تعوّدنا أن نتكلم عن الإنجازات العسكرية في التّحرير الأوّل والتّحرير الثاني في لبنان وعن البطولات في الميدان، والخبرات المتراكمة والمهارات الخارقة، وعن مدارسَ قتاليّةٍ إبداعيّةٍ مبتكرةٍ دخلت في قاموس الجيوش النّظاميّة والمقاومات وحروب العصابات، وأدهشت الخبراء وعتاعيت القتال في الشرق والغرب؛ ونحن جميعاً نفتخر بكل هذه الإنجازات، ويفتخر بها كلّ إنسانٍ حُرٍّ في هذا الكون.

ولكن هناك مدرسةٌ أخرى لا يتناولها أصحاب الشّأن إلاّ في أطراف الحديث، في حين تستحقّ أن تتصدّر كلّ وسائل الإعلام والمنتديات المحليّة والدوليّة. هي مدرسةٌ قد تبرعمت وُرُودُها وفاح عِطرُها في كلِّ خطوةٍ من خُطُوات المقاتلين، وأُصقِلَت دروسُها على صفحاتِ سيرتهم وبين لمساتِ سُلوكِهم وقِيَمِ أخلاقِهِم. إنّها المدرسةُ الأرقى والأبلغ التي تُعَبِّرُ عن فِكرِ أصحابها وسُلوكِهِم وعقيدتِهم الممتدّة جُذورُها إلى عشرات القرون من الماضي البعيد. هي مدرسةٌ أخلاقيّةٌ قدَّمَها مُقاتِلو المقاومة فأدهشوا بها القريبَ والبعيد.

إنها مدرسةٌ راسخةٌ تستحقّ أن يُنظَمَ فيها الشِّعر، ويُكتَبَ فيها الأدب والنّثر، وتُروى فيها أحسنُ القصص. هي تستحق أن تعانق الفنّ بكلّ ألوانه؛ بالمسرح والتّمثيل لاسيما تمثيل الرّوايات الواقعيّة عبر الشاشات الكبيرة والصغيرة. هي تستحقّ أن يتزيّن بها الرّسمُ والنّحتُ وكلّ أنواع الفنون. هذه الأخلاق هي الجهاد الذي سمَّاهُ الرسول محمد(ص) الجهاد الأكبر، في حين أطلق تسميةَ "الجهاد الأصغر" على جهاد الميدان وخوض المعارك والقتال في الجبهات. 

إنها الأخلاق التي أورد اللهُ عزَّ وجلّ ذكرها في كتابِهِ العزيز مخاطباً النّبي(ص) "وإنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عظيم"، "إنما بُعِثتُ لأُتَمِّمَ مكارِمَ الأخلاق"، مخاطباً كفار قريش: "ذهبوا فأنتم الطُلَقَاء".

نعم، هي الأخلاق التي تحلَّى بها مقاتلو حزب الله في الميدان، وهي تُشبه أخلاق المسلمين في غزوة بدر وأُحُد وحُنَين، وفي كلّ المعارك التي قادها الرسول (ص)، والمواجهات التي قادها الإمام علي بن أبي طالب (ع) وكبار القادة المسلمين الصّالحين عبر التّاريخ. إنّها معاركُ يتماهى فيها الأداء والهدف، بعيداً عن شغف القتل ونزعة الإنتقام، هي معاركُ تنصهر مبادؤها في قِيَم الهداية وسبيل الدّعوة ونماذج الرّحمة والمحبّة والقِيَم الإنسانيّة العليا التي تقدّس الحياة الإنسانيّة وتحترمُ كلَّ حياةٍ على وجه البسيطة، فتأمر بتجنّب أخذ البريء بجريرة المذنب والمجرم، وتأمر بحماية كلّ كائنٍ حيٍّ نباتيٍّ أو حيوانيّ، وحماية ملكيّة الفرد والمجتمع والدولة.

لقد سطَّرَ مقاتلو المقاومة في لبنان بطولات مكارم الأخلاق قبل أن يسطروا ملاحم البطولات في ميادين القتال، وكان في جمجمة كلٍّ منهم قول الإمام الحسين(ع)؛ "ما خرجتُ أَشِراً ولا بَطِراً، إنما خرجتُ لطلبِ الإصلاح في أمة جدِّي".

مَكارِمُ الأخلاق تلك، تُصقِلُ السيرة الميدانية لكلِّ واحدٍ منهم منذ بدء العمل المقاوم لغاية اليوم، كما تعبق النسمات العليلة على وجنتي الباحث عن الحقيقة.

هم حملوا قِيَمَهُم العُليا في قلوبِهِم وعقولِهِم وعلى جباهمم العالية، تماماً كما حملوا كتابَ الرحمن في يد، والسلاح في اليد الأخرى. هم رجالٌ أُطلِقَ عليهم لقب "رجال الله"، فأحسنوا الانتساب إلى إلهٍ حقيقيٍ لا يرسل إلا الرحمة للعالمين كافة. 

هؤلاء الرجال، يجب أن تُروَى سيرتُهم بأحرف من ذهب؛ منذ أن كانوا وما زالوا رجالاً يتحاشون المسَّ بالمدنيين حتى في معسكر أعدائهم، فيؤجلون عملياتهم العسكرية التي خططوا لها شهوراً بلياليها، لمجرد وجود طفلٍ أو امرأةٍ أو مدنيٍّ واحدٍ في المكان المستهدف.

الكلُّ يعرف أنه لم يحصل ضربةُ كفٍّ واحدة بعد تحرير الجنوب في 25 أيار/مايو 2000. لقد تعفّفت المقاومة عن الانتقام وتركت شأن محاسبة العملاء للدّولة اللّبنانية وقضائها، ولم تعترض - إلاّ بأخلاقيّةٍ عالية - على الأحكام المخفّفة التي أصدرها القضاء بحقّهم. 

أمّا الحرب ضد التّكفير فما أغناها بالمشاهد الأخلاقيّة السّامية لأولئك الرّجال الأشبه بالملائكةُ؛ لم يعتدوا على عرضٍ أو أرضٍ ولا على مدنيٍّ أو على آمنٍ في منزلِه، فوهبوا الأمن والسّلامة لكلِّ من دخل بيته وكلّ من استقلّ حافلته مغادراً أرض المعركة. 

هم لم يلمسوا حبّة فاكهةٍ في بستان، ولا كِسرة خبزٍ في منزل، لأنّ دينهم يحرّم عليهم مال الآخر. وإن اضطروا إلى تناول الطّعام، تركوا في المنزل ثمنه مع رسالة اعتذارٍ من أصحابه. 

هم لم يعتدوا على دور العبادة، بل حمَوها وأدّوا التّحيّة لرموزها، ومريم العذراء والسيّد المسيح عليهما السلام يشهدان على ذلك. وحَمَوا الرّهبان والرّاهبات، ورجال الدّين من كُلِّ طائفةٍ ولون، وأنقذوهم من براثن الموت الذي كان يتهدّدهم، وهم يتلون آية "لا إكراه في الدين". لقد حافظوا على هويّة الأديان الأخرى من خلال احترام حقّ المعتَقَد.

هذا غيضٌ من فيض أخلاقهم؛ ألا يستحقّون أن تُكتَبَ فيهم الرّوايات، وتُوَثَّقَ الأفلام والمسلسلات، وتُنظَمَ ملاحم الشعر وتُرسَمَ اللّوحات؟

ألا يجدر بنا أن نُقَولِبَ هذه الآيات الربّانية من الأخلاق المُحَمَّديّة، في قواعدَ عالميّةٍ مكتوبةٍ بماء الذّهب، ومنشورةٍ كوصايا إنسانيّةٍ مُقَدَّسَة، تُبنى عليها أركان المدارس العليا التي تُخَرِّجُ القدّيسين والصّالحين والقادة القدوة؟

المصدر: علي شريف - الميادين