أشار الباحث الإيراني رسول صادقى في مقال نشره مركز التبيين للدراسات الاستراتيجية في طهران الى القوة الناعمة الإيرانية المهيمنة على التواجد والتحركات الامريكية في العراق. يتطلب الاهتمام بالقوة الناعمة للجمهورية الإسلامية الإيرانية في هذا الإطار إعادة النظر ببعض الأساليب والاستراتيجيات. تتم هذه السلوکیات في مجالي القوة الصلبة والقوة الناعمة (البرمجیات الذکیة) حیث لكل منهما نقاط القوة والضعف. في إحدى خطاباته الأخيرة، في اجتماع مسؤولي إقامة مراسم ذكرى استشهاد الحاج قاسم سليماني، 16 كانون الأول 2020، أشار المرشد الأعلى للثورة إلى موضوع هيمنة القوة الذکیة الإيرانية في المنطقة، وأنه من خلال تطبيق هذه الاستراتيجية، يمكننا أن نشهد الانسحاب المبكر للأمريكيين من المنطقة. في هذا المقال، سيتم بحث هذا الموضوع على ضوء أحداث السنوات الماضية، مع التركيز علي العراق، ومن ثم الإجابة علی السؤال: ما هي الاستراتيجيات التي ستساعدنا على تحقيق الهدف؟ لتوضيح هذه المسألة، سنناقش أولاً القوة الناعمة ومن ثم نتطرق الى الاستراتيجيات.
القوة الناعمة للجمهورية الإسلامية
يعتبر مكوّن القوة الناعمة، بعد الحرب العالمية الثانية، جزءًا لايتجزأ من العملية الأمنية لجميع البلدان علی صعيد السياسة الدولية. بعد الثورة الإسلامية المبارکة، دخلت القوة الناعمة حقبة جديدة بسبب الطبيعة الأيديولوجية للثورة حيث رافقها هبوط وصعود منذ ذلك الحين. کانت التطورات لها علاقة بتغيير الحكومات والعقوبات الاقتصادية، ولكن بشکل عام من وجهة نظر المرشد الأعلى للثورة فإن هذه الحركة كانت في سیرها إلی الإمام.
لإثبات مدى تأثير القوة الناعمة الإيرانية على السياسات الإقليمية ومواجهة الأعداء، لا يمكن تقديم أرقام وإحصاءات دقيقة، لكن تقدیم تقارير من الجانب الآخر ورصد الأخبار في المنطقة تجعلنا ندرك أن العدو وفوق كل شيء، الولايات المتحدة لم تستطیع تحقيق ما کانت تريده، فاستمرار تواجدها العسكري في العراق، والهجمات على المجموعات المقاومة، واغتيال المسؤولين العسكريين قد يكون دليلاً على هذا الادعاء.
من أهم الاستراتيجيات التي يمكن أن تركز على تكديس القوة الناعمة، هي الجهود المضاعفة لتعزيز العلاقات الثقافية وتطوير التعاون الاقتصادي وإحیاء مراسم الأربعين وإقامة ذكرى شهداء المقاومة.
في هذا السیاق، استعرض مركز الدراسات الاستراتيجية الدولية فی تقرير له، الخصائص الثقافية للقوة الناعمة لجمهورية إيران الإسلامية. وجاء في مستهل التقریر: "أن إيران تخوض حرباً ناعمة مع الولايات المتحدة وتستخدم أدوات رسمية وغير رسمية للتأثير على السكان في جميع أنحاء العالم. ووسعت حملتها الإعلامية باستخدام منشورات الجمهورية الإسلامية الإیرانیة والمراكز الثقافية والجامعات والمؤسسات الخيرية". ویستدل التقرير بأن جهود الولايات المتحدة للتنافس أيديولوجيًا مع إيران هي جهود مؤقتة وبميزانية منخفضة وتسیر علی خطی بطیئة. يجب ألا تحاول الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى التنافس مع إيران باستخدام القوة الناعمة فحسب، بل يجب ألا یکون الترکیز فقط على استخدام الأدوات العسكرية والمالية والدبلوماسية لمواجهتها.
