إنه الخطاب الطائفي يعود من جديد، وطبول الحرب الأهلية تُقرع، بالأمس كانت الشراكة والانتخابات الرئاسية، واليوم زمن القانون. لعبة الغرائز تبقى الوصفة الضامنة لزيادة منسوب التعاطف الشعبي، عاد إليها بعض المسيحيين في زمن قد يكون مستقبل رجل سياسي قائم على صوتٍ تفضيليٍ واحد. 

دُقَّ ناقوس الخطر على الوجود والدور والهوية، ليُصيب بعضاً من شظايا المكوّن الشيعي بشكلٍ عام، والمقاومة بشكلٍ خاص، فثمة من يحاول لسببٍ أو لآخر وضع حزب الله في مواجهة سياسية مع المسيحيين. أهمية هذا الموضوع تستوجب علينا مراجعة لإستخلاص بعض العبر.  

في عودة سريعة إلى وقائع الحرب الأهلية، يصعب على المؤرخين الإرتكاز إلى سابقة واحدة، شهدت على مواجهة بين حزب الله والمسيحيين بشكلٍ عام، ربما إقتصر الأمر على مقاربات متباعدة لم تصل إلى حد التراشق المدفعي أو حتى الإعلامي، تناقضات شهدناها داخل الصف الواحد، لا بل الحزب الواحد، لنستخلص أنه منذ تاريخ تأسيس حزب الله عام 1982 حتى تاريخ انتهاء الحرب الأهلية، لم تُسجّل مواجهة عسكرية واحدة بينه وبين أي من الأفرقاء المسيحيين. لن ندخل في تحليل هذه الظاهرة، لنكتفي بهذا القدر، ونسجل تقارب أّوليّ بين شريحة كبيرة من المسيحيين وحزب الله في الموقف من إتفاق الطائف، فحزب الله لم يؤيّد الإتفاق تماماً كما فعل العماد عون وجزء وازن من الجمهور المسيحي آنذاك. 

هي مرحلة عابرة، ننتقل بعدها إلى العام 2000، عام التحرير ودحر العدو الإسرائيلي من الجنوب اللبناني، لنجد عشرات من القرى نفسها بين ليلةٍ وضحاها محرَّرة، لينتظر سكانُها المسيحيون، من عناصر جيش لحد وأهاليهم ردات فعل إنتقامية على سنواتٍ دامية من المواجهات العسكريّة والأمنيّة، فانتظروا عُزَّل متروكين من جيش احتلال لم يعرف يوماً رد الجميل والوقوف مع من حالفه، فكانت المفاجأة التي صدمت السكان والمراقبين والصحافين الذين توقعوا مشهداً يشبه سابقاته من مشاهد الحرب وتسجيل الإنتقام ورد الكيل والصاع. مفاجأة دخول حزب الله هذه القرى من دون التعرّض لأيٍ من المتورطين مع جيش لحد والإسرائليين، وجاءت مراعاة المسيحيين وطريقة التعامل معهم ومع ذويهم لتفضح تعليمات صارمة من قيادة الحزب بالتعامل بشرف المنتصر وشهامة الحريص على السلم الأهلي والعيش المشترك، فبادل حزب الله خصومه بحمايةٍ ورعايةٍ ذهبت إلى حد التمييز الإيجابي. 

عام 2006، بادل المسيحيون تحية الحزب، بتحية حارّة من القلب، فإستضافوا الهاربين من القصف الإسرائيلي الوحشي، ووقفوا إلى جانب المقاومة كما السواد الأعظم من اللبنانيين وقفة الواجب والوفاء. 

بعد توقيع ورقة التفاهم بين حزب الله والتيار الوطني الحرّ، بدأت مرحلة جديدة من التكامل المنظّم، فالتيار كان خارجاً من معركة إنتخابية خاضها ضد الحلف الرُباعي ونال 70% من أصوات المسيحيين، مستحقاً لقب"زعيم المسيحيين" على حد تعبير غبطة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير الذي قال: "أصبح للمسيحيين زعيما". 

في الخامس من أيار من العام 2008، أصدر مجلس الوزراء قرارين متعلّقين بالمقاومة، الأول قضى بإقالة رئيس جهاز أمن المطار "وفيق شقير"، والثاني بوضع يد الدولة على شبكة حزب الله للإتصالات السلكية، فكانت الإنتفاضة العسكرية في السابع من أيار عندما أقدم عناصر من الحزب مدعومين من الحلفاء باقتحام أحياء في بيروت والجبل، فتوزعت الرسائل على المكونين الدرزي والسنّي المشاركين في الحكومة، مع العلم أن فريق 14 آذار يحوي مكوناً مسيحياً وازناً وفاعلاً هما القوات والكتائب، والمفارقة أننا لم نرَ يومها أيَّ تعدٍّ من جانب حزب الله على مراكز تلك الأحزاب المنتشرة في العاصمة بيروت وعلى بعد أمتار من مواقع الإشتباكات، كما لم تدخل عناصر حزب الله إلى أيّ من الأحياء المسيحية، فالأوامر كانت واضحة بعدم الإحتكاك بأي من المسيحيين، فلماذا هذا التمييز؟ ألأنَّ للحزب حليفاً مسيحياً لا يود إحراجُه؟ نظرية لا تبدو مقنعة، فللحزب حلفاء أساسيين من الطائفة السنية والدرزية، لم يأبه بإحراجهم تحت شعار "السلاح لحماية السلاح". 

مفارقة مثيرة للريبة، قد تعجز العقول المسيّسة والمثقفة عن تحليل خلفياتها، وإستمرت هذه المفارقة لتصبح نمط حياة وممارسة يومية، فكم من الحكومات أوقف الحزب تشكيلها لإرضاء حليفه المسيحي؟ وكم من التضحيات في سبيل تعزيز ورقة التفاهم؟ فأصبح هذا الآداء أمثولة يُحتذى بها، وإشكالية فضحت مكامن الخلل في الجانب الآخر وتحديداً في علاقة تيار المستقبل مع حلفائه المسيحيين.  

أما المبايعة الكبرى فتجلّت بوقوف حزب الله إلى جانب المسيحيين في معركتهم لإسترداد حقوقهم التمثيلية في القانون الإنتخابي، ليتبنّى القانون الأرثودوكسي القائم على التصويت الطائفي، متنازلاً عن خطابه الوطني لأجل أن يختار المسيحيون 64 نائبًا، لتأتي رصاصة الرحمة في الدقيقة الأخيرة من القوات اللبنانية، متراجعة عن هذا القانون لأسباب باتت معروفة. 

بعد اندلاع الحرب في سوريا، وجد اللبنانيون أن حدودهم الشرقية وقعت تحت نفوذ جبهة النصرة وداعش، مع خرق جغرافي مفضوح لجهة قرية عرسال، لم نكن لنُفاجَأ لو رأينا عناصر من القوات اللبنانية والجبهة اللبنانية متجهة إلى الحدود لحماية القرى اللبنانية المتاخمة و تحديداً المسيحية منها ، فالعقل المسيحي يحتوي على منسوبٍ عالٍ من الجينات السيادية والوطنية والخوف على لبنان من أي إعتداء أو خرق من جانب مجموعة إرهابية. لم يعطِ حزب الله وقتاً للتفكير والدراسة، فهو لبس زيّ المقاومة المسيحية وتوجه نحو الحدود متوغلاً داخل الأراضي السورية لإبعاد الخطر، ومؤازرة الجيش اللبناني الذي ربما كان لاقى مصير الجيش العراقي والجيش السوري أمام هذه المجموعات المتوحشة، نقول ربما لكي لا نقلل من عزيمة وثبات جيش وطني أثبت جدارته وتماسكه بإعتراف الجميع، ولكن حماية الحدود كاملة أمام هكذا نوع من المقاتلين، تتطلب أعداد مضاعفة من الجنود اللبنانيين، فالمقصود هنا توفر الأعداد اللازمة وليس الكفاءة المشهود لها. 

فعلها حزب الله، ولنمتلك الجرأة ونقول أنها أتت نيابة عن المسيحيين وكل لبناني أياً كانت طائفته أو إنتماؤه السياسي، إنها معجزة العصر، فنظرية تأثر لبنان بالأزمات الإقليمية سقطت أمام الواقع المفروض بقوة السلاح، مئات آلاف القتلى في دولة مجاورة، كان تأثيرها بعض الخروقات الأمنية في الداخل اللبناني، فإنقلبت الآية ومقولة أن بعض الخروقات الأمنية أو أي أزمة سياسية في الدول المجاورة، كانت تؤدي إلى حروب أهلية في لبنان . 

وبقيت أولوية حزب الله في الداخل، الوقوف على خاطر حلفائه المسيحيين، وجاءت أزمة الفراغ الرئاسي لتُثبت ذلك، بقي الحزب ثابتاً بوجه التشكيك، فكان أول من نادى بانتخاب الرئيس القوي، أيّ الأقوى في بيئته المسيحية، لتنضم إليه سائر القوى المسيحية، كلٌّ على طريقته، محاولين إقناع جماهيرهم بأنهم الأوائل في تثبيت نظرية المسيحي الأقوى.  

محطات وغيرها من المحطات التي لن ندخل في تعدادها، ولكنها مثيرة وتدعو إلى التفكير ملياً بكافة جوانب عقيدة حزب الله، نحن لا ننفي أن كثيراً من هذه المحطات تحرّك خلالها حزب الله من منطلق مصالحه السياسية وحمايةً لمعتقداته وشعاراته الدينية والسياسية، ولكن النتيجة واحدة، أنه منذ تأسيسه سنة 1982، حرص على احترام المكوّن المسيحي ومراعاته وحمايته، ربما من باب الصدف أو تقاطع المصالح أو حتى تطبيقاً لشعار حماية المستضعفين، متأثراً بالجمهورية الإسلامية في إيران التي تضع هذا الشعار في سُلّم أولويات سياستها الخارجية، من دعم الأرمن في صراعهم مع أذربجيان ، أو الفلسطنيين في صراعهم مع اسرائيل، فهؤلاء ليسوا شيعة. 

قد نذهب بعيداً في التحليل، لكن الثابت أن حزب الله يخوض معارك نيابةً عن المسيحيين، والمسيحيون يخوضون معارك وهمية ضد أعداء وهميين، إنه اللعب في النار في ظلّ شرق أوسط متفجّر تدفع فيه الأقليات ثمن وجودها الحرّ، وفي ظل غياب إستراتيجية ناظمة، تبقى حقوق المسيحيين معرّضة للفقدان النهائي، فتارةً يُشكل قانون الـ 60 عودة الحق لأصحابه، وطوراً يتصاعد الدخان الأبيض من بكركي عن نسبيّة شاملة بـ 15 دائرة، ثم خطاب طائفي يذكّر بزمن لم يخسر المسيحيون فيه حقوقهم وحسب، بل خسروا خيرة شبابهم وفلذات أكبادهم في نعوش بيضاء كُتبت عليها عبارة "ماتوا ليحيا الزعيم"، ومتى يأتي الزعيم الحقيقي ليُعيد لهم حقوقهم الطبيعيّة من وظائف وفرص عمل وضمان شيخوخة وانترنت سريع وكهرباء....... تلك هي حقوق المسيحيين، وما عدا ذلك يبقى في خانة المتاجرة.  

فارس فتوحي 

رئيس الحزب اللبناني الواعد