أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن بإدارته الديمقراطية وقف الإمدادات العسكرية واللوجستية للتحالف الخليجي الذي تقوده السعودية في حربها على اليمن، وتعيين تيم ليندركينغ كمبعوث خاص له في هذا الشأن، ما يشكّل مقدّمة طبيعية لوضع هذا الملف على سكّة الحلّ السياسي، وهذا يقود بالتالي - وفق المنظور الأمريكي - إلى الدفع باتجاه دعوة الأطراف المنخرطة في الصراع لعقد مفاوضات، وتوفير البيئة الملائمة البعيدة لانطلاق حوار هادئ وصولًا إلى إنشاء معادلة تؤمن السلم والاستقرار في اليمن بعد أكثر من ست سنوات من الحرب، ومن هنا يمكن تفسير إزالة واشنطن حركة "أنصار الله" عما يسمى "قائمة الإرهاب" الأمريكية، باعتبار أنها الحركة التي تمثّل الطرف النقيض للحكومة غير الشرعية التي يترأسها الرئيس المنتهية ولايته عبد ربه منصور هادي، ولا بد من وجودها على طاولة الأطراف الرئيسية التي تملك قرار اليمن حكومة وشعبًا ومؤسسات.

قد يندفع البعض في إطار التحليل السياسي الواقعي للقول إن منطلق بايدن لحلّ قضية اليمن مردّه إلى أنه ملزم بتنفيذ وعوده التي أطلقها خلال حملته الانتخابية، ومجاراة الرأي العام الأمريكي الذي يحمّل محمد بن سلمان مسؤولية مقتل جمال خاشقجي، ولا يزال يكنّ مشاعر الكراهية للنظام في السعودية، رغم الحملات الإعلامية التي تكبّدها من أجل تلميع صورته القاتمة لديهم، كما لم تنفع مبادرته إلى دفن الوهابية كعقيدة وممارسة في المملكة من خلال كسر الكثير من التابوهات الدينية، وتحويلها إلى مرتع لحفلات المجون تمثّلاً بالغرب. ويذهب هؤلاء إلى الترجيح أن بايدن سيسعى إلى فرض بديل عن ابن سلمان الذي تلطّخت يداه بدم خاشقجي ويتحمّل المسؤولية عن "الكارثة الإنسانية" التي تسبّب بها في اليمن، ولكن في المقابل هناك مجموعة من المعطيات في جعبتي الأمريكي والسعودي تفضي إلى صورة أخرى من التحليل، أهمها:

السعودية أفضل حليف عربي لأمريكا

• السياق التاريخي للعلاقات الأمريكية السعودية لم يكن في يوم من الأيام - على الرغم مما شابه في بعض المراحل من التوتّر المؤقت - إلا في إطار نسقي يضمن بقاء المصلحة الأمريكية في رأس الأولويات الاستراتيجية وفق معادلة النفط (أو مصادر الطاقة عموماً) مقابل الأمن، ولا يمكن تصديق أن واشنطن قد تخلّت عن هذه المعادلة في عهد بايدن، فالسعودية اليوم هي بحاجة إلى الدعم الأمريكي أكثر من أي وقت مضى بسبب سياسة دونالد ترامب الرعناء تجاه دول المنطقة، وفائض القوة الذي دفع بمحمد بن سلمان إلى التهوّر في التعاطي مع الكثير من الملفات الحساسّة، ممّا أوصل دول الخليج، وعلى رأسها السعودية، إلى عنق الزجاجة في العلاقة الحرجة مع دول الجوار. وفي المقابل لن تجد واشنطن أفضل من الرياض حليفًا مستمرًا منذ أربعينيات القرن الماضي، يشكّل له قاعدة عربية متقدّمة في قلب العالم، إلى جانب "إسرائيل".

الحرائق السعودية مستمرة في اليمن

• الإعلان الأمريكي لا يعني إنهاء الحرب، فلا يمكن للسعودية كنظام، ولا لمحمد بن سلمان كحاكم في المملكة، أن يتخلّيا بسهولة عن تحقيق أهدافهما السياسية ومطامعهما الاقتصادية والتجارية في اليمن، وحتى لو تم إرساء السياق التفاوضي ستواصل الرياض الدعم العسكري واللوجستي للقوى التي تشغّلها لإبقاء فتائل التوتّر مشتعلة، وضمان استمرار النزف السياسي والاقتصادي للشعب اليمني، فالمقتل الرئيسي للسعودية هو في السماح للحوثيين ببناء منظومة حكم، لأن أي نظام يتزعّمه الحوثيون سيكون معادياً للسياسات السعودية، أو في الحد الأدنى لا يتماشى مع السياق السعودي أو الخليجي، ولا الأمريكي أو الغربي عمومًا.

بايدن أخرج الرياض من مأزق اليمن الميداني

• تكفّل بايدن بإنزال السعودية عن الشجرة في مأزق استنزافها المالي والميداني في حرب اليمن. وهو قد حرص على تأكيد أن السعودية (مع ابن سلمان أو من دونه) كانت ولا تزال شريكًا استراتيجيًا في الحرب على ما يسمّى "الإرهاب في العالم"، وأن "الولايات المتحدة ملتزمة بالدفاع عن المملكة"، ومن هنا لن تجد الرياض حرجًا، بل ستكون مرتاحة للخروج من المستنقع اليمني بغطاء أمريكي، فهي لم تحقّق أيًا من أهدافها في اليمن ميدانيًا، وسيعتبر ابن سلمان أن وقف الحرب قد يشكّل له فرصة يستفيد منها في المعالجات السياسية للتعويض عن خسائره وخيباته، وسيعمد إلى تزخيم دوره في المفاوضات لقطع الطريق على أي استثمار مستقبلي لدولة الإمارات في أي اتفاق.

الصين ثم روسيا رأس أولويات بايدن

• قد يظهر أن بايدن، بتصريحاته "التصعيدية" حيال السعودية وعدم الاتصال بأيّ من مسؤوليها، قد اتّخذ موقف الخصومة مع الرياض، ولكن السياسة البراغماتية التي يتبّعها الرجل، فضلًا عن تراتبية سلّم أولوياته الخارجية، تدفعه إلى إطفاء ما أمكنه من بؤر التوتّر المنتشرة في العالم، وعدم الانزلاق نحو الاستهلاك السياسي في ملفات تعرقل اتجاهاته نحو حلّ المعضلة الوجودية الكبرى المتمثّلة في التحدّي الصيني العملاق، ولم يخفِ بايدن تأكيده على أن الصين تمثّل اليوم قمة الأولويات لديه، وهو يسعى لتشكيل حلف عالمي يعيد فيه أوروبا إلى الحظيرة الأمريكية في مواجهة التنين الصيني وتاليًا روسيا.

اليمن بوابّة الحل النووي الإيراني

• ترى الإدارة الأمريكية أن تهدئة جبهة اليمن تعطي بايدن فرصة للمباشرة في تسوية الملف النووي الإيراني، فهو يأمل في إجراء عملية فك ارتباط بين القضيتين عبر فتح مسارين مستقلّين، الأول: إرساء الحل السياسي في اليمن مع ما يليه من ترتيبات داخلية سياسية واقتصادية، ودخول أمريكي مباشر تحت عنوان المساعدات الغذائية والاقتصادية، والثاني: استدراج إيران إلى طاولة مفاوضات نووية جديدة بعد تحييد الملف اليمني كورقة تفاوض قد تستخدمها إيران لتقوية موقعها التفاوضي، ولا يبعد أن تكون القرارات الأمريكية بشأن اليمن، ولا سيما إلغاء تصنيف "أنصار الله" كـ"جماعة إرهابية"، بادرة "حسن نيّة" تُشعر طهران بالطمأنينة، وتشجّعها على التجاوب مع الدعوات الأمريكية والأوروبية، وتؤكد جدّية بايدن في إيجاد حل جذري للمعضلة النووية، خصوصًا أن لدى واشنطن وطهران الكثير من القضايا الأكثر أهمية من اليمن، و"لا يمكن حلّ أي مشكلة في منطقة الشرق الأوسط إذا امتلكت إيران السلاح النووي".

ما سبق يشرح جوانب من الرؤية الأمريكية في كيفية معالجة الملف اليمني، ولكن هذا لا يعني أن الأمور تسير على ما يرام، فلا الطرف اليمني ولا الطرف الإيراني يثق بالموقف الأمريكي، سواء أكان الرئيس جمهوريًا أرعن كترامب، أم ديمقراطيًا مراوغًا كبايدن، فلا ننسى أن الحرب على اليمن بدأت في عهد الديمقراطي "المسالم" باراك أوباما، أما بالنسبة للسعودية فإن ابن سلمان سيكون أداة طيّعة في يد العهد الأمريكي الجديد، خصوصًا أنه يلمس بالفعل خطر إقصائه عن الحكم، وعليه فإنه سيكون مستعدًا هذه المرّة، ليس فقط إلى تفريغ خزائن المملكة وخيراتها، بل إلى تطويب المملكة برمّتها لصالح الأمريكيين إذا لزم الأمر مقابل بقائه في الحكم، وهذا ما هو مرجّح.


 

المصدر: محمد أ. الحسيني - موقع العهد