لكن أین المشکلة الیوم؟ لماذا أصبح انسحاب القوات الأمريكية من العراق قضية معقدة؟ هل يجب أن ننتظر التطورات المستقبلية للنظام الدولي وانتقال السلطة، وهو أمر لا يمكن التنبؤ به أيضا وربما قد یستغرق عقودًا؟ المهم هو العمل واعتماد الإستراتيجية لتأمين المصلحة الوطنية التي يجب على صناع القرار في الجمهورية الإسلامية الإيرانية القيام بها. لكن يبدو أن مضاعفة الجهود لتعزيز العلاقات الثقافية، وتطوير التعاون الاقتصادي، وإقامة إحیاء مسيرة الأربعين المجیدة، وذكرى شهداء المقاومة، هي من أهم الاستراتيجيات التي يمكن أن تركز على تراكم القوة الناعمة.
اعتماد هذه الاستراتيجيات بشكل صحيح، یستطیع أن يضمن هيمنة القوة الإيرانية على التواجد الأمريكي في العراق وانسحاب القوات الأمريكية من العراق. سیتم مناقشة أربع استراتيجيات كما يلي:
1-تعزيز العلاقات الثقافية بين البلدين
أظهرت التجربة أن السياسات الخارجیة لدول ذات القيم والعادات والتقاليد التاریخیة القدیمة وبشکل عام ذات الثقافة الغنية، ستكون أکثر استقرارا واستمرارا، وحتى ظهور مجموعة النخب الجديدة لم تتمکن من إيجاد تغييرات كبيرة في تعريف وتفسير المصالح وأهداف تلک الدول.
دراسة تاريخ إيران والعراق تظهر أن البلدين يشتركان في كثير من هذه الخصائص، ولعل صعود حزب البعث وسقوطه دليل على هذا الادعاء. هناک علاقات ثقافیة وثیقة لدی غالبیة الشعب العراقي مع الشعب الإيراني، وقد أصبح ذلك أكثر ظهوراً في السنوات الأخيرة مع تواجد الإيرانيين في مراسم أحیاء الأربعين الامام الحسین(ع). وأصبح التأکید على هذه القضية أكثر حدة من أي وقت مضى، ويتعین علی السياسيين في مجال الثقافة اتخاذ خطوات جادة لتعزيز العلاقات.
2-تطوير العلاقات الاقتصادية بين البلدين
تواجه منطقة غرب آسيا اليوم، شبكة ثقافية وسياسية قوية عابرة للوطن، مثل شبکة الثقافة الجيولوجية الشيعية، حیث تلعب دورًا مهمًا في التطورات الإقليمية. لكن لا يوجد للشيعة تأثیر بالنسبة إلی المجریات الإقتصادیة فی المنطقة. على الرغم من أن مجالات السياسة والثقافة لا تزال تتمتع بقدرات كبيرة، إلا أن الجانب المهم والضروري في تطوير الثقافة الجيولوجية الشيعية هو الجانب الاقتصادي لها. تقيم السياقات الاقتصادية روابط أعمق من الثقافة على المدى القصير، وتفتقر إلى حساسيات السياسة.
على الرغم من أن صادرات إيران إلى العراق في عامي 1397 و1398 تمکنت من الارتفاع إلى مستوى جديد، إلا أن ارتفاع أسعار الصرف الأجنبي من جهة، وحاجة الحكومة للتصدير لجذب عائدات النقد الأجنبي من جهة أخرى، لعبت دورًا مهمًا في هذا السجل. لذلك، يجب إیلاء الاهتمام الخاص لحفظ الصادرات الإيرانية وتعزيزها فی السوق العراقي التنافسي. يبدو أنه من المهم التنويع في تصدير السلع وتنفيذ مشاريع التنمية وکذلک التوجه بتوسيع العلاقات الاقتصادية الخدمية لاسیما فی مجالي السیاحة والصحة.
