بعد عشرين عاماً من الضبابية، أربع لجان تحقيق وثلاث روايات متضاربة، صادق الجيش الإسرائيلي أخيراً على الحقيقة التي تهرّب منها طويلاً: «كارثة الشييطت» في لبنان سببها كمين مخطّط له مسبقاً أعدّه حزب الله. 

«أغنية الصفصاف» هو اسم العملية السرية التي كان من المفترض أن تنفذها وحدة «شييطت 13» التابعة للجيش الإسرائيلي، ليل 5 أيلول 1997 قرب بلدة أنصارية الجنوبية، وكان هدفها زرع عبوات ناسفة ضد هدف تابع للمقاومة. تألفت القوة المنفذة من 16 جندياً.

وخلال سيرها نحو الهدف وقعت في كمين فجّر عبوات ضدها وأودى بحياة 12 جندياً. صنّفت إسرائيل الحادثة بـ«الكارثة»، لكن ملابساتها بقيت حتى الأمس القريب لغزاً، وتحول إلى موضوع نزاع بين الأسلحة المختلفة للجيش الإسرائيلي، لا سيما سلاح البحرية وشعبة الاستخبارات.
التحقيق الذي نشرته «يديعوت أحرونوت» أمس يسلط الضوء على هذا النزاع ويسرد فصول الحيرة التي عاشتها لجان التحقيق التي تشكلت تباعاً للبحث في السبب الحقيقي للفشل، خصوصاً بعد أن تبنّت شعبة الاستخبارات العسكرية فرضية أن «الانفجار الأول، كما تُظهر الأفلام التي صوّرتها طائرة الاستطلاع التي واكبت العملية، حصل داخل القوة، وعليه كان الاستنتاج الجازم بأنه لم يكن هناك أي تدخل للعدو (حزب الله) في الحادثة. وهكذا ولدت نظرية أن ما تعرضت له وحدة شييطت كان نتيجة انفجار العبوات التي حملها أفرادها».
ورأى تحقيق يديعوت أنه في ضوء عدم إصرار القيادة العسكرية العليا على تحقيق عسكري مهني، بقيت كارثة شييطت حالة ضبابية، وهو ما يثير سخط القائد السابق للوحدة، وزير الإسكان الحالي يوآف غالنت، الذي يعتبر ما حصل تشويهاً للحقيقة وخداعاً مستمراً لأسر الجنود القتلى. ويجزم غالنت بأن الحقائق واضحة في حادثة أنصارية، وأن الإجابة عن أسئلتها حادة للغاية، وهي موجودة في الخلاصات التي عرضتها لجنة التحقيق الرابعة والأخيرة بشأنها عام 2010.
ويقدم غالنت روايته التي توصل إليها حول الحادثة بعد أن تحول إلى «لجنة تحقيق من رجل واحد»، فاطّلع على كل المواد ذات الصلة. وبحسب هذه الرواية، فإن «خللاً في عملية جمع المعلومات الاستخبارية» سمح لحزب الله بأن يُدرك أن قوة من الكوماندو ستأتي إلى مكان محدد وفي وقت مقدر، ما دفعه إلى نصب سلسلة من الكمائن، أحدها حيث مرّت القوة. وعندما «رأى هذا الكمين القوة، فجّر عبوات بـ11 جندياً منها كانوا على وشك اجتياز الطريق بين قريتي أنصارية ولوبية. هذه العبوات التي انفجرت في الدقيقة 41 بعد منتصف الليل تسبّبت في العدد الأكبر من الإصابات. بقية القوة، المؤلفة من 5 جنود، كانت قد اجتازت الشارع، فالتفتت إلى الخلف وتلقّت أوامر من قائد الوحدة بإطلاق النار على أيّ مصدر للنيران. لكن بعد 14 ثانية حصل انفجار ثانٍ قُتل فيه قائد الوحدة. وبعد 3 دقائق و8 ثوان، تنفجر العبوة التي كان يحملها الجندي إيتمار إليا على ظهره. ويمكن أن يكون سبب انفجار العبوة تعرضها لكرات حديدية من الانفجارات السابقة أو ارتفاع درجة الحرارة نتيجة الحرائق».
ويؤكد غالنت أنه رأى بأم عينه، عندما حضر إلى مقر وحدة الشييطت صبيحة الحادثة، التجهيزات المتضررة للجنود الذين كانوا في العملية وقد اخترقتها كرات معدنية. كذلك يشير إلى أن التقرير الطبي يؤكد وجود كرات كهذه في أجساد الجنود القتلى، في حين أن العبوات التي حملها الجنود لم يكن فيها كرات، الأمر الذي يتعارض مع رواية الاستخبارات العسكرية بعدم ضلوع حزب الله في الحادثة.
