وراءً في شباط (فبراير)، بدت الدولة الصينية في مأزق. أصاب فيروس مرعب آلاف الأشخاص وانفجرت وسائل التواصل الاجتماعي في البلاد غاضبة من السلطات بأسرع من قدرة الرقباء الصينيين على إزالة التعليقات الانتقادية. ومثل الحكومات في أي مكان آخر، لجأ الحزب الشيوعي الصيني إلى الوضع الطوارئ القياسي للاختيار، الحرب العالمية الثانية. وباستشارة حملة حرب العصابات التي شنها ماو تسي تونغ ضد اليابانيين في ثلاثينيات القرن الماضي، أعلنت وسائل الإعلام الحكومية أن الصين تخوض الآن “حربًا شعبية” ضد الفيروس.
كما في تلك الحرب السابقة، تحول صراع الصين مع الفيروس من تراجع خطير إلى إعلان للنصر. ولم يكن هذا مجرد صخب. تشير أحدث الأرقام الاقتصادية للصين إلى أن اقتصادها هو الوحيد في العالم الذي سيتعافى تمامًا من الفيروس -حيث ينمو بنسبة 2 في المائة بينما ينخفض نمو الاقتصاد الأميركي بنسبة 5 في المائة، ومنطقة اليورو بنسبة 8 في المائة، وبريطانيا بنسبة 10 في المائة. ويعتقد جاستن ييفو لين، كبير الاقتصاديين السابق بالبنك الدولي، أن الصين تسير على الطريق الصحيح لتصبح أكبر اقتصاد في العالم بحلول العام 2030. وتستطيع بكين الآن أن تتطلع إلى الأمام، بينما ما تزال الاقتصادات الكبرى الأخرى تعمل على كيفية إدارة الضرر مع تكديس مبالغ هائلة من الديون.

ولم يكن لأي من هذا أن يحدث لو لم تتعامل الصين بهذه السرعة (بقسوة غالبًا) مع “كوفيد-19”. وقد امتلأت وسائل الإعلام الصينية الأسبوع الماضي بصور أشخاص يصطفون في طابور للحصول على اللقاح الجديد المضاد للفيروسات -وهناك شعور هناك بأن الأزمة قد انتهت حقًا.

ومع ذلك، عندما اتصلت بأصدقائي في شنغهاي، أشاروا إلى أن الحياة عادت إلى طبيعتها إلى حد كبير بعد إنشاء نظام تعقب فعال (وشديد التطفل) للحالات وعمليات الإغلاق القاسية. وتنظر الطبقات الوسطى في الصين إلى الأخبار القادمة من الغرب المنغلق بذهول قبل الخروج إلى المطاعم والحفلات الموسيقية والعطلات. وشهدت إجازة “الأسبوع الذهبي” الأخيرة استخدام أكثر من نصف مليار شخص السكك الحديدية عالية السرعة والطرق السريعة الجديدة في الصين.

وراءً في الربيع، تساءل المراقبون عما إذا كانت الأرقام المرتفعة عن قمع الفيروس في الصين يمكن أن تكون حقيقية. فبعد كل شيء، يستطيع شي جين بينغ، رئيس الصين والأمين العام للحزب الشيوعي الصيني، أن يجري مسحاً لحالة بلاده ويقول إنها أفضل بكثير مما كان يمكن أن يتوقعه أي شخص عندما بدأ الوباء. وسوف يحصل النظام علىمزيد من التشجيع من خلال استطلاعات الرأي التي تشير إلى تقييمات إيجابية لأداء الحكومة بين المواطنين الصينيين، حيث أشار أحد الاستطلاعات إلى معدلات رضا تبلغ 80 في المائة.

