توقيف المتهم بـ«جريمة الزيادين» و«رؤوس كبيرة» في تجارة المخدرات وفرض الخوّات
يبدو أن الدولة حزمت أمرها أخيراً بـ«استعادة» الضاحية الجنوبية والبقاع الى كنفها وتخليصهما من «الزعران». خطط الأمن بالتراضي العلنية السابقة لم تؤدّ إلا الى مزيد من ضرب هيبة الأجهزة الأمنية وتآكل رصيدها. بحسب مصادر أمنية: «القرار اتُّخذ ولا خيمة فوق رأس أحد»
أحد أهم عوامل قوة حزب الله يكمن في قوة الاحتضان الشعبي له. وفي هذه «البيئة الحاضنة» نفسها تكمن إحدى أبرز نقاط ضعفه. منها يخرج من يسيئون الى صورة المقاومة، فلا تواجههم دولة مستقيلة من واجباتها، ولا «دولة داخل الدولة» لطالما اتهم الحزب بإقامتها.
والنتيجة فلتان أمني وأخلاقي، وتفشّي المخدرات تجارة وترويجاً وتعاطياً، وعصابات تجبي «خوّات» علناً، و«جزر أمنية» تحكمها عائلات وعشائر، و«مافيات متخصصة» في كل شيء: مولّدات الكهرباء، واشتراكات «الساتالايت» والانترنت، وتوزيع المياه...
كل ذلك بات ينذر بانهيار الأمن الاجتماعي، خصوصاً في الضاحية، «عاصمة» حزب الله ومركز ثقله، كما في البقاع، «خزانه» الشعبي، حيث «يسرح» كبار تجار المخدرات وزعماء عصابات الخطف تحت نظر القوى الأمنية، وتستضيفهم المحطات التلفزيونية في عراضات عسكرية مصوّرة، فيما لم يعد الجنوب، «الخزان» الآخر للمقاومة، في منأى عن استهداف تجار المخدرات ومروّجيها، مع تسجيل زيادات مطّردة في أعداد المتعاطين، خصوصاً في منطقة النبطية وبعض قراها.
الخاسر الأكبر في كل ذلك هو حزب الله نفسه الذي يستغل خصومه الأمر لتصويب السهام عليه، فيما يطالبه جمهوره باجتراح حل يحفظ الأمن الاجتماعي في مناطق نفوذه. وبين هذا وذاك، ليس خافياً الإحراج الذي يقع فيه الحزب: فلا هو قادر على أداء دور رجل الأمن ولا هذه مهمته أصلاً، ولا هو ــــ في الوقت نفسه ــــ قادر على إقناع خصومه (أو أنهم لا يريدون الاقتناع) بأنه ليس حامياً لعصابات الزعران، ولشلل تقدّم انتماءها العشائري على الانتماء الحزبي أو السياسي.
في خطاب له في تشرين الثاني 2009، تحدث الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله مطوّلاً عن محاولات لـ«تدمير بيئة المقاومة»، عبر تفشّي ظاهرة المخدرات. وفي تشرين الأول 2016، في خطاب عاشورائي، تحدث عن «كارثة عظيمة يواجهها مجتمعنا»، داعياً الدولة الى تحمّل مسؤولياتها. بين الخطابين، نظّم حزب الله حملة بعنوان «النظام من الإيمان»، في محاولة لمصالحة الناس مع القانون، وحثّهم على الالتزام بالنظام كجزء من «التكليف الشرعي». لكن الحملة لم تعش طويلاً، بعدما انشغل حزب الله والأجهزة الأمنية في مواجهة التهديدات الإرهابية، فكانت النتيجة زيادة وطأة الفلتان الأمني والأخلاقي. وزادت أزمة النزوح السوري الطين بلّة مع «اندماج» بعض هؤلاء في عصابات ترويج المخدرات وعصابات الخطف والسلب والدعارة، فيما ذهبت كل محاولات الاستنجاد بالأجهزة الأمنية أدراج الرياح. «استقالت» هذه الأجهزة من مهماتها، مرة بذريعة أنها «ممنوعة» من العمل في الضاحية (رغم مطالبات الحزب بزيادة عديد قوى الأمن في هذه المنطقة)، ومرات بحجة نقص العديد، ودائماً على خلفية سياسية لزيادة إحراج المقاومة مع جمهورها، خصوصاً أن الإطلالات التلفزيونية لكبار المطلوبين لا تخلو من توجيه التحيات للمقاومة وسيّدها!
أخيراً يبدو أن شيئاً ما تغيّر. من «بركات» العهد الجديد أن الأجهزة الأمنية قررت أخيراً الاقتناع بأن حزب الله، صاحب النفوذ الأقوى في الضاحية والبقاع، لا يغطّي أحداً، وأنه أكثر المتضررين من الفلتان الذي بات ينخر بيئته الاجتماعية. بناءً على ذلك، بحسب مصادر أمنية، «القرار اتُّخذ بإعادة هيبة الدولة الى هذه المناطق»، وبدأت بالفعل عملية أمنية واسعة لمطاردة كبار المطلوبين من تجار المخدرات ومتزعّمي عصابات الخطف والخارجين على القانون في الضاحية والبقاع.
خطط أمنية سابقة اعتمدت التراضي والاعلان المسبق عنها باءت بالفشل. الجديد اليوم، بحسب المصادر نفسها، أن الحملة التي بدأتها الأجهزة الأمنية منذ أكثر من شهر وتكثفت أخيراً، قائمة على مبدأ أساسي: «لا أمن بالتراضي ولا خيمة فوق رأس أحد». وفي هذا السياق، جاءت عمليات الدهم لحي الشراونة في بعلبك الإثنين الماضي، إذ استهدفت منزل نوح زعيتر، أحد أشهر المطلوبين. ورغم أن العملية لم تنته بتوقيفه، إلا أنها رسالة واضحة بأن الحملة «لن تكتفي بصغار المطلوبين ولن توفّر الرؤوس الكبيرة التي تعتقد بأنها في منأى عن الوقوع في قبضة الأجهزة الأمنية».
