قد يكون أحمد عباس صالح في كتابه "اليمين واليسار في الإسلام"، ومثله إميل توما وهادي العلوي والعديد من المفكرين، لمسوا نزعة مقاومة عامة في الوسط الشيعي ضد الفكر السلطاني العضوض وثقافته وطائفته، وهي المقاومة التي امتدت من الإمام علي وأولاده وأصحابه إلى حزب الله، وقبله انتشار العمل الوطني في صفوف الفقراء الشيعة في العراق ولبنان، كما في أوساط الزيدية والإسماعيلية والعلويين والدروز.

ويُشار هنا إلى أن الشيعة، كما كل المكونات الاجتماعية الحية في الأمة، أدوا دوراً كبيراً في أهم ثورتين ضد الاستعمارين الفرنسي والبريطاني في بداية العقد الثاني من القرن العشرين. في لبنان، وإثر مؤتمر "حجير" في نيسان/أبريل 1920، اندلعت ثورة مسلحة ضد الفرنسيين في الجنوب، مطالبة بوحدة البلاد السورية وفق المؤتمر السوري العام الذي ضمّ ممثلين من سوريا الحالية ولبنان وفلسطين والأردن. وفي العراق، ابتداء من بلدة الرميثة على الفرات الأوسط، اندلعت ثورة مسلحة ضد الاستعمار البريطاني في أيار/مايو 1920، ولكن الشّيعة كغيرهم من أهل المذاهب طيف اجتماعي وإيديولوجي وسياسي، وأيضاً متعدد الأعراق والأقوام، من الفقراء إلى البرجوازيين، ومن العرب إلى الفرس والترك وبقية الآسيويين، ومن الوطنيين والمقاومين إلى التبّع والعملاء، وهكذا.

وإذا كان السّائد بفضل صورة الإمام علي وأبي ذر وسلمان الفارسي وغيرهم في صدر الإسلام، ثم بفضل حزب الله هذه الأيام، هو لون الرفض والمقاومة، فثمة لون آخر تعيره أقلام الاستخبارات الأميركية والبريطانية والفرنسية والصهيونية وأدواتها المحلية في المنطقة أهمية كبيرة، وتسعى إلى استغلال أدنى فرصة لتعميمه ودفعه إلى الواجهة، ودون ذلك تاريخ من محطاته:

1- دور القناصل الأجانب في دعم أوساط بازارية في إيران خلال ما عرف بالثورة الدستورية الملكية التي تزامنت مع دور مماثل في تركيا خلال العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، والعقود الأولى من القرن العشرين.

2- خروج العديد من مشايخ الإحساء الشيعة على المزاج الشيعي العام وتعاونهم مع ابن جلوي في تلك المنطقة، والذي كان من أبرز قادة عبد العزيز آل سعود في معاركه ضد آل رشيد في حائل، كما ضد الأشراف في الحجاز.

3-  الجنرال الروسي من أصل إيراني شيعي في جيش القيصر، علي رضا، الذي هرب بعد نجاح الثورة الاشتراكية في روسيا ووضع نفسه تحت خدمة المخابرات البريطانية في إيران، وتحول، شأنه شأن نابليون الثالث في فرنسا، من رئيس إلى إمبراطور، قبل أن يتخلص الإنجليز والروس منه خلال الحرب الثانية بسبب علاقاته السرية مع هتلر، ويستبدلوا به ابنه شاه إيران الذي أسقطته الثورة. دور هذا الشاه معروف في خدمة المخابرات الأميركية والتعاون مع السادات وتل أبيب في حلف السافاري.

4- مجموعة رجال الدين الشّيعة الّذين اعتمد عليهم الشاه ضد مقاومة الحوزات في قم ومشهد وطهران وقادتها الذين اعتقلوا ونفوا، مثل الإمام الخميني وطالقاني وغيرهما.

هذا عن التاريخ القريب. أما في العقود الأخيرة، فقد برزت أكثر من ظاهرة لا تخفي ارتباطها بالدوائر الأميركية والبريطانية وأدواتها، سواء في الشرق الأوسط أو في الدائرة الإيرانية، ومنها:

- أبو الفضل إلجي بيك في أذربيجان في العام 1994، والذي ارتبطت باسمه الطبعة الثانية من "صفقة القرن" بعد الطبعة الأولى من هذا الاسم ("صفقة القرن" – اتفاق جيكور) مع السعودية، وظهر فيه ما يعرف بالبترودولار (بيع النفط بالدولار)، فقد وضع إلجي بيك نفط قزوين تحت تصرف الأميركيين واستراتيجيتهم ضد الأوراسية قبل أن يطاح به.

- جماعة لندن. وكما تعتبر العاصمة البريطانية والمخابرات السياسية "MI6" المركز التاريخي لغالبية جماعات الإسلام السياسي السني، الناعمة والخشنة، من جماعات قطب والبنا والغنوشي، إلى "المجاهدين" ضد كل دولة تنافس بريطانيا، من الكفار الأتراك في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر إلى الكفار الروس، فإن لندن هي المركز "التاريخي" لأوساط الشيعة المناهضين لحركة التحرر بكل تياراتها، ومنهم رجال دين تربوا في العهد الملكي العراقي والإيراني.

وكما خرجت من العباءة البريطانية مئات المنابر الإعلامية التي تحرض على الشيعة، خرجت منها منابر شيعية بتوجيه المخابرات البريطانية، وذلك في لعبة تحريض متبادلة مكشوفة (عمر مقابل علي، وعائشة مقابل فاطمة) وهكذا، وآخر المزايدات المذهبية الداخلية التي تفتّق عنها عقل "MI6" كان المزايدة الحرفية في التطبير مقابل الترميزات الطقسية الشعبية (الضرب باليدين بدلاً من السلاسل والسيوف).

- ولنا أن نقول إنّ الأخطر بين شيعة الأطلسي وامتداداته الإقليمية هم البرتقاليون الشيعة الذين انخرطوا في ربيع الفوضى الأميركية - الصهيونية - الرجعية، سواء عبر موجات من التظاهرات في إيران أو في الطبعة العربية منهم في العراق ولبنان، وبينهم عدد من الكتاب والإعلاميين والناشطين السياسيين الذين تحولوا عبر فضائيات النفط والغاز إلى منافحين عن حقوق الإنسان والحريات المزعومة والقومية العربية التي لم يتذكروها سوى في مواجهة إيران والمقاومة.

المصدر: موفق محادين - الميادين