بتشجيع من نجاحه الواضح في السيطرة على الفيروس، بدأ الحزب الشيوعي الصيني في تطوير طرق جديدة للتفكير في سياساته الاقتصادية، لا سيما عندما يتعلق الأمر بتحدي الغرب بشكل أكثر وضوحًا. ويستخدم الحزب مصطلح “التداول المزدوج”، وهو رمز لطيف الوقع لوصف نهج الصين الفريد تجاه العولمة. وهو قوي بطريقته الخاصة، مثل “أميركا أولاً” أو “بريكست”، ويدل على أن الصين تهدف إلى إنشاء نظامين مترابطين، ولكنهما متمايزان. أحدهما هو الاقتصاد المحلي القومي الذي يعتمد على مصطلح آخر من حقبة ماو، zili gengsheng، أو “الاعتماد على الذات”، المرتبط بأجندة “صنع في الصين 2025″، والتي ستشهد عودة الكثير من الصناعات الصينية الحيوية إلى الوطن. والآخر هو المشاركة الدولية التي توسع من وصول الصين، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالتكنولوجيا.

تستثمر الصين بشكل كبير في البحث والتطوير. وفي الواقع، أعطى الفيروس دفعة للعلم الصيني في مجالات عدة، من التكنولوجيا الحيوية إلى الذكاء الاصطناعي (بما في ذلك استخدام الطائرات من دون طيار لتوصيل التسوق عبر الإنترنت). ويأتي هذا في وقت قد يكون فيه تمويل البحث في الغرب ضعيفًا بسبب الميزانيات المحدودة.
منذ وقت ليس ببعيد، بدا الأمر كما لو أن مبادرة الحزام والطريق الكبرى التي أطلقها الرئيس الصيني -والمصممة لجلب مليارات الدولارات من الاستثمار في البنية التحتية إلى رقعة من الأراضي تمتد من غرب أوروبا إلى جنوب شرق آسيا عن طريق شرق إفريقيا- قد لا ترقى إلى مستوى طموحاته الكبيرة. هل بالغ في بسط يديه؟ لكن الوباء غيّر ميزان التجارة العالمية بطرق قد تجعل الصين الآن تبدو شريكاً جذاباً للدول النامية.

وفرصة الصين واضحة. في السابق، كان بإمكان العالم الغربي أن يلوح بآفاق الاستثمار السخي لدول مثل باكستان أو ميانمار من خلال مؤسسات مثل البنك الدولي، والمرتبطة، كما هي، بأعراف الحكم الرشيد والديمقراطية. ولكن، في عالم ما بعد “كوفيد”، حيث ستكون هناك تجارة أقل، وسفر أقل، وعولمة أقل، كيف يمكن للغرب أن يستمر في التأثير على مثل هذه البلدان؟

مع ذلك، فإن القوة المالية لبكين أقل مما تراه العين. إن حوالي 90 في المائة من التمويل الصيني لمبادرة الحزام والطريق التي أطلقها شي ليس استثمارًا أجنبيًا مباشرًا، وإنما قروض من بنكين صينيين رئيسيين ومؤسسات أخرى مختلفة. وفي الأمم المتحدة، حيث يتصاعد النفوذ الصيني في مؤسسات متنوعة مثل منظمة الصحة العالمية ومجلس حقوق الإنسان، ما تزال الولايات المتحدة هي الدافع الأكبر للأموال.

إن التصورات مهمة. وفي الوقت الحالي، لدى الرئيس الصيني قصة قوية يريد أن يرويها: عن الاستقرار السلطوي المحلي واستراتيجية الصحة العامة الفعالة والنمو الاقتصادي. وهي قصة يحرص على وضعها في مقابل الفوضى الظاهرة في العالم الديمقراطي.

كما شهدت الأشهر القليلة الماضية أيضًا تبني الصين لهجة أكثر مواجهة تجاه جيرانها، بما في ذلك الاشتباك مع الهند في جبال الهيمالايا، واستعراضات القوة العسكرية في السماء بالقرب من تايوان. ومن الناحية العملية، غالبًا ما تكون قعقعة السيوف علامة على أن الصين تريد خلق شعور بالإنذار من دون نية حقيقية للعمل. وكما أظهر فرض قانون الأمن في هونغ كونغ، فإن بكين عندما تريد حقًا أن تضرب بسرعة، فإنها لا تعطي سوى القليل من التحذير المسبق. ولكن إذا كان الهدف هو تخويف آسيا، فقد نجحت الصين في ذلك.

