أعلنت كوريا الشمالية، في 24 مارس الفائت (2022)، إجراء تجربة لإطلاق الصاروخ الباليستيى العابر للقارات "هواسونغ -17"- وهو أكبر صاروخ باليستي عابر للقارات لدى بيونج يانج - وذلك بعد أن توقفت عن تلك الاختبارات لمدة تصل إلى أكثر من أربع سنوات. ورغم أن تقارير غربية عديدة أبدت شكوكاً في مدى إقدام بيونج يانج على تلك الخطوة وتوقيتها وطبيعة ما تم إجراء التجربة على إطلاقه، إلا أن ما أعلنته الأخيرة كان له دلالات عديدة على المستويين الإقليمي والدولي من حيث البعد الزمني والتقني والمكاني لاختبار هذا الصاروخ بالإضافة إلى اقتران الاختبارات الصاروخية بالتجارب النووية لدى بيونج يانج، وهو ما فرض تساؤلات عديدة حول رسائل هذه الخطوة، ومغزى التوقيت، وتداعيات ذلك على التصعيد مع الولايات المتحدة الأمريكية وكوريا الجنوبية، ومدى ارتباطه بتطورات الحرب الروسية في أوكرانيا.

دلالات عديدة

من المعروف أن كوريا الشمالية تستند في سياستها العسكرية على تطوير منظومتيها الصاروخية والنووية، وأن التسلح يعتبر أولوية بالنسبة لها، حتى ولو كان ذلك على حساب الاقتصاد الكوري، وهو ما بدا جلياً في التجربة الصاروخية الأخيرة، حيث واصلت كوريا الشمالية زيادة تطوير صواريخها الباليستية، بإطلاق صاروخ هواسونغ- 17. وقد طرحت تقنية هذا الصاروخ وتوقيت الإعلان عن إجراء تجربة لإطلاقه أبعاداً ودلالات عديدة على المستويين الاقليمي والدولي يمكن تناولها على النحو التالي:

1- تعتبر التجربة مؤشراً على تراجع الزعيم الكوري كيم جونج أون عن تعهده بوقف التجارب الصاروخية منذ عام 2017. كما أن المدى ومنطقة الاختبار تعد رسالة موجهة بشكل كبير للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها بالمنطقة، حيث أجرت كوريا الشمالية ما يصل إلى سبع عمليات إطلاق في يناير الماضي، وهو أكبر عدد تم تسجيله في شهر واحد، لكن لم تتضمن أي من تلك العمليات صواريخ باليستية عابرة للقارات، حتى أعلنت عن التجربة الصاروخية الجديدة، حيث سقط الصاروخ هواسونغ-17 في  المنطقة الاقتصادية الخالصة لليابان في بحر اليابان، على مسافة نحو 150 كلم شرق شبه جزيرة هوكايدو أوشيما[1]، وهو ما يمثل تهديداً مباشراً لليابان وكوريا الجنوبية. ويشير ارتفاع الصاروخ إلى تطور نوعي جديد في منظومة الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، خاصة فيما يتعلق بإمكانية تخطي مداه 13 ألف كيلو متر وهو ما يعني أنه يصل إلى الولايات المتحدة الأمريكية[2].

2- يطلق على الصاروخ اسم "الصاروخ الوحشي"، لأنه أكثر تطوراً من صاروخ هواسونغ -15 الذي اختبرته كوريا الشمالية في عام 2017 ويمكنه الوصول إلى جزء من الولايات المتحدة الأمريكية، كما أنه أكبر صاروخ في مخزون كوريا الشمالية، حيث قد يحمل عدة رؤوس حربية مما قد يعطيه القدرة على تخطي مسار الأسلحة المضادة للصواريخ، بالإضافة إلى قدرته على حمل رأس نووي، في مؤشر على أن كوريا الشمالية ستلحق بالمنافسة الدولية للصواريخ العابرة للقارات إذا سارت على الوتيرة نفسها.

3- ثمة اتجاه نحو استخدام الصاروخ هواسونغ-17 لأغراض الردع، فعلى الرغم من القدرة الهجومية لهذا السلاح، إلا أن تصريح الزعيم الكوري كيم جونج اون بأن "السلاح الجديد سوف يؤدي بشكل موثوق مهمته وواجبه كرادع قوي للحرب النووية" يوحي بأن ثمة مخاوف تنتاب كوريا الشمالية من اندلاع حرب نووية وضعف قدرتها على مواجهتها، وهو ما جعلها تطور المنظومة الباليستية لما لها من قدرة على حمل رؤوس نووية، وبما يعكس قدراتها التسليحية أمام خصومها الدوليين والإقليميين.

