أقرّت المادّة 54 من مشروع قانون موازنة 2017 من دون أي نقاش جدي في مجلس الوزراء، لا بل إن بعض الوزراء الذين استفسروا عنها قيل لهم إنها مادة تضمن حقوق الضمان (!) فيما هي تلغي موجب الاستحصال على براءة الذمة من الضمان الاجتماعي، أي أنها تلغي الأداة الوحيدة التي يستعملها الصندوق لضمان انتظام المؤسسات بالتصريح عن أجرائها وتسديد الاشتراكات. هذه المادة تندرج في سياق عمليات قضم الضمان التي بدأت مع خفض الاشتراكات بنسبة 50% في 2001، وتستكمل اليوم بإجراءات تخدم التهرّب الضريبي بدلاً من مكافحته!
لم يكن صدفة إدراج المادة 54 في مشروع قانون موازنة 2017، بل كانت عملية «دسّ» عن سابق تصوّر وتصميم، لا هدف لها سوى خدمة مصالح أصحاب العمل اللاهثين وراء القضمة الثانية من صندوق الضمان، بعد القضمة الأولى في 2001 حين أقرّت الحكومة مرسوم خفض الاشتراكات بنسبة 50%.
القضمة الأولى منحت أصحاب العمل زيادات كبيرة في الأرباح، إلا أنها أنهكت ضمان المرض والأمومة والتعويضات العائلية بديون هائلة مُوّلت بسحوبات مخالفة للقانون من فرع نهاية الخدمة حتى بلغت قيمتها المتراكمة 1510 مليارات ليرة حتى نهاية 2015. أما القضمة الثانية، المطروحة اليوم عبر المادة 54 من مشروع قانون الموازنة، فسيكون أثرها أكثر فتكاً لأنها تحرم الضمان من أداة الضغط الوحيدة لإجبار المؤسسات المسجّلة في الضمان على تسديد متوجباتها المالية للصندوق وإجبار المؤسسات غير المسجلة على التصريح عندما تضطر الى الاستحصال على براءة ذمة في تعاملاتها مع الدولة.
عبارة تشطب قانون!
يتضمن مشروع قانون موازنة 2017 المحال إلى مجلس النواب بعدما أقرّه مجلس الوزراء المادة 54 التي تنصّ على الآتي: «خلافاً لأي نصّ آخر، يُحصر موجب الحصول على براءة ذمة من الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي المنصوص عليها في المادة 65 من قانون الضمان الاجتماعي الصادر بالمرسوم رقم 13955 تاريخ 26/9/1963 بحالتي تصفية وحلّ المؤسسات».
هذه المادة لم تكن واردة في مشروع موازنة 2017 الذي أحيل إلى مجلس الوزراء، بل أدرجت لاحقاً. طريقة «الدسّ»، واللغة القانونية المستعملة باختصار، تعيد إلى الأذهان سلوكاً دأبت عليه بعض القوى التي سيطرت على وزارة المال خلال العقدين الأخيرين. فقد استخدمت عبارة «خلافاً لأي نصّ آخر» مراراً لشطب وإلغاء مواد قانونية تعد أساسية في صلب بعض القوانين، لكنها شطبت بشحطة قلم من دون إثارة أي انتباه بعد تضمينها في مشروع الموازنة إلى جانب عشرات المواد القانونية.
هذا الأمر يتكرّر اليوم مع المادة 54. بعبارة واحدة، ألغيت مفاعيل المادة 65 من قانون الضمان التي تتضمن أربع فقرات تتحدث عن وجوب استحصال أصحاب العمل على براءة ذمّة لإثبات تسديد الاشتراكات والموجبات المالية المترتبة عليهم للصندوق، وتميّز بين براءة الذمّة المحصورة وبراءة الذمة الشاملة، وتحدّد المعاملات التي تستوجب الاستحصال على براءة الذمة على النحو الآتي:
معاملات السجل التجاري، معاملات التسجيل في غرف التجارة والصناعة، المعاملات العقارية، معاملات الاستيراد والتصدير وإعادة التصدير والمعاملات الجمركية، معاملات الاشتراك في المناقصات العمومية والمحصورة، استدراجات العروض والاتفاقات بالتراضي لدى إدارات الدولة والمصالح المستقلة والبلديات وسائر المؤسسات العامة، معاملات الاعتمادات المصرفية والقروض التجارية والصناعية والزراعية والسياحية التي تجريها مؤسسات القطاع العام، معاملات المساعدات التي تعطيها أو تمنحها الإدارات العامة وسائر مؤسسات القطاع العام، معاملات تسجيل مؤسسات التعليم الخاص لدى وزارة التربية الوطنية، معاملات دفع المنح للمدارس الخاصة المجانية، تجديد دفتر السيارة العمومية أو إخضاعها للمعاينة الميكانيكية، حالات نقل ملكية اللوحة العمومية أو حصول تغييرات في ملكيتها.
