"إلى رجُلي القرن: الإمام الشهيد حسن البنا... والإمام الثائر آية الله الخميني". هذا الإهداء كان لكتاب "الخميني.. الحل الإسلامي والبديل" للمُفكر الشهيد فتحي الشقاقي، الذي كتبه قُبيل انتصار الثورة الإسلامية في إيران في آخر عقد السبعينيات من القرن العشرين، والتي تمرُّ ذكراها السنوية هذا الشهر.

وفي مقال لاحق، انتبه الشقاقي إلى أنَّ يوم انتصار الثورة في الثاني عشر من شباط/فبراير هو اليوم نفسه الذي اغتيل فيه الإمام الشهيد حسن البنا قبل ثلاثين عاماً من النصر، فربط بين الحدثين قائلاً: "ويمر يوم استشهادك يا سيدي وكأنه على موعدٍ. كان المسلمون الفقراء في طهران يفجّرون أعتى الأنظمة، ويرسمون ملامح كون جديد".

لم يكن ذلك التاريخ ما يربط بين الإمامين فقط، فقد كانت فلسطين مُلتقاهما فكرياً وعملياً، باعتبارها قضية الأمة الأولى، وهي لدى الإمام الشهيد حسن البنا "قضية العالم الإسلامي بأسره، وميزان كرامته، ومقياس هيبته"، وورقة الامتحان الأولى، "فإن نجح العرب في هذا الامتحان واجتازوه بتوفيق، فسيكون النجاح حليفهم في كل قضاياهم بعد ذلك، وإن كانت الأخرى، فهي الهزيمة أبد الدهر". كما أنها حبها من حب مصر، فقلوب المصريين "يجب أن تخفق بحب فلسطين، وتحنو عليها، وتعمل لها، بحكم الدين والجوار والإنسانية والوطن معاً". 

ولدى الإمام الثائر آية الله الخميني، كانت فلسطين قضية كل المسلمين وسبب مأساتهم التي "تعد العلّة الأساسية في أغلب المشاكل التي تتعرض لها تلك البلدان الإسلامية". ولذلك، اعتبر تحرير فلسطين واجب كل المسلمين، وطالبهم بالنهوض لتحريرها، باعتبارها قبلتهم الأولى وجزءاً من كيانهم الإسلامي، وعبّر عن حب الإيرانيين لفلسطين قائلاً: "إن الشعب الإيراني... يعتبر، وبسبب إحساسه العميق بالإسلام، أن فقدان فلسطين بمثابة فقدان قطعة من كيانه".

وإذا كانت فلسطين قضية المسلمين الأولى في فكر الإمامين، وحبّها من حب مصر وإيران، فالكيان الصهيوني خطر على الأمة الإسلامية عامة، وعلى البلدين المسلمين خاصة، والدفاع عنها هو دفاع عن كل الأمة، كما قال الإمام الشهيد: "إنَّ العرب حين يذودون عن فلسطين، ويطالبون بحقها، يشعرون من أعماق قلوبهم بأنَّ صميم وحدتهم وسلامة أوطانهم وحقيقة استقلالهم مرهون بهذا الجزء من أرضهم... فدفاعهم عن فلسطين دفاع عن صميم كيانهم... ووجودهم وأرضهم"، وهو ما أكده الإمام الثائر الخميني بقوله: "إن جرثومة الفساد التي زُرعت في قلب العالم الإسلامي لا يراد من خلالها القضاء على الأمة العربية فحسب، بل إنَّ خطرها وضررها يشمل الشرق الأوسط بأسره، فالمخطط المرسوم يقضي بقيام الصهيونية بالسيطرة على العالم الإسلامي والاستعمار الأوسع للأراضي المنابع الغنية للبلدان الإسلامية".

وخطر الكيان الصهيوني على الأمة عامة، وعلى مصر وإيران خاصة، يتطلب العمل على إزالته من الوجود، فحتمية زوال "إسرائيل" من الوجود واجب قومي وإنساني وفرض ديني وأخلاقي. أدرك الإمام البنا ذلك مُبكراً، فحدد غاية الجهاد في فلسطين، "حتى تتم إزالة هذا الكيان الصهيوني المجرم من كل شبر من الأرض العربية... وليس ذلك بالأمر المستحيل، كما يتصور المنهزمون، بل هو هدف يمكن تحقيقه، بقوة الإيمان... والوحدة... والسلاح"، وحتمية زوال "إسرائيل" من الوجود عقيدة راسخة عند الإمام الخميني، باعتبارها جرثومة الفساد التي يجب قتلها، والغدة السرطانية التي يجب اجتثاثها.

 ولذلك، كان تحريرها واجب كل المسلمين، فعلينا "أن ننهض جميعاً ونقضي على دويلة إسرائيل، وليحتل الشعب الفلسطيني البطل مكانها... نحن نقول إنَّ إسرائيل يجب أن تُمحى من الوجود، وإنَّ بيت المقدس ملك للمسلمين وقبلتهم الأولى". ولهذا، لا يوجد مجال عند الإمامين - من خلال أقوالهما - للحلول السلمية التي تُبقي الكيان الصهيوني في أي بقعة في فلسطين.