3-تجمع الأربعين وضرورة الاهتمام أكثر بهذه المراسم
إن تراجع سلطة الحكم الاستبدادي في غرب آسيا منذ بداية الألفية الثالثة، سلط الضوء على قدرات الثقافة الأيديولوجية الشيعية، والحدث الدولي لتجمع مراسم الأربعين هو مثال واضح على هذا التغيير المهم والأساسي في المنطقة. هذا التجمع البشري الأكبر في واحدة من أكثر مناطق العالم انعدامًا للأمن، هو وجه فاعل إقليمي قوي غير حكومي بعنوان مذهب التشیع. برز هذا الحدث الدولي في الوقت الذي ادت التطورات الإقليمية إلی إضعاف عملیة القمع الدیني والإیدولوجي ضد الشيعة. وعلی الرغم من أن تنظيم هذه المراسم يتم بدعم من حكومتي إيران والعراق، إلا أنها غير منظمة من قبل أي جهة رسمية أو لا یوجد دعوة لعقدها.
النقطة المهمة في هذا التجمع هي التعاطف بين الزائرین والتواجد الكبير للإيرانيين. تقام هذه المراسم کل سنة أفضل وأروع مما کان علیه فی الماضي، وهذا يعد بمستقبل مشرق في العلاقات بين البلدين. بصرف النظر عن الحماية الأمنية، يجب على الحكومة الدخول في أبعاد أخرى لهذه المراسم والاستفادة القصوى من هذه الفرصة الاستثنائية التي نشأت في السنوات الأخيرة.
4-إقامة الاحتفالات بذكرى شهداء المقاومة
في نظام الجمهورية الإسلامية الإیرانیة، إقامة المناسبات ومراسم الإربعین والذکری السنوية للشهداء، تتمتع بأهمية خاصة ووفقا لبعض المحللیین، فإن إقامة احتفالات الأربعين والذكرى السنوية لشهداء الثورة لعبت دورًا مهمًا في انتصار الثورة. في العقد الماضي، ومع صعود داعش في العراق وسوريا ونشوب الحرب الأهلية، تابعنا استشهاد مقاتلين من عدة جنسيات. مع اغتيال القائد قاسم سليماني ونائب رئيس حشد الشعبي أبو مهدي المهندس في العراق، اندلعت أحداث جديدة في العراق كان من أهمها إقامة مراسم التشييع والذکری السنویة لهؤلاء الشهداء في إيران والعراق. أدى الحضور الواسع للشعب الإيراني والعراقي في هذه المراسم والتعبير عن معارضة جرائم الأمريكيين، إلى خلق موجة من الوحدة والتضامن بين الشعبين، التي كانت نموذجية في نوعها. ومع ذلك، فإن إقامة مثل هذه المراسم يمكن أن تلعب دورًا مهمًا في التضامن بين الشعبين الإيراني والعراقي. لاسیما أن ربط هذه الأحداث بالطقوس الإسلامية مثل مراسم شهر محرم والأربعين يمكن أن تكون خطوة مهمة في تعزيز الروابط بين الشعبين.
الإستنتاج:
من الممكن تطبیق موضوع هيمنة القوة الناعمة التي اقترحها المرشد الأعلى، لكننا نحن الآن مازلنا في منتصف الطريق من هذا الموضوع. نحن في العراق، كنا أكثر نشاطًا مقارنة بدول الجوار الأخرى، لكن وجود عوامل مثل تواجد العتبات المقدسة، والأغلبية الشيعية، والروابط الدينية والثقافية الوثيقة، وإحياء مراسم الأربعين، والمواجهة مع داعش، أدت إلى إقامة علاقات خاصة بين الطرفين. في المجال الاقتصادي أیضاً، رغم تحسن المؤشر التجاري على مدار السنين، لكن لأسباب مثل كورونا وتدخل الأعداء، لم نصل إلى الهدف المرجو لكلا البلدين.
بالمحصلة، يمكن القول أن هيمنة القوة الناعمة للجمهورية الإسلامية الإيرانية على التواجد الأمريكي في العراق تتطلب مراجعة الاستراتيجيات، ويجب اتباع هذه الاستراتيجيات بشكل متزامن ومتناسب مع بعضها البعض. إن المشاركة في تنظيم مراسم الأربعين وذكرى شهداء المقاومة، إلى جانب زيادة تعزيز العلاقات الثقافية والاقتصادية، يمكن أن يؤدي على المدى القصير إلى تراكم قوة إيران الناعمة في هذا البلد وتراجع الأعداء.