انتهى الأمر بالصين في عهد شي في وضع غريب؛ مع توقع معدل نمو أقل مما كان متوقعًاً في نهاية العام 2019، لكنها تظل أقوى نسبيًا من العديد من منافسيها العالميين من حيث القدرة على التصرف. ومع ذلك، لا يوجد مسار واضح من هنا إلى “انتصار الشعب” التالي. وتخفي الأرقام الاقتصادية المثيرة للإعجاب مشكلة طويلة الأمد، كما جادل الخبير الاقتصادي جورج ماغنوس، والتي تتعلق باقتصاد غير متوازن يتسم بنقص الاستهلاك، وزيادة الفائض التجاري، وحيث ما يزال الدَّين يرتفع بسرعة.

إن فكرة “التداول المزدوج” حيث تستطيع الصين ببساطة أن تفصل اقتصاداتها المحلية عن الدولية هي فكرة غير مستدامة على المدى الطويل؛ سوف تظل هناك حاجة إلى إجراء إصلاحات هيكلية كبيرة. وهناك قضايا أخرى، مثل التلوث، وتغير المناخ، والانحدار الديموغرافي -اعتبارًا من العام 2029، سيقل عدد الصينيين بمقدار خمسة ملايين سنويًا، وسوف يتجه السكان إلى الشيخوخة بسرعة.

كما تخلق مكانة الصين العالمية المتصاعدة نقاط ضعف جديدة أيضًا. يتعين على بكين أن تتصالح مع حقيقة أن ما يُقال عن الأويغور والحريات في هونغ كونغ ليست مجرد مسائل داخلية بالنسبة لدولة تريد تحقيق نفوذ عالمي من خلال “مجتمع المصير المشترك”، لأن النتيجة هي أن الشركات والاستثمارات الصينية تصبح مرتبطة بشكل سلبي بالقيم السلطوية لوطنها.

ومع ذلك، فإن أكبر عقبة أمام سلطة الحزب الشيوعي الصيني لا تكمن في بكين وإنما في واشنطن. قد يؤدي تولي ترامب الرئاسة لفترة ثانية، والمزيد من الذعر الاقتصادي الناجم عن الفيروسات، والمزيد من الفوضى في النظام العالمي الليبرالي، إلى تعزيز رسالة بكين للنجاح الاقتصادي والحكومة السلطوية. وقد تجد إدارة بايدن أنه من الأسهل جمع القوى المتشككة في الصين معاً.

قد يكون الخوف من قدوم إدارة أميركية جديدة وراء مجازات الحرب الأخيرة الصادرة عن بكين. في ذكرى “يوم الانتصار على اليابان” في آب (أغسطس)، شددت الصين على النزعة الدولية عندما احتفلت بدورها التأسيسي في الأمم المتحدة في العام 1945. ولكن، في هذا الخريف، هيمنت الذكرى السبعون لاندلاع الحرب الكورية في العام 1950 على القنوات الإعلامية الرسمية في الصين. وفي اللغة الصينية، يُعرف هذا الصراع باسم Kangmei -حرب “مقاومة أميركا”. وفي ذهن بكين، فإن الولايات المتحدة قد تراجعت فقط ولم تخرج من اللعبة. وما تزال أميركا تشكل التحدي الحقيقي الوحيد لمستقبل الصين العالمي.

*Rana Mitter: أستاذ التاريخ بجامعة أكسفورد ومؤلف كتاب “الحرب الصينية الجيدة: كيف تشكل الحرب العالمية الثانية قومية جديدة”، (مطبعة جامعة هارفارد، 2020).
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Xi’s world: Covid has accelerated China’s rise

 

المصدر: الغد