وقد رسم الإمامان معالم الطريق لتحرير فلسطين بكثير من التشابه القريب إلى التطابق بين الرؤيتين، وأولى هذه المعالم هي "العودة إلى قيم الإسلام والتوكل على الله"، في استحضار للبعد الديني وعقيدة الأمة، فالبنا دعا إلى "العودة إلى نهج أسلافنا المجاهدين.. وحسن الاعتماد على الله"، والخميني اعتبر العودة إلى الإسلام شرطاً للتحرير، و"ما لم نعد إلى إسلام رسول الله.. لن نتمكن من حل قضية فلسطين".

وثاني هذه المعالم "تحقيق الوحدة الإسلامية". وقد دعا البنا إلى "التمسك بسلاح الاتحاد والتماسك"، ودعا الخميني إلى "وحدة الكلمة والاتكال على الله". وعندما تأسست "دار التقريب بين المذاهب الإسلامية" في القاهرة في آخر عقد الأربعينيات من القرن العشرين، انضم إليها حسن البنا من دون تردد، إيماناً منه بأهمية الوحدة الإسلامية بين السنة والشيعة، واعتبر الإمام آية الله الخميني أن إثارة الفتنة بين السنة والشيعة هدفهما تفرقة الأمة لإلهائها عن حل القضية الفلسطينية، فاعتبر "اتحاد الأمة الإسلامية طريق إنقاذ فلسطين".

الانطلاق من قيم الثورة الإسلامية والارتكاز على قوة الوحدة الإسلامية، كمعالم على طريق تحرير فلسطين، يتطلبان "التحرر من التبعية للاستعمار" التي يتصف بها الحكام المخالفون لإرادة شعوبهم، والذين تعجب من صنيعهم البنا، قائلاً: "لماذا لا ينزلون عند إرادة شعوبهم ويتحررون من ربقة التبعية الذليلة لأعدائنا العالميين؟".

وقد اعتبرها السيد الخميني سبباً لمنع تحرير فلسطين، فقال: "إن الأنانية والعمالة واستسلام بعض الحكومات العربية للنفوذ الأجنبي المباشر يمنع عشرات الملايين من العرب من إنقاذ فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي". 

واستكمالاً لمعالم التحرير، دعا الإمامان إلى "دعم المجاهدين الفلسطينيين بالمال". في رأي البنا، "من الجائز صرف جزء من زكاة المال لمجاهدي فلسطين البواسل". وفي رأي الخميني، "من الواجب تخصيص جزء كاف من الحقوق الشرعية، من قبيل الزكاة وسائر الصدقات.. للقضاء على عدو البشرية الصهيونية الكافرة". 

ولتكتمل الصورة، دعا كلاهما إلى "سلاح المقاطعة"، فالإمام البنا اعتبر "مقاطعة اليهود المعتدين أمراً واجباً على جميع أبناء الأمة"، والإمام البنا اعتبر "الارتباط مع إسرائيل وعملائها تجارياً وسياسياً حراماً ومخالفاً للإسلام".

لقد ترجم الإمام البنا رؤيته واقعاً يتجلى من خلال إرساله مئات المقاتلين من حركة الإخوان المسلمين إلى فلسطين لمواجهة العدو الصهيوني في العام 1948. وقد سجل فيها المجاهدون بطولات وتضحيات جمة.

 كما ترجم الإمام الخميني رؤيته لفلسطين منذ اللحظة الأولى لانتصار الثورة الإسلامية بتحويل السفارة الإسرائيلية في طهران إلى سفارة فلسطين وتقديم يد العون لحركات المقاومة الفلسطينية. واستمر هذا النهج في الجمهورية الإسلامية حتى هذه اللحظة بالدعم المستمر للمقاومة الفلسطينية والإيمان بحتمية زوال "إسرائيل".

حضور فلسطين في فكري الإمامين - الشهيد والثائر - وعملهما كان حاضراً في فكر الثائر الشهيد فتحي الشقاقي، فاعتبرهما رجُلي القرن العشرين، وقرأ فكرهما قراءة التجاوز المبدع، فأدرك ثنائية المشروع الإسلامي - الوحدة وفلسطين - أمام تحدي ثنائية المشروع الاستعماري - التجزئة و"إسرائيل" - واكتشف كلمة السر الثلاثية لمشروع التحرير - الإسلام وفلسطين والجهاد - واستوحى معادلة الفلاح لتحرير فلسطين التي يتفاعل فيها الإيمان والوعي لينتجا الثورة، واستلهم محورية القضية الفلسطينية لتحقيق أهداف الأمة في الاستقلال والنهضة والوحدة، واستنبط العلاقة الجدلية التي تربط حرية الأمة بحرية فلسطين...

 والآن، بعد غياب الرجال الثلاثة - البنا والخميني والشقاقي - نزداد يقيناً بعبثية حركة الإحياء الإسلامي من دون فلسطين، وعبثية حركة التحرير الوطني من دون الإسلام.. وأنَّ البُعد عن فلسطين - تحت أي مبرر - هو بُعد عن الإسلام أولاً، وبعد عن حرية الأمة واستقلالها ونهضتها ووحدتها ثانياً وأخيراً.

 

المصدر: وليد القططي - الميادين