وصار "الحياد" خيمة يتجمّع في ظلّها كلّ من يخجل عن التصريح بتموضعه الجديد أو بحقيقته القديمة المتجدّدة، وكلّ من يحاول تمويه وجه حركته المتطرفة جدًّا نحو الباطل، وإن بنمط مختلف أو جديد أو خاضع لبعض عمليات التجميل "لزوم العمل"..
روّاد الخيمة تلك ليسوا فقط من السياسيين الذين يقدّمون أوراق اعتمادهم للأميركيين أو الذين هم بالأصل وكلاء معتمدين تاريخيًا لدى الأميركي وكلّ مستعمر آخر.. فبعض روّادها أيضًا هم من "الإعلاميين" الذين يحاولون إعادة صياغة دور الإعلامي في الصراع بين الحق والباطل، واختزاله بتظهيره كأداة تدّعي الموضوعيّة والوقوف بالشكل على مسافة واحدة من طرفي الصراع، أمّا في المضمون فمهمة هذه الأداة تمرير كلّ ما يخدم طرف الباطل بلغة قد تجد قبولًا لدى أهل الحقّ.
انتشرت في الآونة الأخيرة عبارة "الإعلامي البوق" وتحوّلت إلى توصيف متداول وإن اختلف مطلقوها حول المعايير التي تجعل من الإعلاميّ بوقًا لجهة أو لأخرى.. حتى استضافت الإعلامية جيسيكا عازار، المرشحة من ضمن لائحة القوّات في الانتخابات النيابية الأخيرة الإعلامي سامي كليب، الحامل للجنسية الفرنسية والمنتقل من قناة الجزيرة إلى قناة الميادين ومنها إلى "الحياد" الذي لم يصرّح حتى الآن عن أجره كحياديّ بعد أن كان قد تباهى يومًا بارتفاع أجره في الجزيرة وبرضاه بأجر أقل في الميادين. حتى بدا أن التموضع في خيمة الحياد إياها يحقّق مكاسب أعلى.. المهم، أراد "الأستاذ كليب" أن يعرّف لنا البوق، ردًّا على سؤال من جيسيكا عازار بعد أن تعمّد إحراجها ليظهر بمظهر البطل الصريح.. مع العلم أن لا بطولة في مواجهة شخصية بلاستيكيّة أثبتت في مسيرتها الإعلامية أنّ تركيبتها كإعلامية تصلح على حدّ تعبير الكثيرين لقراءة المكتوب أمامها وليس أكثر.. المهم، عرّف لنا الإعلامي المخضرم البوق بكونه الإعلاميّ الذي يتخذ طرفًا وينطق باسمه! وبالتالي هو يحسم أن كلّ إعلاميّ غير محايد هو حكمًا بوق.. وبالتالي كان لا بد، وعلى سبيل تنوير الأستاذ كليب حول التعريفات والمصطلحات كي يتفادى في لقاءات قادمة إسقاط خياراته ورؤيته الشخصية على البديهيات والمصطلحات وإظهارها بالشكل الذي يرغب به، أقلّه على سبيل احترام البعض الذي يعتبره أستاذًا في المجال الإعلامي..
في اللغة، البوق هو أداة مجوّفة يُنفخ فيها لإحداث صوت ضخم، وفي الإعلام، البوق هو الصوت الذي يُفرّغ من رأيه الخاص ليُنفخ فيه رأي الجهة التي تستخدمه لإيصال صوتها سواء بمقابل ماديّ أو بغيره.
من هنا، يتضح أنّ البوق أجوف يمكنه أن ينقل صوت او رأي المستخدِم أيًّا يكن، لذلك يُعرف الأبواق باستعدادهم للتنقل بين سائر المواقف بحسب اعتبارات مختلفة قد تتخطى البدل المادي أو تتخذ شكل بدلات معنوية أو وعود بأدوار معيّنة.. أما الممتلىء برأيه وبقناعاته، إلى أيّ جهة انتمى، لا يمكن أن يكون بوقًا.. وبما أنّ التخلّي عن الرأي والتظلّل بالحياد هو تفريغ ذاتي من المضمون فالأقرب لتوصيف البوق الإعلامي هم أولئك الذي يدّعون الحياد بين الحق والباطل ويدعون إليه تحت مسميات مختلفة منها الموضوعية ودور الإعلام بنقل الأحداث كما هي.
وعلى ذكر الموضوعية، ينبغي التذكير أنّها لا تعني الحياد أبدًا، بل هي زاوية نظر محدّدة يُرى من خلالها الحدث.. على سبيل المثال، حين تنقل وسائل الإعلام مشاهد لمجزرة ارتكبها بنو سعود ضد أطفال اليمن، تقتضي الموضوعية أن تلعن المرتكِب وتجاهر بانتمائك إلى حقّ المظلومين بالدفاع عن نفسهم بكل الأشكال المتاحة، أمّا الحياد فيقتضي أن تقف تماما على مسافة واحدة من جثث الأطفال والطائرة التي قصفتهم، ومن هناك تلقي محاضرة عن العروبة التي يجرّحها قصف الرياض.. هنا يصبح واضحًا أن الحياد ليس موقفًا موضوعيًا، بل عداء ملتبس، وإساءة موصوفة للدمّ وللناس..
ختامًا، الإعلاميون الفارغون من رأيهم، والمفرّغون من انتمائهم لقضايا شعبهم وأمتهم، مهما أجادوا تنميق الكلمات المتعلقة بهذه القضايا، ينضحون خواءً يكفي لتحويلهم إلى أبواق تدعو للحياد كي تبرّر تخلّفها عن نصرة الحقّ وكي لا تعلن انحيازها للباطل، لغاية في نفسها أو في نفس الباطل.. الآن، صار من السهل التمييز بين الأبواق والإعلاميين، وصار من الجميل أن نعيد النظر في بعض المغالطات التي يريد البعض دسّها في دور الإعلام وتحويلها إلى حقائق..
المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع