كانت سوزان كيمب، محررة الإعلانات والطالبة في الثلاثينيات من العمر، تعيش حياة مفعمة بالنشاط والحيوية قبل جائحة كورونا المستجد، فكانت ترتاد المطاعم مع شريك حياتها وأقاربها وتحضر ندوات القراءة مع أصدقائها.
لكن منذ أبريل/نيسان، لم تغادر كيمب شقتها بالقرب من ستوكهولم سوى خمس مرات، بعد أن تفاقمت أعراض اضطراب القلق الاجتماعي وتضاعفت مخاوفها وتصرفاتها القهرية غير المبررة بسبب رهاب الجراثيم والتلوث أثناء الوباء.
وتقول كيمب: “إن الضغوط النفسية الإضافية أصبحت تدفعني إلى حافة الانهيار التي كنت من قبل أستطيع تفاديها”. إذ أصبحت ترتعد خوفا من المواصلات العامة، وزاد حرصها على نظافة أدوات المائدة والأكواب وينتابها الخوف والحزن كلما رأت صور خلايا فيروس كورونا.
وتقول: “أجهش بالبكاء، وأشعر أنني سأموت، ثم أبكي بحرقة حتى أشعر بألم في جسمي ورئتي”، ويرافق ذلك في الغالب شعور بالإحباط، لأنها لا تحقق تقدما في حياتها، والخوف من أن يستغرق الأمر سنوات حتى تستأنف حياتها الطبيعية وتسيطر على أعراض اضطراب الوسواس القهري.
ويرى ستيفين تايلور، مؤلف كتاب “علم نفس الأوبئة” وأستاذ علم النفس بجامعة بريتيش كولومبيا، أن ما يتراوح بين 10 إلى 15 في المئة من الناس، لن تعود حياتهم كسابق عهدها، بسبب تأثير الجائحة على صحتهم النفسية.
وأثارت مؤسسة “بلاك دوغ” المستقلة لبحوث الصحة النفسية مخاوف حول “الأقلية التي ستعاني من القلق طويل الأمد”. وحذرت مجموعة من الأخصائيين الصحيين البارزين مؤخرا في الدورية الطبية البريطانية من أن “آثار الجائحة على الصحة النفسية من المرجح أن تبقى لفترة أطول مقارنة بآثارها على الصحة البدنية”.
التعلم من الماضي
قد تعزى مخاوف علماء النفس من الآثار طويلة الأمد لفيروس كورونا المستجد إلى نتائج الدراسات واستطلاعات الرأي عن الجوائح وحالات الطوارئ السابقة.
إذ ربطت دراسة بين تفشي متلازمة الالتهاب التنفسي الحاد (سارس) في عام 2003، وبين زيادة معدلات الانتحار بنسبة 30 في المئة بين كبار السن الذين تتجاوز أعمارهم 65 عاما. وأشارت دراسة نشرت في فبراير/شباط العام الحالي إلى أن التدابير التي تتخذ للحد من انتشار الفيروسات، مثل الحجر الصحي، قد يكون لها آثار سلبية على الصحة النفسية، فقد تؤدي إلى الإصابة بأعراض اضطراب ما بعد الصدمة أو الاكتئاب أو الأرق. وربطت دراسات بين فقدان الوظائف والضوائق المالية أثناء فترات الكساد الاقتصادي العالمي، وبين تردي الصحة النفسية.
ويقول جوشوا مورغانستاين، نائب مدير مركز دراسات الكرب التالي للصدمة في الولايات المتحدة: “إن الآثار السلبية للكوارث على الصحة النفسية تطال عددا أكبر من الناس وتدوم لفترات أطول بمراحل من أثارها على الصحة البدنية. ولهذا من المتوقع أن نشهد زيادة في احتياجات الرعاية النفسية التي قد تستمر لفترة طويلة بعد انحسار الوباء”.
من المرجح أن يواجه البعض بعد انحسار الوباء صعوبات وتحديات عديدة
التعليق على الصورة،من المرجح أن يواجه البعض بعد انحسار الوباء صعوبات وتحديات عديدة بسبب التباعد الاجتماعي في ظل الحجر الصحي
ويشير مورغانستاين إلى استعراض للدراسات امتد 25 عاما عن تأثير حادثة تشرنوبيل النووية في أوكرانيا، إذ لاحظ الباحثون ارتفاع معدلات الاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة بين أول المستجيبين للكارثة بعد عقدين من وقوعها.
وأشارت الدراسة إلى أن الآثار النفسية كانت أبرز تبعات الكارثة التي أسفرت عن مقتل الآلاف ووجهت ضربة قاسمة لاقتصاد المنطقة. وتشير الأبحاث أيضا إلى أن الأشخاص الذين دمر إعصار كاترينا منازلهم في نيو أورليانز عام 2005، ظلوا يعانون من مشاكل نفسية، ولا سيما الضائقة النفسية واضطراب ما بعد الصدمة، بعد خمس سنوات من وقوعها. وتفاقمت هذه المشاكل بين أولئك الذين كانوا يعانون من مشاكل نفسية قبل الكارثة أو ذوي الدخل المنخفض.
مشاكل طويلة الأمد
ويرى علماء النفس أن أحد المشاكل النفسية التي من المرجح أن تستمر على المدى الطويل بعد وباء كورونا المستجد هي اضطراب الوسواس القهري.
ويقول تايلور مفسرا، إن اضطراب الوسواس القهري هو محصلة لعوامل وراثية وبيئية. ويقول: “إن الأشخاص الذين لديهم استعداد وراثي للإصابة بأنواع من اضطراب الوسواس القهري (مثل وسواس التلوث والهوس بالتنظيف)، من المرجح أن يصابوا بالاضطراب أو تتفاقم أعراضه بسبب الضغوط النفسية من الجائحة. وقد يصاب بعض هؤلاء برهاب الجراثيم المزمن ما لم يتلقوا علاجا نفسيا ملائما”.
وبخلاف اضطراب الوسواس القهري، تقول يوكو نيبودا، الأخصائية النفسية والمتحدثة باسم مجلس العلاج النفسي بالمملكة المتحدة: “إن اضطراب القلق العام يعد واحدا من المشاكل النفسية التي قد تنتشر في الأيام المقبلة. إذ يعاني الكثيرون في مجتمعاتنا المعاصرة من القلق بالفعل، لكن وباء كورونا القاتل، قد يفاقم القلق والمخاوف لدى الأشخاص الذين يميلون للشعور بالقلق. وحتى بعد انحسار الوباء، سيشعر البعض بقلق مفرط خوفا من ظهور سلالة أخرى من الفيروس”.
وتقول نيبودا إن الأخصائيين النفسيين يخشون أيضا من انتشار الوحدة المزمنة أو “انعدام الهدف” في الحياة بسبب إجراءات التباعد الاجتماعي أثناء الجائحة. فقد أرغم التباعد الاجتماعي البعض على الابتعاد عن الكثير من معارفهم، وقد يجدون صعوبة في ترميم علاقاتهم بأصدقائهم بعد انحسار الوباء. وقد انسحب آخرون طوعا من العالم الخارجي وانكفئوا على أنفسهم بحثا عن الأمان في عالمهم الخاص. وقد يجدون صعوبة في الخروج من العزلة ومخالطة الآخرين.
وتشير نيبودا إلى أن ضغوط الوباء قد تصبح أشد تأثيرا على أولئك الذين مروا بتجارب مؤلمة في الماضي، مضيفة: “قد تستدعي الضغوط ذكريات الصدمة شعوريا أو لاشعوريا، وعندها ستصبح المشاكل النفسية طويلة الأمد”.
وتقول ليندسي هيغينز، من نيويورك التي مات شريك حياتها منتحرا في عام 2014: “أعيش الآن في خوف دائم من فقدان أفراد عائلتي”. وبعد سنوات من العلاج النفسي، شعرت هيغنز أنها تعافت تدريجيا من اضطراب ما بعد الصدمة، لكن الآن ينتابها الخوف الشديد كلما غادر شريك حياتها الجديد المنزل، وتقول إنها تخاف من حدوث مكروه، كأن يصاب بالمرض أو يصاب به أحد أفراد عائلتها أو أصدقاؤها”.
وقد تؤثر البطالة أو فقدان مصدر الدخل على الصحة النفسية على المدى الطويل. إذ ربطت دراسات عديدة بين تداعيات الوباء على الحالة الاقتصادية وبين الاكتئاب والضغوط النفسية والتفكير في الانتحار.
وتشير دراسة أمريكية حديثة، تستند إلى بيانات استطلاعات الرأي، إلى أن أكثر من نصف العاطلين أو الذين انخفضت دخولهم أثناء الجائحة في الولايات المتحدة يعانون بالفعل من مشاكل نفسية، وزادت معدلات المشاكل النفسية بين الأشخاص الذين يتقاضون رواتب أكثر انخفاضا.
ويرى الأخصائيون النفسيون أن طبيعة أزمة كورونا وحجمها يسببان حالة من عدم التيقن غير المسبوق، وليس من الواضح متى ستتعافى القطاعات الأشد تأثرا من الوباء، مثل السفر والترفية، وما هي احتمالات تعافيها.
وترى نيبودا أن هذا الوضع يفرض تحديات على الأشخاص الذين لا يحسنون التعامل مع المجهول أو يعجزون عن تحمل المواقف التي تخرج عن سيطرتهم. وتقول: “إن بعض الناس يخافون من عدم التيقن أو المجهول، وهذه المخاوف قد تلازمهم لفترة طويلة”.
الآثار النفسية طويلة الأمد للإصابة بفيروس كورونا
التعليق على الصورة،نحتاج للمزيد من الأبحاث لفهم تداعيات الصحة النفسية على عناصر المجتمع المختلفة، مثل المرضى والمعالجين
ما الذي ينبغي أن نتعلمه؟
وضعت العديد من الهيئات والمنظمات إرشادات للاستجابة لتداعيات الوباء على الصحة النفسية. إذ نشرت منظمة الصحة العالمية توصيات في وقت مبكر من العام الحالي للحفاظ على الصحة النفسية، وسارت على منوالها هيئات حكومية أخرى في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وغيرها.
ويجمع باحثون بيانات لفهم الآثار النفسية طويلة الأمد لهذه الأزمة وكيفية التعامل معها. وتبحث دراسات بريطانية في الصحة النفسية لمرضى كورونا المستجد الذين تلقوا العلاج في المستشفيات والممرضين والممرضات في الخطوط الأمامية. ويجري مركز بحوث الطب النفسي في ستوكهولم دراسة لمدة عام يشارك فيها 3000 شخص كانوا يعانون من أمراض نفسية قبل الجائحة، مثل الاكتئاب والقلق واضطراب الوسواس القهري.
وتقول نيتيا جايارام ليندستورم، مديرة عمليات بمشروع ستوكهولم، إن هذه الدراسة ستركز على مدى تأثير كورونا على أوجه التفاوت في الرعاية الصحية ومدى تطور أو تغير أعراض المرضى والفئات الأشد تضررا من الوباء.
ويرى مورغانستاين، أن هذه المشروعات ستكون مصدرا مهما للمعلومات لمقدمي الرعاية الصحية والحكومات. ويقول: “نحن نستعين بهذه الدراسات التي تراقب صحة السكان لتقييم التدخلات والاستعداد للموجات اللاحقة من الوباء وطوارئ الصحة العامة. فالضغط النفسي كالسميات، لا يقل ضررا عن الرصاص أو الرادون، ولكي نفهم تأثيره على المجتمع، نحتاج أن نعرف الفئات التي تعرضت له ومدى تأثيره على صحتهم”.
الصمود والأمل
ويرى تايلور أن الوباء قد يخلف آثارا نفسية طويلة الأمد لدى فئة من الناس، لكنه يسلط الضوء على قدرة الكثيرين على تحمل الضغوط النفسية والصمود في وجه الكوراث.
ففي ووهان على سبيل المثال، حيث ظهر الوباء واستطاعت السلطات أن تسيطر على انتشار الوباء بعد فرض الحجر الصحي لمدة 76 يوما، احتضنت المدينة مهرجانا موسيقيا في إحدى المتنزهات المائية، حيث تزاحم الآلاف بلا تباعد اجتماعي أو كمامات. وأقيمت حفلات موسيقية كبرى في نيوزيلندا بعد نجاحها في الحد من انتشار الوباء.
ويرى تايلور أن هذه الحفلات والفعاليات أقيمت رغم أن الكثيرين في مستهل عام 2020 كان الشك يساوهم في أن تعود الحياة إلى طبيعتها، وتوقع البعض أن تكون الحياة بعد الوباء شبيهة بقصص تشارلز ديكنز الكئيبة.
وتشير نيبودا إلى أن الوباء انعكس إيجابا على الصحة النفسية لبعض الناس، وقد يدوم هذا الأثر أيضا لفترة طويلة. وترى أن تجربة الحجر الصحي خففت مستويات القلق لدى بعض الناس الذين كانوا يعانون من الضغوط النفسية في العالم الخارجي قبل الوباء. وذلك لأنهم شعروا بالحرية والأمان بقضاء ساعات أطول في المنزل.
وترى نيبودا أن الوقت الإضافي الذي أمضاه البعض في المنازل شجعهم على الحرص على تحقيق التوازن بين الحياة العملية والحياة العائلية أو التمهل عند مخالطة الآخرين بوضع حدود بين الحياة الشخصية والحياة الاجتماعية.
واستغل البعض التباعد الاجتماعي لترتيب منازلهم والتخلص من الفوضى. وتقول نيبودا إن المساحات المنظمة في منازلهم انعكست إيجابا على صحتهم النفسية. ويرى الخبراء أن ممارسة الهوايات في وقت الفراغ الإضافي، أسهمت في زيادة الشعور بالرضا وخففت الضغوط النفسية لدى الكثيرين.
لكن هذه التجارب لا تجدي نفعا لبعض الناس، مثل سوزان كيمب، الذين يجدون صعوبة في تصور نهاية لمعاناتهم النفسية بسبب الوباء. وتقول كيمب: “لا أستطيع التغلب على مخاوفي، ومن الصعب الآن معرفة ما إن كانت هذه المخاوف مبررة أم غير مبررة”.
وتقول ليندسي هيغننز: “أشعر أن استعادة التوازن النفسي يكاد يكون مستحيلا الآن”. ولا تظن هيغنز أن أعراض اضطراب ما بعد الصدمة ستتحسن حتى لو توصل العلماء إلى لقاح.
وتقول: “سيستغرق توزيع اللقاح وإقناع الناس بالحصول عليه وقتا طويلا. وأعتقد أنني لن أشعر بالأمان مرة أخرى أبدا”.