تشهد العقوبات الغربية على روسيا، منذ اندلاع حربها مع أوكرانيا قبل أسابيع قليلة، تصعيداً مستمراً وسريعاً، من خلال لجوء الدول الغربية لحزم من العقوبات المشددة، الاقتصادية بالأساس، التى لم يسبق تطبيقها من قبل على اقتصاد بهذا الحجم والتأثير فى الأسواق العالمية. ومن ناحية أخري، فإن روسيا التى تضرر اقتصادها خلال هذه الفترة القصيرة من العقوبات، قد بدأت بدورها فى اتخاذ خطوات مقابلة، والتلويح بأخري، تستهدف تعزيز الضغوط على الاقتصادات والأسواق الغربية، وبالأخص الأوروبية. وبين هذا وذاك، من المتوقع أن تكون لهذه العقوبات الغربية المشددة، وآليات تطبيقها، تداعيات طويلة الأجل وواسعة النطاق، على النظام المالي، والتكامل الاقتصادي، العالميين.

التصعيد الغربى للعقوبات
لجأت الحكومات الغربية سريعاً إلى حزمة من العقوبات المشددة وغير المتدرجة، شملت تجميد الجزء الأكبر من الاحتياطى الأجنبى الروسي، واستبعاد عدد من كبرى البنوك الروسية من منظومة سويفت البنكية، وبالتالى تعطيل معاملاتها المالية الخارجية، بغرض تحجيم التجارة الخارجية الروسية. كذلك، فقد حُظر تصدير عدد كبير من المكونات الصناعية والتقنيات المتقدمة إلى روسيا بغرض تعطيل الصناعة الروسية. كما تم فرض عقوبات على رجال أعمال روس، تشمل مصادرة أصولهم وأموالهم فى الخارج. وقبل أيام، لجأت الولايات المتحدة أيضاً إلى حظر استيراد الطاقة الروسية، من غاز ونفط، بالإضافة إلى الواردات من المأكولات البحرية، والخمور، والأحجار النفيسة.

فى الوقت نفسه، أعلن عدد من كبرى الشركات الغربية، التخارج الطوعى من السوق الروسية والاستثمارات فيه بشكل كامل، تحت ضغط تأثير العقوبات على ممارستها لأعمالها فى روسيا، وكذلك تحت ضغط الرأى العام الغربى الداعى لخطوات كهذه. لكن من ناحية أخري، استثنت حزم العقوبات صادرات الطاقة إلى أوروبا، والبنوك التى تضطلع بالمعاملات المالية المرتبطة بها، وذلك بسبب اعتماد الاتحاد الأوروبى على روسيا فى نصف وارداته من الفحم تقريباً، و41% من وارداته من الغاز الطبيعي، وثلث وارداته النفطية تقريباً، وهو ما يعنى أن الاقتصاد الأوروبي، والحياة اليومية به يعتمدان إلى حد بعيد على الطاقة الروسية فى الوقت الراهن. أما واردات الولايات المتحدة من النفط والغاز الروسيين، فلم تكن تتعدى 8% من إجمالى وارداتها من مصادر الطاقة هذه، وبالتالى كان حظر استيرادها خطوة ممكنة.

الرد الروسى
تسببت العقوبات الغربية فى ضرر واسع النطاق على الاقتصاد الروسي، فقد تراجعت العملة الروسية أمام نظيراتها الأجنبية بمقدار النصف تقريباً، وقفز بالتالى معدل التضخم، وأسعار الفائدة، بالتزامن مع نقص فى عدد من السلع والمنتجات نتيجة العقوبات، وهى العوامل التى من المُتوقع أن تؤدى إلى انكماش اقتصادى حاد. وبالتالي، بدأت روسيا فى الرد بتطبيق إجراءات مقابلة، للضغط على الاقتصادات الغربية، جاء فى مقدمتها إيقاف صادراتها من 200 سلعة حتى نهاية العام، تضم سلعاً أساسية، بالإضافة إلى منتجات مُصنعة، كما علقت صادرات القمح والشعير والذرة وعدداً من السلع الزراعية إلى بلدان الاتحاد الأوراسى حتى أغسطس، لتأمين احتياجات السوق المحلى من الغذاء. وتهدف هذه الخطوة إلى زيادة أسعار هذه السلع والمنتجات فى السوق العالمي، بما يضاف إلى تأثير الحرب على ارتفاع أسعار الطاقة والمعادن والسلع الغذائية، ووصولها لمستويات هى الأعلى منذ عقود لبعضها، والأعلى على الإطلاق بالنسبة لأخري، وهو ما يفاقم من زيادة التضخم فى الاقتصادات الغربية –والعالم– ويهدد بدفعها إلى أزمة ركود تضخمي.

