على الرغم من سيادة الخطاب الأيديولوجي حول «الليبرالية» اللبنانية وإيمانها بالسوق الحرة، التي مجّدها رئيس «جمعية تجار بيروت»، نقولا شمّاس، في حراك صيف 2015، باعتبارها ماضي لبنان ومستقبله الذي يدافع عنه، إلا أنَّ السوق اللبنانية لا تقترب حتى من أن تكون حرّة، بل هي سوق، على صغر حجمها، احتكارية بامتياز، تهيمن عليها الكارتيلات، ترفع الأسعار وكلفة المعيشة وتجني الأرباح الفاحشة بأدنى
معدّل ضريبة
"الاحتكار" ظاهرة متأصلة في النظام الرأسمالي، لا تعالجها "اليد الخفية" ولا "المزاحمة"، إلا عبر الدولة، التي تمتلك قدرة "التدخل" لمنع سيطرة القلة على سوق ما. في لبنان، طُرح مشروع قانون المنافسة منذ نحو 14 عاماً ولم يُقَرّ، بسبب قوّة المحتكرين ونفوذهم. تمكنت الكارتيلات المهيمنة، لا على السوق فحسب، بل على الدولة ومؤسساتها، من منع إقرار مشروع القانون، على الرغم من أنه لا يفعل الكثير على صعيد كسر الاحتكار وتجريمه، بل يكتفي بتهذيب الاحتكار قليلاً.
قبل ذلك، طُرح مشروع قانون يرمي إلى إلغاء الحماية القانونية للوكالات الحصرية التجارية (أي الاحتكار المقونن)، وكاد المحتكرون يسبّبون حرباً أهلية طائفية دفاعاً عن احتكاراتهم. بعده، طُرح قانونا حماية المستهلك وسلامة الغذاء، استغرق إقرارهما زمناً طويلاً، وجرى تفريغهما من أي أدوات فعلية لضمان بعض الحقوق البديهية المتعلقة بالحدّ من حرية التجّار في بيع ما يضرّ بالصحّة أو ينطوي على غش أو خداع أو استغلال لأوضاع خاصة.
هذا في الواقع القانوني، حيث الاحتكار محميّ والتجار أحرار في فعل كل ما يحلو لهم. في المقابل، قليلة هي الدراسات التي تتناول الاحتكار في لبنان، ويعيد البعض ذلك إلى غياب المعلومات الكافية. الدراسة الأشهر والأشمل التي تطرقت إلأى الأمر بالتفصيل، هي التي فرضت على لبنان من قبل الاتحاد الأوروبي الذي موّلها أيضاً، ونفذها الخبير الاقتصادي توفيق كسبار عبر عقد مع مؤسسة البحوث والاستشارت، لتصدر عام 2003 تحت عنوان «المنافسة في السوق اللبنانية». وتناولت الدراسة 288 سوقاً فيها 7029 شركة. وتقول الدراسة إنها استبعدت 34 سوقاً في مجالات التعليم، والصحة، والعمل الاجتماعي وغيرها، إضافةً إلى بضعة مصارف تجارية.
وجدت الدراسة، على سبيل المثال، أنَّ 95% من سوق استيراد الغاز تهيمن عليه شركة واحدة، حيث حجم المبيعات حينها، بحسب الدراسة، كان نحو 169 مليون دولار. أما في سوق الوقود الصلبة والسائلة والغازية والمنتجات ذات الصلة، فتستحوذ شركة واحدة على 43% من مجموع المبيعات (3 شركات تستحوذ على 83%) التي تصل إلى 107 ملايين دولار (الأرقام عائدة إلى عام 2003). أما سوق المشروبات الغازية، فشركة واحدة تحتكر 45% من سوق حجمه 172 مليون دولار في ذاك الحين. كذلك شركة واحدة تحتكر 48% من سوق طلاء المعادن والهندسة الميكانيكية العامة التي وصل حجمها حينها إلى 249 مليون دولار، فيما تحتكر 3 شركات 100% من السوق. أما في القطاع الزراعي، فتؤكد الدراسة أنّ 1% من كبار اصحاب الحيازات الزراعية (شركات زراعية كبرى) يسيطرون على 25% من السوق، و20% من كبار المزارعين يسيطرون على 73% من السوق، الذي لا يقلّ حجمه عن مليار دولار في عام 2003 (وهو اليوم يصل إلى 3.24 مليارات دولار دون أن تنخفض نسب الاحتكار بل العكس).