4- تشكل منظومة الصواريخ الباليستية، بالتوازي مع التجربة الصاروخية الجديدة، هاجساً أمنياً كبيراً لدى الولايات المتحدة الأمريكية وكوريا الجنوبية واليابان، نظراً لطبيعة المديات القادرة على الوصول إلى المحيط الإقليمي لهذه الدول كما هو موضح بالرسم رقم (1)، حيث تتضمن أنظمة كوريا الشمالية مجموعة من المدفعية والصواريخ قصيرة المدى، بما في ذلك صواريخ سكود القديمة وصواريخ نو دونغ. وفي عام 2019، اختبرت كوريا الشمالية مجموعة من الصواريخ الجديدة قصيرة المدى والتي تعمل بالوقود الصلب مثل KN-23 وKN-25. وقد اتخذت بيونج يانج أيضاً خطوات واسعة النطاق نحو تكنولوجيا الصواريخ بعيدة المدى، حيث اختبرت لأول مرة صاروخاً باليستياً للقارات، وهو Hwasong-14 في يوليو 2017. وتبع ذلك اختبار لتصميم أثقل صاروخ باليستي عابر للقارات، وهو Hwasong-15، في نوفمبر من العام نفسه. وقد عرضت كوريا الشمالية صاروخين باليستيين بعيدى المدى، KN-08  وKN-14، ولكن حتى الآن لم يتم اختبار هذه الصواريخ، وليس من الواضح ما إذا كانت لا تزال تواصل برامج تطويرها أم لا[3]، وكما هو واضح بالصورة رقم (1) فإن منظومة الصواريخ الكورية يمكنها الوصول بمدياتها إلى كوريا الجنوبية واليابان بالاضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

والجدير بالذكر أن برنامج الصواريخ الباليستية العابرة للقارات لكوريا الشمالية يعد أحد الدوافع الأساسية لقرار تطوير ونشر نظام الدفاع "ميدكورس" الأرضي الأمريكي لحماية الولايات المتحدة الأمريكية، وهو أحد المؤشرات على استمرارية ارتفاع وتيرة الصراع بين الطرفين خاصة في ظل استغلال كوريا الشمالية لتوقيت الحرب الروسية- الأوكرانية وتركيز الولايات المتحدة الأمريكية في تلك الحرب للقيام بإجراء تجاربها الصاروخية.

شكل رقم (1): منظومة الصواريخ الباليستية لكوريا الشمالية

 

source: https://missilethreat.csis.org/country/dprk/

وعلى الرغم من خضوع كوريا الشمالية لعقوبات دولية بسبب برنامجيها الصاروخي والنووي واتخاذ زعيمها قراراً بالوقف الذاتي للتجارب، إلا أنها مضت في تحديث تلك المنظومة وأجرت عدداً قياسياً من الاختبارات الصاروخية، بما فيها صواريخ فرط صوتية وصواريخ باليستية متوسطة المدى[4]، ومن المتوقع أن تكون بصدد تجربة نووية جديدة لتأكيد وضعها كقوة نووية في وقت يتركز فيه اهتمام الغرب على الحرب في أوكرانيا، فقد ارتبطت تاريخياً التجارب النووية بالتجارب الصاروخية لدى كوريا الشمالية، وقد أجرت ست تجارب نووية، ثلاث منها خلال فترة حكم كيم جونغ أون، وفي عام 2015 أي بعد ثلاث سنوات من التجربة النووية الأولى في عهده، أعلنت أنها نجحت في اختبار قنبلة هيدروجينية أقوى بكثير من القنبلة الذرية. وفي مارس 2016 أكدت أجهزة الاستخبارات الأمريكية المعلومات[5].

رسم توضيحي لتاريخ التجارب النووية لكوريا الشمالية

 

 Source: https://missilethreat.csis.org/country/dprk/

أما التجربة النووية السادسة والأخيرة فكانت عام 2017، فقد أكدت بيونغ يانغ وقتها أنها أجريت على قنبلة هيدروجينية. وتعتبر هذه التجربة الأقوى حتى اليوم، فقد تسببت، في 3 سبتمبر 2017، بهزة أرضية بلغت قوتها 3.6 درجات، كما أدت إلى انهيارات أرضية وهزات ارتدادية وكانت أقوى بـ8 مرات من القنبلة التي ألقيت على هيروشيما ونجازاكي.

 ويتمثل المؤشر الرئيسي هنا لإجراء التجربة النووية في تكرارية الارتباط بين التواريخ الخاصة بالتجارب الصاروخية والنووية، بالإضافة إلى إعلان كوريا الجنوبية أن بيونغ يانغ تقوم بترميم 4 أنفاق في موقع "بانجي-ري" للتجارب النووية، الذي تزعم أنها دمرته في مايو 2018، بحضور مراسلين دوليين لإثبات نيتها في التخلص من الأسلحة النووية[6].

الحرب الأوكرانية وسيناريوهات الموقف الكوري

من المتعارف عليه أن الصراعات بين القوى الدولية تفرض، في بعض الأحيان، أنماطاً مختلفة من التحالفات، كما أنها تدفع دولاً عديدة إلى محاولة استغلال انخراط تلك القوى فيها لتحقيق مصالح خاصة بها، وهو ما عملت كوريا الشمالية على استغلاله من خلال الحرب الأوكرانية، حيث تتجه إلى توسيع نطاق علاقاتها التعاونية في المجال العسكري مع كلٍ من روسيا والصين وإيران.

وفي هذا السياق، لم يأت موقف كوريا الشمالية متناغماً مع الموقف الروسي ومندداً بالموقف الأمريكي فحسب، بل إنها أمعنت في انتهاك وقف تطوير منظومتي السلاح الصاروخي الباليستي والنووي ليصل التهديد إلى الولايات المتحدة الأمريكية. ولم يكن هذا المشهد بمعزل عن الموقف الأمريكي الداعم لكوريا الجنوبية عسكرياً، حيث أن واشنطن عززت أنظمة دفاعاتها المضادة للصواريخ في كوريا الجنوبية وأجرت عرضاً جوياً من على حاملة طائرات في البحر الأصفر بعد التجارب الكورية الشمالية الأخيرة التي سبقت الصاروخ العابر للقارات، خاصة في ظل ضعف منظومة السلاح الجوي لدى كوريا الشمالية، وهو ما تستغله الولايات المتحدة الأمريكية وكوريا الجنوبية. وبالتالي قد يعكس المشهد محاولة من جانب بيونج يانج لتكوين معسكر شرقي في مواجهة المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية التي دعمت أوكرانيا، على الرغم من كونها ليست ضمن الاتحاد الأوروبي أو حلف الناتو، وهو ما سيجعل بيونج يانج تتجه نحو توطيد علاقاتها مع روسيا والصين، خاصة في ظل النفوذ الأمريكي في محيطها الاقليمي.

وفي المقابل، ثمة مخاوف أمريكية- غربية تصاعدت عقب الحرب الروسية-الأوكرانية من اندلاع سباقات تسلح، كما هو الحال في حالة كوريا الشمالية. لكن هذه المخاوف لم تدفع واشنطن إلى تقليص أهمية التعويل على الخيار الدبلوماسي بالتوازي مع إعلان فرض عقوبات على الأخيرة، وقيام كوريا الجنوبية بإطلاق صواريخ من البر والبحر والجو في بحر اليابان[7].

وعلى ضوء ذلك، يمكن النظر للموقف الراهن من خلال سيناريوهين رئيسيين: السيناريو الأول، أن تسعى كوريا الشمالية إلى فرض أمر واقع بمواصلة تجاربها الصاروخية والنووية، في إطار تبني سياسة جديدة لردع خصومها الإقليميين والدوليين، وهو ما سوف يضعف الخيار الدبلوماسي المطروح في النهاية، ويعيد الأزمة إلى مربعها الأول من جديد.

والسيناريو الثاني، شن هجوم استباقي على كوريا الجنوبية، تحسباً لهجوم محتمل من قبل الأخيرة والولايات المتحدة الأمريكية. إلا أن هذا السيناريو مستبعد، خاصة أنه يواجه إشكاليات لا تبدو هينة، وذلك لضعف سلاح الجو لدى كوريا الشمالية وتفوق كوريا الجنوبية في هذا المجال.

وعلى ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن ثمة حالة من التأثير والتأثر بدت جلية بين الحرب الروسية في أوكرانيا والتصعيد المتواصل بين كل من كوريا الشمالية من ناحية، والولايات المتحدة الأمريكية وكوريا الجنوبية من ناحية أخرى. إذ يمكن أن يؤدي استمرار الحرب إلى مزيد من التصعيد بين الأطراف الثلاثة الأخيرة، لاسيما في حالة ما إذا أجرت بيونج يانج مزيداً من التجارب الصاروخية. كما أنها قد تكون سبباً في توسيع نطاق العلاقات بين الأخيرة وموسكو، التي قد تتجه بدورها إلى تبني نموذج "الكوريتين" في التعامل مع المسارات المحتملة التي يمكن أن تنهي من خلالها تلك الحرب خلال المرحلة القادمة.  


[1]North Korea Ends ICBM Moratorium with Provocative Missile Test,24 march 2022: https://nationalinterest.org/blog/korea-watch/north-korea-ends-icbm-moratorium-provocative-missile-test-201429

[2] كوريا الشمالية تعلن "نجاح" إطلاق أكبر صاروخ باليستي عابر للقارات، 25 مارس 2022:

https://www.bbc.com/arabic/world-60871117

[3] Missile of north Korea, 24 march 2022: https://missilethreat.csis.org/country/dprk/

[4] تاسع تجربة صاروخية... كوريا الشمالية تطلق "مقذوفاً غير محدد"، 5 مارس 2022:

https://www.independentarabia.com/node/308811/%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AE

[5] أبرز محطات التجارب النووية في كوريا الشمالية، فرانس 24، 12 يونيو 2018:
https://www.france24.com/ar/20180611

[6] تقارير: كوريا الشمالية بدأت ترميم أنفاق موقع تجارب نووي مغلق منذ 4 سنوات،  12 مارس 2022:

https://arabic.sputniknews.com/20220312

[7] كيم أمر باختبار "نوع جديد" من الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، صحيفة الخليج، 25 مارس 2022:

https://www.alkhaleej.ae/2022-03-2585/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9

المصدر: مروة أحمد سالم - مركز الأهرام للدراسات السياسية وا