شهدت الجمهورية الإسلامية الإيرانية كغيرها من الدول، منذ انتصار الثورة في عام 1979 سجالاً حول مجموعة تساؤلاتٍ من بينها: ماهو النهج الاقتصادي الذي سيُتّبع في البلاد، وكيف سيكون؟ ما حدود تدخّل الدولة ودورها في هذا الشأن؟ هل تتدخل في إدارة الجانب الإقتصادي؟ وإذا تدخلت، كيف وفي أيٍّ من المجالات والقطاعات؟

لكن وكقليل من هذه الدول، كان السّجال أكثر حدّةً وأبعد تأثيراً، لأن هذا السّجال كان له محتواه الأيديولوجي، ولأن إيران جمهورية إسلامية، فقد فُرض ذلك على كل تيارٍ من التيارات السياسية والاقتصادية الناشطة على الساحة الإيرانية التي تنسب لنفسها التعبير أو الصيغة الأقرب إلى رؤية "الإسلام " لتحديد طبيعة النظام الاقتصادي وتوجّهاته الدولية.

تستند الفلسفة الاقتصادية الإيرانية منذ انتصار الثورة الإسلامية على ثلاثة أسس رئيسية: الإسلامية، والاستقلالية (عن الغرب تحديداً)، وسيادة الدولة على النشاط الاقتصادي. على مدار العقود الـ4 الماضية، لم تبتعد الفلسفة الاقتصادية لإيران عن الأسس السابقة، بالرغم من جنوحها نحو السياسات الاقتصادية الليبرالية جزئياً تارةً، والانفتاح الاقتصادي على الخارج وتشجيع الرأسمالية والاستثمارات الأجنبية والقطاع الخاص تارةً أخرى.

اليوم، وبعد مرور أكثر من 40 عاماً على انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية، يحتدم الجدل الأكاديمي من جديد، بين مختلف التيارات السياسية والقوى الإقتصادية حول دور السياسات الاقتصادية المطبّقة في البلاد، من أجل التّصدي للعقوبات الغربية المفروضة على إيران، وتلبية متطلّبات صمود الإيرانيين، في ضوء ما يمتلكه الاقتصاد الإيراني من مقوّمات وثروات طبيعية، فإيران وعلى مدى العقود الماضية، تحوّلت من دولةٍ تمتلك اقتصاداً ضئيلاً يغلب عليه الطابع الزراعي، إلى دولةٍ مركزيّةٍ حديثة لديها قطاعٌ مزدهرٌ من الصناعات التحويلية، وتلعب دوراً مركزياً في أسواق الطاقة العالمية.

ماذا يمتلك الإقتصاد الإيراني؟
تمتلك إيران ثاني أكبر اقتصادٍ في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بعد السعودية، حيث بلغ إجمالي الناتج المحلي عام 2019 حوالى 510 مليار دولار، وهي بذلك ثاني أكبر بلدان المنطقة بعد مصر من حيث عدد السكان، إذ بلغ عدد سكانها قرابة 82 مليون نسمة في العام نفسه.

ويتميّز هيكل الاقتصاد الإيراني بوجود قطاعاتٍ رئيسيةٍ دافعة، أهمها: القطاع الهيدروكربوني، والزراعة والخدمات، وحضورٍ ملحوظٍ للدولة في قطاعي الصناعات التحويلية والخدمات المالية والمصرفية. وهو بذلك يُعتبر الأكثر تنوعاً، مقارنةً بغيره من اقتصاديّات الدول الأعضاء في منظمة الدول المصدّرة للنفط (أوبك)، وهذا لاينفي حقيقة أن قطاعي النفط والغاز، كانا ولا يزالان يشكّلان القطاع الرائد في الهيكل الإقتصادي، ويساهمان إلى حدٍّ كبيرٍ في الإيرادات الحكومية، فهما يشكّلان الدّعامة الرئيسية لصادرات البلاد.

وبشكلٍ عام، تشير البيانات الأساسية حول الاقتصاد الإيراني إلى صناعاتٍ قويةٍ ومزدهرة في صناعة السجّاد وصناعة السيارات والآلات الثقيلة والجرّارات والتّعدين والنّسيج والصّناعات الغذائيّة والبتروكيماويات. إذ تُظهر بيانات البنك المركزي الإيراني أن القطاع غير النفطي (بما فيه الزراعة والصناعة والخدمات) شكّل قرابة 90% من الناتج المحلي للبلاد عام 2015، وهو مايعكس تنوعاً أكبر في ناتج البلاد، بينما يستحوذ النفط على قرابة 10% من الناتج المحلي خلال العام نفسه.

وفي لمحةٍ سريعة، يمكن لبعض القطاعات الرئيسية أن تعطي صورةً أكثر وضوحاً عن طبيعة النشاط الإقتصادي في إيران وبنيته وحجمه، حيث يمكننا ذكر بعض هذه القطاعات التي تُعدّ المحرّك الأساسي للإقتصاد الإيراني الرسمي:

قطاعا النفط والغاز
يُعدّ قطاع الطاقة بمثابة طوق النجاة للاقتصاد الإيراني، إذ تعتمد الحكومة على صادرات الطاقة بشكلٍ رئيسيٍّ لتسديد النفقات الحكومية وسدّ العجز المالي المتزايد، معتمدةً في ذلك على واردات بعض الشركاء الإستراتيجيين في قطاعيْ النفط والغاز.

1- قطاع النفط:

تتمتّع إيران بموقعٍ جغرافيٍّ جيولوجي يزخر بالثروات الباطنية بما فيها النفط والغاز، كما تُطلّ إيران على مضيق هرمز أهم المضايق التي تعبرها التجارة العالمية للنفط، إذ يعبره ما بين 20 إلى 30 ناقلة نفطٍ يومياً بحمولةٍ تتراوح بين 16 و17 مليون برميل، وهو ما يشكّل 40% من تجارة النفط العالمية بحسب إحصائيات إدارة معلومات الطاقة الأميركية، في حين يتّجه نحو 13 مليون برميل يومياً من هذه الكمية إلى الشرق من خلال المحيط الهندي ومضيق ملقا قرب سنغافورة إلى شرق آسيا.

أما الكميّة المتبقّية من النفط، فتتّجه إلى باب المندب جنوب البحر الأحمر ومن ثم إلى أوروبا والولايات المتحدة. وعليه، فقد سجّلت احتياطات إيران من النفط الخام عام 2015 نحو 158.4 مليار برميل، مسجّلةً ارتفاعاً بمعدّل 154.5 مليار برميل عام 2011، أي ما يقارب 10% من احتياطي النفط الخام في العالم، أو ما يوازي 13% من احتياطات منظمة الدول المصدرة للبترول (أوبك). 

كما تمتلك إيران رابع احتياطيٍّ عالمي من النفط الخام، وأكبر احتياطي عالمي من الغاز الطبيعي. وعلى الرغم من احتياطيات البلاد الوفيرة، إلاّ أن إنتاج إيران من النفط الخام، تباطأ بشكلٍ كبيرٍ على مدار السنوات الماضية، بفعل تشديد العقوبات المفروضة عليها من القوى الدوليّة منذ أوائل عام 2011 وحتى عام 2015. 

2- قطاع الغاز: 

تملك إيران أكبر احتياطي للغاز في العالم؛ حيث تبلغ احتياطياتها منه 3 تريليون متر مكعب، تمثِّل نحو 18 % من احتياطي الغاز العالمي، في حين تنتج 202.4 مليار متر مكعب من الغاز سنويًّا، ما يجعلها ثالث منتِجٍ للغاز في العالم، بعد الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، لكن رغم ذلك، فإن إيران تُعدّ من الدول الضعيفة في تصدير الغاز للخارج، فحجم صادراتها صغيرٌ نسبياً مقارنةً بحجم احتياطها وإنتاجها الكبيرين.

بناءً عليه، لم تعوّل بشكلٍ كبير على صادرات الغاز في تأمين الإيرادات من صادراتها خلال السنوات من 2011 حتى 2016، وذلك لعدة أسباب، منها افتقارها إلى التكنولوجيا المتقدّمة بعد فرض العقوبات الاقتصادية عليها ومقاطعة الدول الغربية لها لاسيما على صعيد نقل التكنولوجيا، كذلك حاجتها إلى استثماراتٍ كبيرة لإنشاء البنية التحتيّة اللازمة في عملية تمديد خطوط الأنابيب والغاز الطبيعي، خصوصاً أنها أكبر مستهلكي الغاز في العالم.