كذلك، أعلنت روسيا، فى رد على الشركات الأجنبية التى بدأت فى التخارج من السوق الروسية بعد العقوبات، أنها تدرس الاستحواذ على أصول هذه الشركات فى روسيا، وهو ما يشمل على الأخص، أصولاً إنتاجية تتخطى عشرات المليارات من الدولارات لكبرى شركات الطاقة، تضم حصصاً فى مصافٍ للنفط ومعامل تكرير وخطوطا للنقل والتخزين وخلافه. أما ورقة الرد الأهم التى تحتفظ بها روسيا، فهى قطع إمدادات الطاقة عن أوروبا، وهو ما سيتسبب فعلياً فى شل أنشطة وقطاعات اقتصادية بأكملها فى أنحاء القارة، وكذلك فى عجز فى الطاقة المستخدمة فى تدفئة القطاع العائلى خلال فصل الشتاء. وتدرك روسيا –وأوروبا– جيداً عدم وجود بدائل فورية، أو حتى على المدى المتوسط، للطاقة الروسية لأوروبا نتيجة الثقل الروسى الكبير فى سوق الطاقة العالمي، مع نقص المعروض فى الأخيرة، بالتزامن مع عدم جاهزية البنية التحتية للطاقة فى أوروبا للبدائل المطروحة مستقبلاً.

نطاق أوسع من التداعيات
علاوة على التداعيات الاقتصادية المباشرة، سواء للعقوبات الغربية على الاقتصاد الروسي، والإجراءات الروسية المقابلة على الاقتصاد الأوروبى والعالمى كذلك، فمن المُتوقع أن تنتج عن هذه العقوبات، غير المسبوقة قياساً على الاقتصاد المُستهدف، تداعيات طويلة الأجل على بنية النظام المالى والتكامل الاقتصادى العالميين.

وكشفت هذه العقوبات عن التحكم الكامل والفورى للحكومات الغربية فى المنظومة المالية العالمية، حتى ما يخرج منها رسمياً عن سيطرة الحكومات، وتديره البنوك والشركات الخاصة، مثل منظومة سويفت على سبيل المثال. ويُضاف إلى ذلك، العقوبات الشاملة والفورية على مؤسسات وأفراد روس بدون أطر أو إجراءات قانونية، وكذلك تجميد الجزء الأكبر من الاحتياطى الروسى الأجنبي، بل والحديث عن مصادرته. ومن الحتمى أن تثير حدة هذه العقوبات، ونطاقها وآلية تطبيقها، مخاوف عدد كبير من بلدان العالم، خاصة النامية الكبري، وفى مقدمتها الصين، وبلدان فى أمريكا اللاتينية وآسيا، وحتى فى الشرق الأوسط نفسه، من هشاشة اقتصاداتها أمام عقوبات الحكومات الغربية. وقد تدفعها هذه المخاوف–المنطقية-إلى السعى لتجاوز النظام المالى والمصرفى الحالى الذى تسيطر عليه الدول الغربية، من خلال بدائل لمنظومة المعاملات المالية الدولية الراهنة، وتنويع الاحتياطيات الأجنبية لحمايتها، والسعى لاستخدام عملات بديلة عن الدولار فى التبادل التجاري، لتجنب مصير مماثل لروسيا حال الدخول فى صراع مع قوى غربية كبري.

ومن المُتوقع أن تقود الصين هذه المساعي، بسبب توتراتها القائمة مع الولايات المتحدة، وتعرضها بالفعل لعقوبات اقتصادية، تتعلق بهونج كونج ومقاطعة جينجيانج، بالإضافة إلى ثقلها فى الاقتصاد العالمي. وقد يدفع ذلك الصين للعمل نحو تطوير بدائل، قد تشمل زيادة التبادل التجارى بالعملة الصينية عوضاً عن الدولار، وتنويع احتياطياتها الأجنبية التى تتخطى 3 تريليونات دولار، وطرح منظومة CIPS التى تسهل تسوية وتبادل المعاملات بالعملة الصينية، كآلية بديلة عن المنظومة الغربية لتبادل المعاملات بالدولار. ومن المؤكد أن مثل هذا التحول لن يكون فورياً، أو كاملاً، ولكنه سيبدأ على الأغلب، وسيستمر خلال سنوات، ويكتسب زخماً جديداً مع كل حزمة من العقوبات الاقتصادية تفرضها الدول الغربية فى صراعاتها المختلفة.

المصدر: حسين سليمان - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاس