يعيش القضاة إحباطاً استثنائياً، بعدما فَقَدَ معظمهم الأمل في بناء صرح عدالة متين. المحسوبية والتبعية تتعزّزان. وحتى العلاقة بين مجلس القضاء الأعلى ووزير العدل ليست بخير، وتحديداً بعد إجهاض مشروع «تعزيز استقلالية القضاء»
لن يكون هناك إصلاح إن لم يُرمَ القضاة الفاسدون خارج العدلية. مسلّمةٌ لا يختلف عليها اثنان في قصور العدل اللبنانية، لا سيما أنّ العدلية تعاني أزمة نوعية وأزمة التزام، في ظل وجود قلة قليلة من القضاة لا يُفترض بهم أن يكونوا قضاة يحكمون باسم الشعب. ونعني بهؤلاء إمّا القاضي الفاسد والمستزلم أو القاضي الذي لا يملك القدرة والحضور والالتزام. يقابل هؤلاء قضاة نظيفو الكف، لكنّهم ملّوا الوضع السائد بانتظار الإصلاح والتغيير.
العدلية في خطر محدق. وصروحها لم تكن يوماً أسوأ مما هي عليه اليوم. إحباط وقرف يسيطران على القضاة، عزّزهما فقدان الاستقرار جرّاء تهديدهم بأمنهم الاجتماعي المتمثّل في صندوق تعاضد القضاة، الذي لولاه لترك عدد كبير من القضاة السلك. لذلك قرر القضاة الاعتكاف، وهو موقف عمدت إليه السلطة القضائية لأول مرة في تاريخها ضد ما وصفته بـ«هجمة غير مسبوقة ضدنا». والاعتكاف، بحسب القضاة، «لا يُشبه الاعتصام أو الاضراب، إنما هو رسالة لنُساعد السلطة الأخرى أن تتصرف معنا كسلطة».
ليس هذا فحسب، يشعر القضاة بالغبن، بعد إحباط مسعاهم للنهوض بسلطة قضائية مستقلة، بعدما سُحب عن طاولة البحث مشروع المادة 5 من قانون القضاء العدلي. وهذا المشروع يهدف إلى تحرير السلطة القضائية من السلطة السياسية في آلية إصدار التشكيلات القضائية. وترى المصادر أنّ سحب وزير العدل المشروع تحت ذريعة إعداد مشروع كامل لاستقلالية القضاء، يعني وأد مشروع الاستقلالية في مهده.
وقد برز في دائرة الصراع أيضاً الخلاف على رفع صورة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون. يومها انقسم القضاة جرّاء رفض بعضهم تعليق صورة رئيس الجمهورية لاعتبارهم ذلك مسّاً باستقلالية القاضي، لكونه يُصبح تابعاً لرأس الهرم، لا سيما أنّ الموظفين في الدوائر الرسمية هم من يعلّقون صور الرئيس. ويردّ قضاة آخرون بأن رئيس الجمهورية هو رأس كل السلطات، وهو القاضي الاول، وهو صاحب السلطة الحصرية بإلغاء الاحكام القضائية، من خلال قرارات العفو.
ورغم صدور قرار تعيين القاضي بركان سعد رئيساً لهيئة التفتيش القضائي منذ ثلاثة أسابيع، لم يعيَّن بعد موعد له لأداء حلف اليمين أمام رئيس الجمهورية. وبالتالي، ليس بإمكان القاضي سعد إلى حدّ الآن الانتقال إلى مكتبه الجديد للمباشرة في عمله على رأس هيئة التفتيش القضائي. هذا التأخير سينعكس حكماً تأخيراً لاجتماعات مجلس القضاء الأعلى لمناقشة التشكيلات القضائية المنتظرة.
ويرى قضاة كثر أنّ الساسة لم ينظروا يوماً إليهم على أنّهم أصحاب سُلطة، بل يعاملونهم كموظفين لا يختلفون عن موظفي باقي إدارات الدولة. وكل كلام عن استقلالية القضاء ليس سوى لذر الرماد في العيون. وهنا أصل المشكلة وضربٌ للفصل بين السلطات. يقول أحد القضاة سائلاً: «لماذا يحجّ القضاة لزيارة الوزير جبران باسيل في وزارة الخارجية؟ ماذا يعني أن يزور القاضي السياسي؟ ألا يعلم أولو الأمر في العهد الجديد أنهم بذلك يكرّسون الانبطاح والمبايعة والتبعية؟ فكيف يمكن أن يؤسّسوا لقضاء مستقل؟». وهذه المسؤولية يتحمّلها القضاة أيضاً، إذ إن ظاهرة القضاة الزاحفين على أبواب السياسيين لاستجداء منصب قضائي هنا أو طلب حماية هناك، كرّست التبعية والاستزلام للسياسيين، لا سيما أن هؤلاء، وباعتقادهم أن المظلة السياسية تحميهم، يتنازلون عن استقلاليتهم.
ورغم كل ما سبق، لا يزال كثر من القضاة ينتظرون التغيير. وبحسب قضاة، «إن كانت هناك نية حقيقية فعلاً لإصلاح القضاء، هناك خارطة طريق تسهّل ذلك. والجسم القضائي بأمس الحاجة إلى تطهير عبر إزاحة القاضي المرتكب بتشكيلات قضائية عادلة، يلي ذلك تفعيل التفتيش القضائي لكي ينقّي القضاء نفسه بنفسه، يعقبه استقطاب نوعية قضاة جدد إلى سلك القضاء.
يكاد يجمع القضاة على أنّ الجو السائد في العدلية سلبي، إذ يرون أنّ العمل ليس تأسيسياً لمرحلة مقبلة، بل سعي لتهيئة الكرسي لقاضٍ بديل يؤمن مصالح الطبقة السياسية الحاكمة. لا يُريد الساسة أن يستقل القضاة. قبل عام 2001، كان وزير العدل أو مجلس القضاء الأعلى يقترح مشروع التشكيلات القضائية. فإذا اتفقوا، تصدر التشكيلات، وإن اختلفوا يحال الأمر على مجلس الوزراء. بعد عام 2001، مُنع الوزير من اقتراح تشكيلات قضائية. بات مجلس القضاء الأعلى يقترح على الوزير. ومبرِّر الاقتراح على الوزير كون الأخير معنياً بقضاء الملاحقة، أي قضاة النيابة العامة. وقد أُدخل تعديل على المادة الخامسة من قانون القضاء العدلي يُتيح لمجلس القضاء الأعلى إعلان التشكيلات القضائية بموافقة أكثرية سبعة من أصل عشرة من أعضائه، إذا وقع خلاف بين وزير العدل ومجلس القضاء الأعلى. وفي حال اتّفق الطرفان، يكون لوزير العدل حق إصدار التشكيلات بمرسوم.
وقد تضمّن التعديل حينها تحديد مهلة شهر لإصدار التشكيلات القضائية بعد إيداعها ديوان وزارة العدل، إن لم تصدر بمرسوم. وكانت الغاية من كل ذلك ضمان حسن سير المرفق القضائي وتجنيبه التعطيل جراء عرقلة صدور التشكيلات والمناقلات فترات طويلة بسبب اختلاف أهل السياسة. لكن أُطيح كل ذلك، بعدما دُسّت فقرة ضمن مشروع التعديل تلحظ أن التشكيلات تصدر بمرسوم بناءً على اقتراح وزير العدل.
مع انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، استبشر قضاة كثر خيراً. لكن أداء وزير العدل سليم جريصاتي لم يختلف كثيراً عن أداء سلفه أشرف ريفي. يقول قضاة بارزون إن أحد مستشاري جريصاتي يقوم بالدور الذي كان يلعبه القاضي محمد صعب أيام ريفي. ويرون أنّ جريصاتي كرّس سابقة ريفي حين عيّن قاضياً مستشاراً له. يومها اعترض قضاة لأن زميلهم القاضي محمد صعب رضي بأن يكون مستشاراً لموظف برتبة وزير. وقد تكرر ذلك اليوم مع جريصاتي الذي عيّن القاضي المنفرد الجزائي في المتن طانيوس صغبيني مستشاراً له. فبات الوزير يحيل القضاة الذين يراجعونه على القاضي صغبيني لمتابعة مراجعاتهم.