عمليات الدهم، خصوصاً في الضاحية والبقاع، شبه يومية منذ أكثر من شهر. وتؤكد المصادر أنه جرى عملياً «كسر مربعين أمنيين لكبار المطلوبين في منطقتي الليلكي وحي الجورة»، فيما تصف غلّة التوقيفات، منذ منتصف شباط الماضي، بأنها «محرزة»، وتتضمن «أسماءً كبيرة جداً». الأبرز بينها ع. شمص، أحد المتهمين بارتكاب «جريمة الزيادين» (الشابان زياد الغندور وزياد قبلان عام 2007 بعد اختطافهما)، وأكثر من عشرة من متزعّمي عصابات فرض الخوّات في الضاحية من أبناء إحدى العشائر البقاعية (عثر في حوزة أحدهم على ما قيمته أربعة ملايين دولار من الهيرويين)، وف. المنذر، أحد أكبر تجار المخدرات في «حي الجورة» في برج البراجنة. والأخير كان يقيم ما يشبه مربعاً أمنياً، إذ عُثر على أكثر من 40 كاميرا للمراقبة نصبها في هذه المنطقة، وكاد توقيفه يتسبب في إحداث مجزرة في القوة المداهمة بعدما تبيّن أنه لغّم باب منزله بعبوتين ناسفتين لم تنفجرا.
كذلك أوقف العشرات بتهم الاتجار بالمخدرات وترويجها وفرض خوات وإطلاق نار وسلب بقوة السلاح وتزوير ودعارة وإثارة الشغب وإطلاق نار، علماً بأن العبء الأكبر في هذه التوقيفات يقع على مديرية المخابرات في الجيش وعلى مفرزة استقصاء جبل لبنان، فيما يُسجّل غياب تام لمكتب مكافحة المخدرات!
وتؤكد المصادر أن «مطلوبين كباراً سيجري توقيفهم قريباً، وأن عمليات الدهم اليومية لن تتوقف في الضاحية وفي كل مناطق البقاع الشمالي وصولاً إلى الهرمل والقصر والشواغير»، مؤكدة أن منطقة البقاع «ستلمس النتائج الايجابية لهذه الحملة خلال أسابيع».
تجدر الاشارة الى أن فشل توقيف بعض المطلوبين، وآخرهم زعيتر الذي توارى قبل نحو نصف ساعة من وصول القوة المداهمة اليه، يشير الى «اختراق ما» يسمح بإيصال معلومات الى المطلوبين، وهو ما يجري العمل على معالجته جدياً. فيما تواجه القوى الأمنية التي تعمل في الضاحية، وفي البقاع إلى حد ما، مشكلة جوهرية، وهي أن أغلب عناصرها من العائلات المقيمة في هاتين المنطقتين، وأن قسماً كبيراً منهم أبناء عشائر ينتمي اليها كثير من المطلوبين، ما يؤدي أحياناً الى تواطؤ بين الطرفين، أو في أحسن الأحوال الى إحجام هؤلاء العناصر عن القيام بمهماتهم خشية إثارة مشاكل عشائرية.
مكتب مكافحة المخدرات غائب عن السمع
منذ تسلم العميد غسان شمس الدين رئاسة مكتب مكافحة المخدّرات التابع للشرطة القضائية، بدا واضحاً، بالنسبة إلى أمنيين وسياسيين، التراجع الكبير الذي أصاب عمل هذا الجهاز على كامل الأراضي اللبنانية لناحية توقيف كبار التّجار والمروّجين. وفي حين يتذرّع البعض بأن العمل الأمني داخل الضاحية الجنوبية صعبٌ بسبب نفوذ حزب الله وأجهزته، وفي ذلك تبريرٌ للتقصير الذي يمارسه المكتب في هذه المنطقة تحديداً، تدحض حركة التوقيفات والنشاط الذي تقوم به استخبارات الجيش واستقصاء جبل لبنان لناحية توقيف تجّار ومروّجين داخل الضاحية هذه النظريّة. ومع أن تقصير مكتب مكافحة المخدّرات لا يظهر في الضاحية وحدها، بل في كلّ لبنان، وهذا دليلٌ آخر على سقوط نظرية صعوبة العمل الأمني داخل الضاحية، يعتقد البعض بأن تراجع عمل المكتب في الضاحية بشكل أكبر من مناطق أخرى يبدو مقصوداً بهدف الإساءة إلى حزب الله وجمهوره، وإغراق الضاحية وأهلها بالمخدّرات وتجّارها، بذريعة القبضة الأمنية لحزب الله، وهو ما لا تشكو منه الأجهزة الأخرى التي تعمل بحريّة وتوقف المطلوبين. ويبدو التقصير في عمل مكتب مكافحة المخدّرات وشمس الدين مسحوباً على كامل عمل جهاز الشرطة القضائية، الذي سجّل غياباً لافتاً عن العمل الأمني منذ تولّي العميد ناجي المصري قيادته. فحتى في ملفات مثل الدّعارة والقمار وتجارة الأسلحة، يغيب الجهاز عن لعب دوره، ولعلّ أبرز مثال هو قيام استقصاء جبل لبنان بضبط أكبر شبكة للاتجار في البشر العام الماضي، بدل أن يكون مكتب مكافحة جرائم الآداب سبّاقاً إلى القيام بعمله.