خلال مرحلة الحرب الباردة والمزاحمة الشديدة بين المعسكرين السابقين الشرقي والغربي، كانت أميركا تبالغ في التشدق بالدفاع عن الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان والأمم، وما أشبه من "عدة شغل" البروباغندا الأميركية المؤسسة على الخداع والتضليل والديماغوجية.

وفي أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة السوفياتية السابقين، في مطلع تسعينيات القرن الماضي، طرحت القيادة الأميركية شعار اقامة "النظام العالمي الجديد" بقيادة أميركا، التي اعتبرت نفسها أنها أصبحت القطب العالمي الأوحد الذي ينبغي أن يخضع له الجميع، والذي يمكن له أن يتصرف بمصير العالم جملة، وبمصير كل دولة وشعب على حدة.

وكان جميع "حلفاء" وعملاء أميركا في جميع أنحاء العالم يعتقدون أن اميركا ستضطلع بنجاح بدور زعيم العالم، الذي سيقيم "السلام الاميركي" (paxa Americana) ويثبت التوازن والاستقرار والامن في العالم، ويضمن ولو الحد الأدنى من الحقوق المشروعة لمختلف البلدان والشعوب والاقوام. وحتى قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، التي كانت قد حصلت على صفة "الممثل الشرعي والوحيد" للشعب الفلسطيني المظلوم، وقعت في "فخ اوسلو"، وسلمت زمام الأمور لأميركا، التي أصبحت الوسيط العالمي الأوحد في المفاوضات الفلسطينية ــ الاسرائيلية العقيمة التي كانت وبالا على الشعب الفلسطيني وقضيته وأرضه ووحدته الوطنية.

ولكن أميركا خيبت آمال جميع مناصريها و"اصدقائها" وفشلت فشلًا ذريعًا في أن تكون زعيم العالم، وظهرت على حقيقتها العارية بأنها أسوأ دولة استعمارية في التاريخ البشري، التي أبادت 112 مليونًا من سكان "اميركا" الأصليين، وقتلت واستعبدت عشرات ملايين الأفارقة، وليست أكثر من بلطجي وقاطع طريق ولص سفاك يريد أن يغزو ويستعمر وينهب العالم ويستعبد ويجوّع ويبيد شعوبه، تمامًا كما استعمر "المكتشفون الاستعماريون" الأوائل ــ اليهود والبيض العنصريون ـ ما سمي أميركا، وأبادوا سكانها الأصليين واستولوا على أرضهم ونهبوا خيراتها ولا يزالون. ولم توفر العدوانية الاميركية حتى "اصدقاءها" بالذات، الذين أصبحوا عرضة للابتزاز والضغط والطعن في الظهر.
 
وفي نزعتها الجامحة نحو استعمار و"تجديد" استعمار العالم، اصطدمت أميركا بمقاومة ثابتة وفعالة من قبل روسيا (باسلحتها المتفوقة وبشعبها العظيم ـ العدو التاريخي للعدوانية الغربية) والصين (بقوتها الاقتصادية التي لا تزاحم) وايران (باندفاعتها الثورية الصادقة). وقد تشكلت من هذه الدول الشرقية العظيمة نواة "المحور الشرقي الجديد" الذي وقف كالطود في وجه نزعة الهيمنة الامبريالية الاميركية ـ اليهودية على العالم.

وفي المواجهة المصيرية مع "المحور الشرقي الجديد" خسرت أميركا عدة معارك جيو - استراتيجية كبرى أهمها:

ـ1ـ معركة سباق التسلح مع روسيا. فبالرغم من أن الميزانية الحربية الاميركية هي أضخم بأكثر من عشرة أضعاف الميزانية الحربية الروسية، فإن روسيا استطاعت أن تخترع وتصنّع وتضع في الخدمة أسلحة متطورة جديدة لا تمتلك أميركا مثيلًا لها. وفي رأي غالبية الخبراء، بمن فيهم الناتويون والأميركيون أنفسهم، فإن أميركا أصبحت متخلفة عن روسيا ـ في التكنولوجيا العسكرية ـ أكثر من 50 سنة خاضعة للزيادة.

ـ2ـ عملت أميركا أقصى ما تستطيع من العقوبات والضغوط ضد روسيا، من جهة، وضد جميع الدول الاوروبية التي يمكن أن تتعامل مع روسيا، من جهة أخرى، من أجل منع روسيا من مد الأنابيب وامداد أوروبا بالغاز الطبيعي الروسي، وبالتالي ربط اقتصاد الدول الاوروبية بمصادر الطاقة الروسية. ولكن أميركا فشلت في هذا المسعى التخريبي لأنها لم تستطع أن تقدم بديلًا اقتصاديًا للغاز الروسي. واذا ما حدثت أي مواجهة دولية كبرى لا سمح الله، فمن المحتمل ـ تبعًا للظروف المحددة ـ أن يصاب الاقتصاد الأوروبي بالشلل، وأن تنقطع الكهرباء وتغرق اوروبا في الظلام.

ـ3ـ حاولت أميركا باستماتة منع الصين من التقدم لاحتلال المركز الأول في التجارة العالمية والدورة الاقتصادية العالمية. وقد فشلت تمامًا في هذه المعركة وهي بدأت تدفع غاليًا ثمن الحرب التجارية والمواجهة الاقتصادية مع العملاق الصيني.
 