إيران تواجه أميركا..الاقتصاد المقاوم خيارُنا
أمام هذا الواقع، لم تقف إيران مكتوفة الأيدي، استطاعت خلال فترةٍ ليست بالقصيرة أن تجنيَ ثمار صمود اقتصادها أمام العقوبات الشديدة التي فُرضت عليها لسنوات، إذ سعت من خلال اعتمادها على استراتيجية "الاقتصاد المقاوم" إلى حماية الإنتاج المحلي، ودعمه وتهيئة الظروف المناسبة لنموّه بعيداً عن المؤثرات الخارجية والعقوبات الدولية. كما سعت إلى تطوير الأسواق وتعزيزها مع البلدان المجاورة وبالأخص دول غرب آسيا، بالإضافة إلى زيادة الخصخصة، ورفع صادرات الكهرباء والغاز والبتروكيمايات ومنتجات النفط بدلاً من النفط الخام الذي مُنعت من تصديره في السنوات الأخيرة التي سبقت رفع العقوبات؛ ما كان ليتمّ كلّ ذلك لولا تبنّي إيران استراتيجية " الاقتصاد المقاوم"، فما هو هذا الاقتصاد؟ وكيف استفادت إيران منه في تعزيز صمودها ومواجهة العقوبات المفروضة عليها ؟

"الاقتصاد المقاوم" هو مصطلحٌ إيرانيٌّ بحت، لم يتحدّث عنه أيٌّ من المفكرين الاقتصاديين ولم تتّبعه أيّ دولةٍ أخرى سوى إيران على المستوى العالمي. استُخدم لأوّل مرّةٍ من قِبل آية الله السيد علي خامنئي عام 2010. يعتمد "الاقتصاد المقاوم" على العديد من الركائز أهمها مبدأ حماية الصناعة المحلية من المنافسة الأجنبية وتطويرها بالاعتماد على الخبرات الداخلية، وهو المبدأ الذي أسهم بشكلٍ كبيرٍ في عودة ثقة الشعب الإيراني بمنتجاته المحلية.

الاقتصاد المقاوم في عيون مرشد الثورة الإسلامية
أما أُسس هذا الاقتصاد تِبعاً للرؤية التي يطرحها قائد الثورة الإسلامية السيد علي الخامنئي في خطاباته، فيمكن تلخيصها بجعل الاقتصاد مرناً، مبنيّاً على العلم والتكنولوجيا والعدالة، ليكون هذا النمط من الاقتصاد نموذجاً عن الاقتصاد الإسلامي القائم على الثروة الفكريّة والعقول المتواجدة داخل حدود الدولة، وذلك لبناء اقتصادٍ قويٍّ ومستقلٍّ غير مرتبطٍ بالاقتصاد العالمي، بعبارة أخرى يقوم "الاقتصاد المقاوم" على التمركز حول الإمكانيات والقدرات الذاتية، والتمحور حول الداخل والعمل على تقويته، بحيث يصبح الإقتصاد قادراً على تحمّل التوترات والتهديدات الخارجية كالعقوبات والمقاطعات الإقتصادية.

وانسجاماً مع خطة "الاقتصاد المقاوم"، تَلخّص المشروع الاقتصادي الذي طرحه الرئيس حسن روحاني بضرورة توفير أكثر من مليون فرصة عملٍ للشباب عن طريق دعم الإنتاج المحلي بكافة السّبل، وتخفيف الإستيراد مع الإعتماد على اليد العاملة المحلية وضرورة الإستفادة من واردات النفط في تطوير البنى التحتية لخلق هذه الفرص.

حاصل القول، إن إيران سعت من خلال اعتمادها على استراتيجية "الاقتصاد المقاوم" إلى حماية الإنتاج المحلي، ودعمه وتهيئة الظروف المناسبة لنموّه بعيداً عن المؤثّرات الخارجية والعقوبات الدوليّة، فعلى الرغم من الآثار السلبية والصدمات التي تَعرّض لها الاقتصاد الإيراني جرّاء هذه العقوبات، إلاّ أن القطاعات الاقتصادية الإيرانية، أظهرت مستوياتٍ متفاوتةً من المرونة في التعامل مع هذه العقوبات، وساهمت في تجنّب النتائج الأسوأ.

لا بل واستطاع البعض الآخر أن يرفد خزينة الدولة بإيرادات كبيرة ويحقّق عوائد وُصفت بالعالية، قياساً بالظروف الصعبة التي مرّ بها الاقتصاد الإيراني خلال فترة العقوبات. فصناعة السيارات مثلاً نمت مابين عامي 2014 و 2015 أي 5 مرات أسرع من متوسّط الصناعة الإيراني، و4 مرات أسرع من الناتج المحلي الإجمالي. كذلك حقّقت المصارف الإيرانية إجمالي أصول بلغ 582 مليار دولار نهاية 2015 وفقاً لبيانات المصرف المركزي الإيراني.

المصدر: فراس سيور - الميادين