لجنة التحقيق الأولى أقرّت بوجود «احتمال مرتفع» بأن تكون إصابات الجنود ناجمة عن عبوات معادية. وهو الاستنتاج الذي توصلت إليه لجنة التحقيق الثانية. لكن شعبة الاستخبارات العسكرية بقيت تجزم بأنه لم يكن هناك أي ضلوع لحزب الله في الانفجارات.
وظلت مسألة التسرب المعلوماتي حول العملية الموضوع الأساسي والأكثر حساسية في القضية. وناقشت 3 لجان تحقيق احتمال أن تكون المعلومات وصلت إلى حزب الله من خلال عميل، أو أن الحزب كان يعترض بثّ الطائرات الإسرائيلية المسيّرة عن بُعد. وإثر تضارب آراء اللجان ورئاسة أركان الجيش الإسرائيلي، بقيت استنتاجات اللجنة الأولى نافذة إلى أن عرض الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصرالله، يوم 6 آب 2010، شريطاً مصوراً قال إنه مأخوذ من تصوير طائرات إسرائيلية مُسيّرة عن بُعد، شارحاً كيف كمنت قوة من المقاومة لوحدة شييطت الإسرائيلية في أنصارية.
آنذاك، قرر رئيس الأركان، غابي أشكنازي، تشكيل لجنة تحقيق رابعة للتثبت من صحة الشريط الذي عرضه نصرالله. واطلعت اللجنة على كل التسجيلات التي التقطتها الطائرات المسيّرة عن بُعد، وحللت الشريط الذي عرضه حزب الله. وبحسب استنتاجات اللجنة، فإن مقطعين من المقاطع التي عرضها نصرالله صُوِّرا في الوقت الحقيقي أثناء عملية إنقاذ الجنود الإسرائيليين في ساحة الحدث، ما يعني أن حزب الله كانت لديه متابعة مباشرة لكل ما يجري في منطقة العملية، خلافاً لما كانت تعتقده الاستخبارات الإسرائيلية سابقاً.
لكن أحد المقاطع عُدّ الأهم، فكان بمثابة «مسدس يتصاعد منه الدخان»، أي دليلاً حسيّاً على اعتراض بثّ الطائرات الإسرائيلية المسيّرة عن بُعد، في وقت سابق على العملية. فهذا المقطع يتضمن جزءاً من تصوير قامت به طائرة إسرائيلية وبثّته إلى المحطة الأرضية صباح 31 آب عام 1997، أي قبل أربعة أيام من العملية. ويشمل «مسحاً متواصلاً ومركزاً على نقطة الإبرار الخاصة التي ستأتي إليها القوة الإسرائيلية من البحر، وكذلك مسار عبورها البري، بما في ذلك منطقة انفجار العبوات». في ضوء ذلك اعتبرت اللجنة أنه «يمكن الافتراض أنه إذا كان الحزب وضع يده على هذا الشريط، فإنه وضع يده أيضاً على نتائج 13 طلعة جوية تصويرية تفصّل مسار العبور المخطّط لجنود الشييطت.
وبعد أن حددت اللجنة أن الشريط الذي عرضه حزب الله أصلي، تحول جهدها إلى فحص مصدر حصول الحزب عليه: عبر عميل، أو من خلال اعتراض السوريين والإيرانيين لبثّ المسيرة. وتوصلت اللجنة إلى استنتاج جازم بأن «الفحوصات تثبت أن اعتراض البث حصل في الزمن الحقيقي، وثمة أرجحية مرتفعة لأن يكون حزب الله هو الذي تمكن من اعتراض البث بشكل مستقل»، ما يعني أن أجهزة حزب الله الاستخبارية كانت تحصل على البث التصويري للطائرات الإسرائيلية المسيّرة عن بُعد، في موازاة قيادة سلاح البحرية الإسرائيلي. كذلك خلصت اللجنة إلى أن «النتائج الفتاكة للانفجارين تثبت أيضاً أن مكان وضع العبوات واتجاهها الدقيق يتعارضان مع فرضية الصدفة».

المصدر: محمد بدير - الأخبار