أكثر من أي وقت مضى، في مقابل تراجع دور الأمم المتحدة. 

ثالثا: الأمم المتحدة في ورطة تتطلب الإصلاح السريع  

لقد باتت الدول تكاد تأخذ بالاعتبار دور الأمم المتحدة بالنسبة للنظام الدولي، وتهمل الدور المستمر الذي تلعبه في وضع الخطوط العريضة لسير العلاقات الدولية، ومن ثم التعامل مع ما يطرأ من أزمات. ولذلك فلا شيء يبقى إلى الأبد، بما في ذلك استمرارية المؤسسات العالمية التي يعتبر تاريخها حديثًا، علماً أن من دون الأمم المتحدة، فلن يتبقى سوى علاقات هشة متزايدة بين الدول، ودور ضئيل في حل الأزمات الدولية، وهذا ما يدعو إلى إصلاحها بدلاً من التخلي عنها.

ويرى تريغفي لي، الأمين العام للأمم المتحدة 1946 ـ 1952، أنه "لا يزال هناك أهمية بطبيعة الحال للأمم المتحدة. وذلك لأن مسألة مستقبل الأمم المتحدة لها علاقة مباشرة بمستقبل النظام العالمي، وذلك لأنها حجر أساس في هذا النظام العالمي. وبالتالي فإذا تلاشى النظام المتعدد الأطراف المتواجد في الأمم المتحدة والذي يعتبر حجر الأساس لنظام ما بعد الحرب العالمية، ستكون هناك عواقب عديدة وغير متوقعة". 

ورغم أن الأمم المتحدة اليوم لم تتلاشَ بعد، فإنها في ورطة، حيث هناك خشية من أنها أصبحت غير مهمة، فيما تسعى الدول إلى حلول جوهرية في مكان آخر ويرون الأمم المتحدة كتابع دبلوماسي. كما هناك خشية من أن تصبح الأمم المتحدة مثلها مثل المؤسسات القديمة، طغت عليها التغيرات والتحديات الشاملة الكبرى التي تعصف بالمجتمع الدولي بأسره. ومن الواضح اليوم أن مستقبل الصحة العامة العالمية، بما في ذلك القدرة على احتواء الأمراض المعدية على مستوى العالم، يمثل تحدياً جوهرياً للمصداقية المستقبلية لمنظومة الأمم المتحدة. لذلك فإن الأمم المتحدة مدعوة إلى إعادة ابتكار نفسها، ويمكن إعادة النظر في وظائفها وهيكلها وتوزيعها للموارد بأساليب جديدة لجعلها مجهزة بشكل أفضل حتى تتمكن من مواجهة تحديات المستقبل، ويبقى الأهم من ذلك تحررها من الهيمنة.

المصدر: موقع العهد