ـ4ـ منذ حرب النظام البائد لصدام حسين (بالنيابة عن أميركا و"اسرائيل" وشيوخ النفط العرب) ضد الجمهورية الاسلامية الايرانية، وحتى الان، عملت أميركا المستحيل كي تقضي من الخارج على النظام الثوري الايراني، وكي تفجره بثورة "ملونة" من الداخل. ولكنها حصدت الفشل الذريع والخزي والعار. وايران اليوم هي اقوى بعشرات المرات، عسكريًا واقتصاديًا وسياسيًا، مما كانت عليه في 1980، وهي تضطلع الآن بالدور التاريخي الكبير بوصفها القاعدة المركزية للمحور الاقليمي الجبار لمقاومة الامبريالية والصهيونية والرجعية العميلة العربية والاسلامية.
ومن مجموع هذه الهزائم الكبرى تشكل الفشل الأول، الأساسي، للجيوستراتيجية العالمية لأميركا.

وطبعًا لم يكن من المتوقع من الامبريالية الاميركية ـ اليهودية أن تتراجع بسهولة. ولكن ـ ومهما كان من عدوانيتها ومن قوتها العسكرية والاقتصادية (هي وجميع حلفائها وعملائها) ـ فإنها لم تجد لديها القوة لشن الحرب المباشرة ضد "المحور الشرقي الجديد" مجتمعًا، أو ضد احدى دوله على انفراد.

وللتأكيد على مكانتها والتمسك بمواقعها استعاضت الامبريالية الاميركية ـ اليهودية عن الحرب المباشرة ضد احدى دول "المحور الشرقي الجديد"، بشن حرب عالمية "التفافية"، تمثلت في اشعال سلسلة متتابعة من الأزمات و"الثورات الملونة" والحصارات والحروب الاقليمية، نذكر منها:

ــ "الثورة الشيشانية" والعمليات الارهابية الفظيعة، داخل الأراضي الروسية.
ــ تحريك الاويغور في الصين.
ــ "الثورة الملونة" والحرب الاقليمية المعادية لروسيا في كل من جورجيا وأوكرانيا.
ــ الحروب الاميركية ـ الاطلسية ضد افغانستان، والعراق وليبيا.
ــ الحرب الوحشية الاسرائيلية ضد لبنان في 2006.
ــ ركوب موجة "الربيع العربي" المشؤوم واعلان دولة "داعش" في سوريا والعراق، بدعم كلي اميركي ـ تركي ـ سعودي ـ اسرائيلي.
ــ الحرب الأميركية ـ الخليجية البربرية ضد الشعب اليمني المظلوم.
ــ الحصار المفروض على الشعب الفنزويلي البطل، ومحاولة اشعال الحرب الأهلية في فنزويلا والحرب بين فنزويلا وكولومبيا من أجل اسقاط الحكم الشرعي المعادي للامبريالية الأميركية في فنزويلا.
 
وغير ذلك من سياسة التخريب والعدوان الاميركية في آسيا وافريقيا واميركا اللاتينية.
وقد كلفت هذه الأزمات المفتعلة والثورات الملونة والحروب الاقليمية الوف مليارات الدولارات، والوف الجنود والضباط الاميركيين القتلى والجرحى، ولكنها فشلت فشلاً ذريعا، وأضعفت المواقع الدولية لاميركا بدلًا من أن تقويها.

وهذا هو الفشل الجيوستراتيجي العالمي الكبير، الثاني، لاميركا، في العقود الماضية.
وقد وجدت الطغمة المالية الامبريالية الاميركية ـ اليهودية ان تكلفة السياسة الخارجية التي تنتهجها اصبحت اكثر بكثير من الارباح والفوائد التي كانت تأمل ان تحصل عليها.

وأمام هذا الفشل التاريخي للسياسة الخارجية للدولة الأميركية، اضطرت الطغمة الامبريالية الاميركية ـ اليهودية للاتجاه نحو تطبيق سياسة "الانسحاب من العالم" تحت الشعار الديماغوجي "اميركا اولا". والان تتنازع مختلف كتل الطغمة الامبريالية الاميركية ـ اليهودية فيما بينها ليس على مبدأ الانسحاب من العالم، بل على طرق واولويات هذا الانسحاب. ويتخذ الانسحاب الاميركي من العالم اشكالًا عديدة أبرزها حتى الان:

ـ1ـ تقليص الوجود العسكري في مختلف المناطق التي تعرضت للعدوان.

ـ2ـ تقليص او الغاء التزامات اميركا في المنظمات الدولية كالاونسكو والاونروا وغيرهما، وحتى التهديد بتقليص التزاماتها نحو الامم المتحدة.

ـ3ـ الانسحاب من الاتفاقات الدولية البالغة الاهمية بالنسبة للعالم اجمع، مثل "الاتفاق النووي" مع ايران، واتفاقات نزع الاسلحة والحد من التسلح مع روسيا.

ولكن أخطر وأهم شكل من أشكال الانسحاب الاميركي من العالم هو سياسة العقوبات الاقتصادية والحرب التجارية التي تشنها أميركا على روسيا والصين وايران، وحتى على دول الاتحاد الاوروبي وكندا، كما على مختلف الاطراف الاخرى التي ترى فيها كلها "اعداء لاميركا".

ولا شك أن هذه السياسة تسبب الأضرار والصعوبات والمضايقات للدول والاطراف التي توجه ضدها. الا أنها ـ وعلى طريقة "طابخ السم آكله" ـ تسبب الأضرار لأميركا أكثر بكثير مما تسببه للأطراف الأخرى. ذلك أن هذه السياسة تؤدي الى تقليص المشاركة الأميركية في العلاقات المالية والتجارية والدورة الاقتصادية العالمية، وتدفع جميع الأطراف المعرضة للعقوبات الاميركية الى شق الطريق لعلاقات مالية وتجارية واقتصادية عالمية، بمعزل عن المشاركة الاميركية.

وهذا ما سيعزل أميركا تدريجيًا عن العالم ويدفعها للاختناق ثم الانفجار داخل حدودها.    

 

المصدر: جورج حداد - موقع العهد