لا يُريد أهل السياسة أن تكون لمجلس القضاء الأعلى الكلمة الفصل والنهائية في موضوع تشكيلات القضاة ومناقلاتهم، رغم أن بعض القضاة يرون أن الاستقلالية المطلقة للقاضي تتجلى في تطبيق مبدأ عدم نقل القاضي من مركزه من دون رضاه إلا لأسباب تأديبية، إضافة إلى اعتماد الانتخابات لتشكيل مجلس القضاء الأعلى من قبل القضاة كافة، وليس كبار القضاة فقط، أو على الأقل زيادة أعضاء مجلس القضاء الأعلى المنتخبين. أحد القضاة يتحدث عن يقين لديه بأنّ السياسيين لن يلبّوا جميع مطالب القضاة، لأنهم إن فعلوا، فإن القاضي لن يعود محتاجاً إليهم، وبالتالي لن يكون في مقدورهم السيطرة عليه لاحقاً. قاضٍ آخر يقدم اقتراحاً يرى أنّه يقضي على داء الاستزلام لدى كبار القضاة، معتبراً أنّ استقلالية القاضي لن تتحقق طالما يمكن للقاضي بعد إحالته على التقاعد أن يُعيّن وزيراً أو عضواً في المجلس الدستوري أو في أحد مؤسسات الدولة. ويقترح القاضي المذكور وجوب استصدار قانون يمنعه من الترشّح لهذه المناصب، وأن يطال المنع أفراد عائلة القاضي، كي لا تتم استمالته من قبل السياسيين ويُصبح مرتهناً لدى أحد.
هل يؤشر ما سبق إلى أنّ «العدلية» تلفظ أنفاسها الأخيرة؟ تساؤل يجيب عنه مرجع قضائيّ بالقول: «لقد انقضت سنوات القضاء العِجاف»، متحدثاً عن «ورشة إصلاح انطلقت». هكذا يوحي «أولياء الأمر» في الصرح القضائي. أما حديث القضاة الأوحد فيتمحور حول التشكيلات القضائية. وفي هذا السياق، يقول رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي جان فهد لـ«الأخبار»: «يُنتظر أن يحلف رئيس هيئة التفتيش القضائي بركان سعد اليمين لتبدأ ورشة التشكيلات القضائية». وردّاً على سؤال عن أسماء القضاة المتداولة لتبوّء مركز قضائي هنا أو هناك، علّق فهد: «لم نعقد أي اجتماع بعد لبحث التشكيلات القضائية أصلاً».
30 مليار ليرة نفقات «التعاضد» سنوياً
انتفض القضاة دفاعاً عن صندوق التعاضد. يرى معظمهم أنّ السلك القضائي سيفقد القدرة على الاستقطاب إذا ما فُقِد الصندوق الذي يوفّر ظروف حياة كريمة بحدّها الأدنى للقاضي، لا سيما أنّه يوفّر الاستشفاء للقضاة مع أهلهم وأبنائهم، ويغطي تكاليف علاج الأمراض المستعصية والخطيرة. وقد علمت «الأخبار» أنّ الفاتورة الاستشفائية العام الماضي بلغت تسعة مليارات ليرة، من دون احتساب «فحصيات الأطباء». وكشفت المصادر أنّ هناك ٣٩ قاضياً مصاباً بالسرطان يخضعون للعلاج، علماً بأنّ الرقم الإجمالي لنفقات صندوق التعاضد بلغت ٣٠ مليار ليرة عن عام ٢٠١٦ (استشفاء وطبابة ومدارس ومساعدات اجتماعية)، من بينها 8 مليارات ليرة لتغطية أقساط المدارس والجامعات لأبناء القضاء.
تجدر الإشارة إلى أنّ أحد أبرز موارد صندوق التعاضد، إضافة إلى الموازنة التي تدفعها الدولة اللبنانية البالغة ٩ مليارات و ٣٠٠ مليون ليرة، يأتي من رواتب القضاء التي يُقتطع منها 5 في المئة، فضلاً عن الطوابع والغرامات المالية، فيما خسر الصندوق واردات محاضر ضبط السيارات.