هذه الأرقام العائدة إلى عام 2003 حين كان إجمالي الناتج المحلي نحو 20 مليار دولار، باتت مضاعفة في ظل ناتج محلي يقدّر بنحو 54 مليار دولار، فإذا اعتبرنا أنّ نسب الاحتكار بقيت على حالها ولم ترتفع، تكون الأرباح التي بات يحققها المحتكرون قد تضاعفت. بناءً على الدراسة المذكورة أعلاه، إضافةً إلى معلومات أخرى، يستنتج تقرير للبنك الدولي عام 2006، أنَّ ما يسميها الأرباح الريعية الناجمة عن الاحتكار في الأسواق اللبنانية (أي الأرباح الناتجة ــ بحسب التقرير ــ من الاحتكار فقط، لا مجمل أرباح هذه الشركات)، تصل إلى نحو 16% من إجمالي الناتج المحلي، أي نحو 8.6 مليارات دولار بحسابات اليوم.
أما دراسة «المنافسة في السوق اللبنانية»، فوجدت أن 52% من الأسواق عام 2003، التي تمثّل نحو ربع الشركات في لبنان، يمكن اعتبارها احتكارية، بحيث تهيمن عليها إما 5 شركات أو أقل، وتحتكر نسبة 60% من المبيعات، وبالتالي الأرباح. إضافةً إلى ذلك، تذكر الدراسة أن نحو 36% من هذه الأسواق تهيمن عليها شركة واحدة حصتها على الأقل 40%. وبحسب الأرقام الصادرة عن وزارة الاقتصاد، كان حجم الاستهلاك عام 2003، نحو 20.47 مليار دولار، ما يعني أنّ الشركات الاحتكارية كان لها نصيب بنحو 12.2 مليار دولار منها. وإذا اعتبرنا أن نسبة الاحتكار في الأسواق اللبنانية بقيت على حالها، فيما كان حجم الاستهلاك النهائي (أي التي نجم عن عمليات بيع سلع نهائية) عام 2015 نحو 45.6 مليار دولار، تكون الشركات المحتكرة تسيطر على نحو 27.36 مليار دولار من فاتورة الاستهلاك، أي أكثر من ضعف ما كانت عليه عام 2003.
هذه الأرقام تعبّر عن أرباح فاحشة يجنيها عدد قليل من المستوردين المحتكرين، وهؤلاء الذين يتفنون في أساليب التهرّب من الرسوم الجمركية وإغراق الأسواق بالبضائع الفاسدة، يتفنون أيضاً في أساليب التهرّب من الضريبة على القيمة المضافة والتهرّب من ضريبة الأرباح المتواضعة جداً (نموذج الدفترين المعروف واحد للضرائب والآخر لتراكم الثروة). يقف المحتكرون إلى جانب المصرفيين والمضاربين العقاريين سدّاً منيعاً ضد أي تعديل ضريبي يهدف إلى إصلاح الخلل، ولو بشكل طفيف. في حساب بسيط لنتائج عام 2016، يتبيّن أن مجمل ضرائب الأرباح ورؤوس الأموال والأملاك (ما عدا الضريبة على الأجور ورسوم التسجيل العقاري) بلغ 1.8 مليار دولار فقط، وهذا الرقم الهزيل، بالمقارنة مع ما تجنيه الاحتكارات والمصارف والمضاربات العقارية، يكشف طبيعة الصراع الدائر اليوم، فالرابحون باختصار يريدون أن يعظّموا أرباحهم باستمرار من دون أن يتحمّلوا أي عبء ضريبي.
كارتيل الأدوية
تحتكر 10 شركات استيراد نحو 90% من تجارة الأدوية، منها 4 شركات تستحوذ على 50% من السوق. ولكل دواء نسبة جعالة تذهب للصيدلي والمستورد وتحدد بحسب تصنيفات الأدوية لدى وزارة الصحة. وتزيد غالبية الجعالات المحصّلة على 30%. وتعد هذه النسبة الحدّ الأدنى للأرباح التي يحصّلها تجّار الأدوية من المستهلك في لبنان. واستورد لبنان عام 2016 أدوية بمليار دولار، فيما وصل حجم السوق إلى نحو 1.48 مليار دولار. أي أن الجعالات والأرباح الثابتة و«المعروفة» تزيد على 480 مليون دولار للمستوردين وللصيدليات، وقد تكون أكثر من ذلك إذا عُرف حجم التلاعب بفواتير المنشأ.
