قبل سنوات، مع إعلان الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، عقوباته القصوى وغير المسبوقة على إيران، ارتفع منسوب الرهانات في تل أبيب، ولدى بعض الجهات السياسية والإعلامية في العالم العربي، على أن الجمهورية الإسلامية باتت في مأزق استراتيجي يضعها أمام سيناريوات مُحدّدة: إمّا التدحرج باتجاه سقوط النظام، أو خضوعه للمطالب الأميركية، أو انتفاضة شعبية تؤدّي إلى أحد السيناريوَين السابقَين. وأيّ تقدير آخر اعتُبر غير موضوعي، ومُعبّراً عن آمال أكثر منه عن وقائع. الآن، انقلب المشهد بالنسبة إلى كيان العدو، بعدما بدأ يتلمّس فشل رهاناته وخياراته، في ظلّ حقيقتَين متوازيتَين: الأولى أن إيران تجاوزت الأسوأ على المستوى الاقتصادي، وهو أمر أكّده المرشد السيد علي خامنئي، وأيضاً تقديرات دولية تحدّثت عن أن إيران ستُحقّق نمواً إيجابياً في هذه السنة، على رغم العقوبات الاقتصادية؛ والثانية، على المستوى الاستراتيجي، أن خامنئي حدّد شروطاً حاسمة للعودة إلى الاتفاق النووي، وهي رفع العقوبات عملياً وليس كلامياً، وأن يتلمّس الشعب الإيراني ذلك. فضلاً عمّا تقدّم، يسود اعتقاد في تل أبيب بأن المؤشّرات المتوالية تُعزّز التقدير بأن الإدارة الأميركية الجديدة تتبنّى خيار العودة إلى الاتفاق، ولو بصيغة ما، لن تكون بالتأكيد بمستوى الآمال التي تطمح إليها إسرائيل، ما يعني، بمعايير الأمن القومي الإسرائيلي، تدحرُج المخاطر التي يواجهها الكيان اليوم في بيئته الإقليمية، إلى مأزق استراتيجي أكثر خطورة.
تتجلّى معالم هذا المأزق، أوّلاً، في أن السيناريوات المُفضّلة لدى إسرائيل، أي إخضاع إيران أو ارتداعها أو توجيه ضربة عسكرية أميركية إليها، باتت، نتيجة مُتغيّرات سياسية إقليمية ودولية في معادلات القوة أكثر بعداً عن التحقُّق من أيّ وقت مضى، في حين أن السيناريوات الممكنة البديلة ينطوي كلٌّ منها على مخاطر تختلف النظرة إلى بعضها بين الأجهزة والقيادات السياسية والأمنية في تل أبيب. الأهمّ في هذا المشهد، أن منشأ المسار الذي يدفع نحو السيناريوات التي تتخوّف منها إسرائيل، يعود، بالدرجة الأولى، إلى صمود إيران أمام «الضغوط القصوى»، وإلى فشل سياسة التهويل بخيارات عسكرية دراماتيكية هدفت إلى ثنيها عن خياراتها، ومن ثمّ ارتقاؤها في ردّها المتدحرج في المجال النووي، والذي بلغ مستويات فاجأت القوى الإقليمية والدولية نتيجة قراءة خاطئة للواقع الإيراني، وصولاً إلى تحديد المرشد ثوابت نهائية للعودة إلى الالتزام بمقتضيات الاتفاق النووي. يُضاف إلى ذلك أن إدارة بايدن تتبنّى خيار المفاوضات، والحرص على مبدأ أساسي هو عدم التورّط في خيارات عسكرية.
في ما يتعلّق بالسيناريوات الممكنة البديلة، تُجمِع القيادات السياسية والعسكرية والاستخبارية على رفض العودة إلى اتفاق 2015، وخاصة أنه سيؤدي إلى رفع العقوبات عن إيران. هنا، تحضر المخاوف من تداعيات ازدهار اقتصادي محتمل في إيران، وانعكاساته على مواصلتها تطوير قدراتها واقتصادها ودعمها حلفاءها. أيضاً، ترفض تل أبيب العودة إلى الاتفاق كونه ينصّ على تحديد تواريخ لنهاية السريان؛ فبموجبه يُسمح لإيران منذ بداية عام 2023 باستيراد وتطوير قطع صواريخ باليستية، وفي عام 2026 سيكون بإمكانها العودة إلى الأبحاث والتطوير النووي، وفي عام 2030 بإمكانها تخصيب اليورانيوم مثلما تشاء. ويعني ذلك أنه بعد انتهاء المواعيد، ستملك إيران المشروعية والقدرة على إنتاج أسلحة نووية، بعد أقلّ من عقد. أمّا بخصوص التوصُّل إلى اتفاق مُحسَّن، فقد كشفت صحيفة «معاريف» أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، كرّر، في محادثات كثيرة خلال الأشهر الأخيرة، أنه «لا يؤمن أن بالإمكان التوصُّل إلى اتفاق نووي مُحسَّن مع إيران»، في إشارة إلى تبدُّد الرهان لديه على إمكانية إخضاعها. ويبدو أن هذا هو ما استخلصه من تجربة «العقوبات القصوى».