توسيع التهرّب
في الواقع، إن إقرار العمل بوجوب استحصال أصحاب العمل على براءة الذمّة من صندوق الضمان كان له مبررات واقعية لا تزال تنطبق اليوم. ففي عام 1982، وبسبب تراكم الديون على أصحاب العمل نتيجة الظروف القائمة أمنياً واقتصادياً ونقدياً، أقرّ العمل ببراءة الذمة لاعتبارها وسيلة تمنع تراكم الديون على أصحاب العمل، وتشجعهم على تسديد ما يتوجب عليهم للضمان، فضلاً عن كونها وسيلة تمثّل ضمانة للصندوق مقابل الديون بذمّة المؤسسات.
ظروف الثمانينيات لا تزال نفسها جاثمة اليوم على الصندوق، لا بل إنه في ظل تفشّي الفوضى والهدر والفساد والتدخلات السياسية في الضمان، أصبحت الحاجة أكبر إلى تطوير وخلق أدوات إضافية لتحفيز المؤسسات على التصريح للضمان والانتظام في تسديد المتوجبات المالية. براءة الذمّة بوصفها أداة قهرية وحيدة بيد الضمان في وجه المتهرّبين من التسديد لم تعد كافية، وهذا ما تدلّ عليه إحصاءات مصلحة براءة الذمة. ففي عام 2016 أصدر الصندوق نحو 36 ألف براءة ذمة في 7 مراكز من النوعين المحصورة والشاملة، أي ما يوازي 71% من المؤسسات المسجّلة في الصندوق والبالغ عددها 50689 مؤسسة؛ بينها 7881 مؤسسة تصرّح عن عدد أجراء يفوق العشرة، و42808 يقل عن عشرة أجراء.
هذه الأرقام تعني أن التهرّب من الضمان كبير جداً، ولا سيما مقارنة مع عدد المؤسسات الكبير المصرّح عنه لوزارة المال والذي تخطّى 200 ألف مؤسسة بينها 1100 مؤسسة في دائرة كبار المكلفين وحدها (تشمل هذه الأرقام المؤسسات المالية من مصارف وشركات تأمين ووساطة مالية وشركات الأموال)، وبالتالي فإن المؤسسات التي يفوق عدد أجرائها عن 10 يزيد بكثير عن 10 آلاف مؤسسة. لذا، كان الأجدر بالوزراء المعنيين وبمجلس الوزراء وبمجلس النواب أن يحاسبوا الضمان على هذا التقصير الفادح، وأن يسدّوا الثغرات التي تتيح التهرب عبر خلق وتطوير أدوات إضافية لإجبار المؤسسات المتهرّبة على التصريح للضمان عن أعمالها وعن أجرائها، إلا أن الوزراء المعنيين ومجلس الوزراء ذهبوا في اتجاه توسيع التهرّب!
الأثر المالي
إلغاء موجب الاستحصال على براءة الذمة المالية ستكون له مفاعيل خطيرة على التدفقات المالية في الضمان، فهو يعني أن المؤسسات التي كانت تحصل على براءات الذمّة إجبارياً بسبب اضطرارها إلى إبراز براءة الذمة ضمن أوراق الاستيراد والتصدير والمشاركة في المناقصات وسواها، لن تكون مجبرة بعد إقرار هذه المادة على الاستحصال على براءة ذمّة إلا إذا كانت ستغلق أبوابها وتصفّي أعمالها. هذا الأمر سيؤدي إلى انخفاض خطير في نسبة المنتظمين في تسديد الاشتراكات، ما يؤدي تلقائياً إلى تراجع الإيرادات السنوية لفرعَي ضمان المرض والأمومة، فيما ستلجأ إدارة الضمان إلى تمويل عجز التقديمات الصحية والعائلية بزيادة سحب الأموال من فرع نهاية الخدمة، أي من مدخرات الأجراء.
وبحسب قطع الحساب في الضمان، فإن مجمل إيرادات فرعَي ضمان المرض والأمومة في عام 2015 بلغت 1093 مليار ليرة مقابل تقديمات بقيمة 1416 مليار ليرة، أي أن العجز بلغ 322 مليار ليرة في 2015. وقد بلغت قيمة المسحوبات من فرع نهاية الخدمة لتمويل العجز المتراكم ما قيمته 1510 مليارات ليرة، فائدتها السنوية تبلغ 100 مليار ليرة، ما يعني أن إلغاء براءة الذمّة ستكون له مفاعيل سلبية قاسية على التدفقات المالية وعلى نموّ العجز. هذا العجز، بدأ أصلاً، بسبب خفض الاشتراكات بنسبة 50% التي مثّلت القضمة الأولى لمقدرات الضمان، أما القضمة الثانية المتمثلة في إلغاء براءة الذمة فقد تكون قاضية.