وفَّرت العلاقات الإعلامية في حزب الله للصحافيين، أول من أمس، فرصة معاينة حقيقة التغييرات التي أحدثها جيش العدو في التضاريس بين جنوب لبنان وفلسطين المحتلة، عبر بناء المنحدرات وحفر الخنادق والتدشيم واقتلاع الأشجار.

أهمية هذه الخطوة تكمن في تمكين وسائل الإعلام من الاطلاع على مشهد ميداني يتصل مباشرة بأحد أهم معالم معادلات المواجهة المقبلة، التي بات يسلم فيها قادة كيان العدو السياسيون والعسكريون، بأن نقل المعركة إلى «أراضيه» لن يقتصر على الصواريخ، بل يشمل أيضاً «أقدام» المقاومين التي ستطأ مستوطناته ونقاطه العسكرية.
في المقابل، وكما عمدت إسرائيل إلى تطوير منظومات اعتراض لمواجهة صواريخ حزب الله، تحاول عرقلة توغل مقاوميه في الجليل، عبر تشييد منظومات «اعتراض» جغرافية طبيعية واصطناعية. من هنا فإن مشهد التضاريس وتعزيز خطوط الدفاع الإسرائيلية، التي عاينها الصحافيون في جولتهم، هي في الواقع ترجمة تكتيكية ــــ عملانية لقرارات وسياسات جسَّدت حجم التبدل الذي طال العقيدة العسكرية لجيش العدو، في مواجهة المواقف والخيارات العملانية التي يتبناها حزب الله في المواجهة المفترضة.
لم يُخفِ قادة العدو عن جمهورهم هذه الإجراءات ولا حتى الخلفيات التي أمْلَتها، وصولاً إلى الإقرار بالتغيير الذي طال معادلة الصراع مع إسرائيل. ودائماً ينبغي التذكير بحقيقة أن منشأ هذا التحول، والمحطة المفصلية التي أسست لهذا المسار العملاني، تعود إلى حرب 2006 التي لم تقتصر نتائجها على فشل جيش العدو في تحقيق الحسم العسكري عبر سحق حزب الله وقدراته، بل توالت تداعياتها إلى بلورة معادلات إقليمية وفّرت مظلة حماية للبنان ولكل أطراف محور المقاومة في مواجهة العدو الإسرائيلي.
أهم الرسائل التي انطوت عليها إجراءات جيش العدو أنها شكلت إقراراً بفشل المبادئ العسكرية التي اعتمدها هذا الكيان منذ ما بعد إقامته عام 1948، في مواجهة تلويح حزب الله بالرد على أي عدوان واسع ضد لبنان باقتحام الجليل. وتستند هذه المبادئ على ردع أعداء إسرائيل عن التخطيط والمبادرة العملانية، وعلى قدرات إنذار متطورة (وهي كذلك) تسمح لها باستشراف التهديدات ثم المبادرة إلى توجيه ضرباتها الوقائية والاستباقية التي تحبط أي خيار هجومي (ولو كان الهجوم من موقع الرد والدفاع والمقاومة).
الترجمة العملية لهذا التسليم (بالفشل) انعكس بمحاولة اجتراح بديل دفاعي من داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة. وما كان ذلك ليتم لولا إقرار صنّاع القرار السياسي والأمني في تل أبيب بجدية التهديدات التي لوَّح بها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، لجهة السيطرة على الجليل، وبأن مقاومي حزب الله وقادته وكوادره يملكون التصميم والقدرة على ذلك.
أيضاً، تعني هذه الإجراءات عدم ركون صانع القرار في تل أبيب إلى فعالية منظومة الردع الإسرائيلية على ثني حزب الله عن هذا الخيار في لحظة الاستحقاق. والقدر المتيقن لما ينطوي عليه ما عاينه الصحافيون أن إسرائيل باتت تسلم أيضاً بمحدودية قدراتها على إحباط هذا المسار عبر خيارات وقائية أو استباقية، رغم تفوقها النوعي والكمي في مقابل لبنان وحزب الله.
وهكذا تتجلى على حدود فلسطين مع لبنان معالم قصة التحول الاستراتيجي الذي استجد على معادلات الصراع. وخلاصتها أن إسرائيل، الدولة الإقليمية العظمى التي تطورت قدراتها التدميرية والتكنولوجية والعسكرية إلى مستويات لم تشهدها طوال تاريخها، هي نفسها التي تراجعت خياراتها العملانية من دولة استندت في عقيدتها العسكرية دائماً إلى مبدأ نقل المعركة إلى أراضي العدو وتدمير قدراته واحتلال أرضه، إلى تبني منظومة عقائد دفاعية، إيجابية وسلبية، من ضمنها وضع عراقيل طبيعية واصطناعية للحؤول دون نجاح مجموعات حزب الله بالتوغل إلى الداخل الإسرائيلي.
مع ذلك، ينبغي تسجيل حقيقة أن خيار اقتحام الجليل يندرج أيضاً ضمن عناصر القوة التي يملكها حزب الله لتعزيز قوة ردعه في مواجهة أي خيار عدواني إسرائيلي ضد لبنان. وبالتالي، رغم أن هذا الخيار يتسم بطابع تكتيكي هجومي، إلا أن مفاعيله دفاعية وردعية تهدف إلى حماية لبنان، وتعزيز معادلة الردع الإقليمي وتؤسِّس لخيار عملاني سيترتب على تنفيذه ــــ في حال ارتكب قادة العدو أخطاء فادحة في الحسابات والتقدير ــــ مفاعيل وتداعيات هائلة على حاضر هذا الكيان ومستقبله.

المصدر: علي حيدر - الأخبار