الحديد
تسيطر 5 شركات على نحو 68% من مجمل سوق المعادن، وتستحوذ 3 شركات تجارة معادن على 59% من السوق، وشركة واحدة على 29.4% من مجمل هذه التجارة. ويتحكّم هذا الكارتيل بالأسعار عبر استيراد أكثر من 300 ألف طن سنوياً من أصل 450 ألف طن (معدل عامي 2007 و2008)، وذلك في ظل غياب أي رقابة للدولة على هذا القطاع.
الإسمنت
ثلاث شركات في لبنان تعمل في صناعة الإسمنت وبيعه في لبنان، وهي: «هولسيم»، «الترابة الوطنية» (السبع)، «ترابة سبلين». هذه الصناعة والتجارة محمية في لبنان في ظل منع الاستيراد، وبالتالي تلقى البنية الاحتكارية دعماً مباشراً من الدولة. وقد تمكنت هذه الشركات من مضاعفة سعر مبيع طن الترابة السوداء في السوق المحلي من 63 دولاراً في 2005 إلى 110 دولارات العام الماضي، دون أن ترفع أسعار ما تصدره إلى الأسواق الخارجية، حيث بقي سعر التصدير الوسطي 70 دولاراً للطن عام 2015، أي أفضل من السعر في السوق المحلية بنسبة 36%. وتصل الطاقة الإنتاجية لهذه المصانع إلى 10 ملايين طن سنوياً، إلا أنها تقلّص وتزيد إنتاجها بحسب حاجات الأسواق المحلية والخارجية، ولذلك تتلاعب بالأسعار بما يتناسب مع مصالحها. وكان حجم مبيعاتها عام 2015، بين السوق المحلي والخارجي نحو 377.4 مليون دولار.
الغاز
تتحكم شركة واحدة باستيراد الغاز إلى السوق اللبنانية، صاحبها رجل الأعمال طلال الزين، وهي تدير كارتيلاً مؤلفاً من خمس شركات توزيع أهمها «صيداكو» التي يملكها النائب وليد جنبلاط وغيرها «نوردغاز»، «يونيغاز»، «كالميد غاز»، و«غاز الشرق». ويصل المتوسط السنوي لأرباح هذه الشركات إلى نحو 42.2 مليون دولار، أي ما يوازي 1.055 مليار دولار خلال السنوات الـ 25 السابقة. يصل نفوذ هذا الكارتيل إلى حد الاستيلاء على المديرية العامة للنفط في وزارة الطاقة وتشغيلها كأداة لخدمة مصالحها عبر منع منح إجازات الاستيراد للشركات المنافسة. كذلك يسيطر الكارتيل على خزانات غاز تملكها الدولة اللبنانية تتسع لنحو 700 ألف طن، بالإضافة إلى سيطرته على خزانات القطاع الخاص. وتحقق هذه الشركات أرباحها عبر جدول تركيب الأسعار، وهو عبارة عن مجموع التكاليف التي تتكبدها الشركات مقابل استيراد وبيع الغاز في لبنان بالسعر الذي تحدّده وزارة الطاقة أسبوعياً.
المحروقات
14 شركة نفط يملك جميعها شركات توزيع، وبعضها محطات وقود، تشكّل كارتيل استيراد المحروقات على أشكالها من البنزين والمازوت والغاز والكاز ووقود الطيران، باستثناء المازوت الأحمر المحتكر من الدولة. وفي الأوقات العادية، أي خارج عمليات دعم المحروقات التي تقوم بها الدولة، يصل عدد وسطاء النقل والتوزيع إلى نحو 40 شركة، إلا أنه في أوقات الدعم «المؤقت» يزيد عددها على 210 شركات للاستفادة من أرباح الدعم عبر التخزين. وتتركّز الحصص السوقية للمستوردين، بعد احتساب عدد المحطات المملوكة منها مباشرة أو متعاقدة معها، في 5 شركات بنسبة 71%، وهي على النحو الآتي:
ــ الحصّة الأكبر لشركة «توتال» بنسبة 18% من مبيعات سوق المحروقات الإجمالية.
ــ 14% لشركة «مدكو ــ كالتكس»، و14% لشركة «IPT»، و14% لشركة وردية «موبيل» أيضاً.
ــ 11% لشركة «كورال». وتراوح حصص الشركات الباقية بين 10% و8%، وهذه الشركات هي: «يونايتد»، «هيبكو»، «يونيترمينال»، «كوجيكو ــ ليفانت»، «ليكوي غاز»، مصفاتا «طرابلس» و«الزهراني»، «الشركة العربية (APEC)» وتبقى هناك شركة واحدة غير عاملة حالياً هي «جيبكو».