في المقابل، يختلف العديد من المسؤولين في الأجهزة الأمنية الإسرائيلية مع نتنياهو، ويرون أن هناك «إمكانية للتوصُّل إلى اتفاق مُحسَّن، يُبقي إيران على مسافة عشرات السنوات من القدرات النووية (العسكرية)». وأضافت «معاريف» إن رئيس الأركان، أفيف كوخافي، «الذي بدا كَمَن يتّفق مع نتنياهو في الموضوع الإيراني، يؤمن أن بالإمكان التوصُّل إلى اتفاق مُحسَّن مرغوب فيه». وفي السياق نفسه، ثمّة اقتناع لدى أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية بأن «الفرق بين الاتفاق النووي السيّئ الذي أبرمه أوباما، وبين اتفاق محسَّن، يكمن في تفاصيل صغيرة، يمكن أن تقبل بها إيران ولا تجعل الفرق كبيراً». ومن الواضح أن الأجهزة الأمنية والعسكرية تتخوّف من إيران متطوّرة نووياً، وانعكاسات ذلك على الأمن القومي الإسرائيلي. وعلى الخلفية ذاتها، أيّدت تلك الأجهزة، قبل خمس سنوات، الاتفاق النووي، كونه أبعد إيران عن القدرة على إنتاج أسلحة نووية.
وبخصوص الموقف من استمرار العقوبات كبديل من اتفاق مُحسَّن تقبل به إيران، يلاحَظ أن هناك اختلافاً في تقدير منسوب مخاطر السيناريوَين. من جهة، ترى الأجهزة الأمنية أن هذا المستوى من الاتفاق «أفضل من الوضع الحالي»، في حين أن نتنياهو أكّد، عبر بيان صادر عن مكتبه، تعليقاً على الخطوات الأميركية الأخيرة تجاه إيران، أن «الوضع الحالي من دون اتفاق أفضل من اتفاق مُحسَّن قليلاً». هكذا، يتجلّى بوضوح كيف تجد إسرائيل نفسها مضطرة إلى الاختيار بين الخطِر والأخطر، نتيجة استنفاد خيارات بديلة ثَبت عقمها، وبفعل المخاوف من أيّ مغامرة عسكرية، تدرك أنها ستكون محدودة النتائج وعالية الكلفة.
في هذه الأجواء، توالت المؤشّرات التي تُعزّز المخاوف في تل أبيب، وأحدثها المواقف الأميركية التي هدفت إلى توجيه رسالة إلى طهران تؤكّد تمسك واشنطن بخيار المفاوضات والتوصُّل إلى اتفاق بديل. ومع أن إيران ترفض الخطوات الرمزية بعيداً عن أيّ خطوات عملية تؤدي إلى رفع العقوبات، إلا أن ذلك يؤدي إلى تعزيز التقديرات في إسرائيل بأن مسار التطوّرات سيؤدي في نهاية المطاف إمّا إلى التنسيق مع الولايات المتحدة حول التكيُّف مع السقف الذي ستتبنّاه الأخيرة، ومحاولة التأثير في بلورته، أو محاولة التفرّد بخيارات تدرك تل أبيب أنها غير قادرة على الذهاب بها حتى النهاية، أو محاولة القيام بدور المجنون الذي ثبت عقمه في المراحل السابقة، ولا يُتوقَّع أن يحقق أكثر مما حَقّقه. وإلى حين تبلور الخيار النهائي، يبدو أن مؤسّسة القرار الإسرائيلية تراقب المشهد، في الوقت الذي تشهد فيه حالة من التجاذب حول تقدير المخاطر والخيارات الواجب اتخاذها. وفي كلّ الأحوال، ليس أمام تل أبيب سوى البحث عن الخيار الذي ترى أنه، بالمقارنة، أقلّ خطورة. لكنها قد تواجه تحدّياً من نوع آخر، مُتمثّلاً في أن ما هو أقلّ خطورة في المدى المنظور قد ينطوي على مخاطر مرتفعة على المدى البعيد، وبالعكس.