ما سوف نعمد إلى طرحه في هذه المقالة هو محاولة إيجاد عملية عقلية متوازنة لتدبير العداء المستحكم، وإيجاد آليات تعاون ولو تحت ظلها أردنا تسميتها " لا ناقة ولا جمل لكن لدي العقال "، ولتيسير عملية البحث أزلنا معامل الأخلاق ومعامل الأخلاقيات الدولية من الاعتبار، لأنهما معاملين غير مساعدين على رسم وصفة عقلانية لتدبير الأزمات والتخلص من حالات العداء، وفي نفس الآن أردنا من البحث أن يكون عقليا يدور مع الثيمة الوجودية الأساس وهي " البقاء " بما تفتحه من سياسات تنافس وصراع بل وحروب.

من حيث المبدأ : فرضية واحدة وسلوكات كثيرة:

لنفترض زيد من الناس يكره كرها شديدا جاره عمر وسمع صراخا في بيت جاره لأن جماعة من الأشخاص دخلوا البيت وبدأوا باتلاف محتوياته، أمام زيد خياران أوليان لنسميهما الخيار العقلاني الأدنى مستوى، الخيار الأول أن يترك جاره يواجه أزمته ويرقص فرحا وشماتة لأنه ينتقم بالترك وأن يعمد إلى تحصين بيته من الهجومات المحتملة تاركا جاره يدبر أزمته لوحده، وإما أن يخرج للاطلاع وبناء قناعات حول الأشخاص لعله يجري توافقا معهم والحصول على شيء من محتويات جاره وبالتالي يرفع من رفاهية بيته ويأمن تطاول العداء، ولا يخفى على أن هذا الخيار العقلاني الأول له علقة بالجنبة اللذية في الكائن الإنساني تمتح من الخلفية النفعية المحض، لذلك وصفناه بالسقف الدنوي في الخيار العقلاني.

واقعا لكلا الخيارين نتائج إيجابية لزيد أولهما يتخلص من عدوه اللدود وثانيهما يمكن أن يهتبل الفرصة لبناء شبكة تعاون جديدة مع أشخاص لا تنقصهم شجاعة اختراق البيوت والحصول على بعض متاع جاره، بحساب الربح كلا الخيارين العقلانيين وفق الأدنى درجة يظلان تقييما سليما.

لكن المعضلة الأساس ترتفع أمام احتمال " ماذا لو كان الأشخاص أعينهم على العمارة كاملة " هنا تنقلب الخيارات العقلانية الأولية إلى حماقة في التقدير بامتياز، وتشكل لوحدها إذنا ضمنيا باستباحة كل العمارة، وهي حتى بالمقصد النفعي تظل غير عقلانية بامتياز.

فيضحي زيد أمام خيارين عقلانيين ذوي المستوى المتوسط، الخيار الأول أن يخرج من بيته ويدافع عن جاره مع احتمال إيذائه واستهداف بيته بالتزامن. أو الخيار الثاني الاستعانة بالأجهزة الأمنية عن طريق اتصالات يجريها لتدارك الأزمة القائمة، وهنا يدخل عنصر جديد لم يكن معتبرا في عملية الحساب، وهي هل المساحة الزمنية تسمح بوصول الأجهزة الأمنية قبل اقتحام كل البيوت، فصناعة الخيار على هذا المستوى تعيد زيد إلى خياره الأول وهو التحصين مع المطالبة بالتدخل الأمني، لكن بيت عمر يكون قد خرب بالكامل، ويمكن للأجهزة الأمنية أن تضطر للتفاوض حتى لا يتأذى أهل عمر بوصفهم تحولوا إلى رهائن وهنا متغير التفاوض خارجي – خارجي يرتفع أمام زيد في عمق عملية الزمن بعد أن ألغى تفاوض داخلي – خارجي، مما يؤدي إلى إقحام احتمال جديد وهو أن يضطر الجماعة إلى خرق أجندتهم والهجوم على مجمل البيوت للحصول على أكبر كمية ممكنة من الرهائن لتسمح لهم بالتفاوض وفق شروط مريحة أكثر، فيضحي بيت زيد هو الموالي لزوما حتى بمقدم الأجهزة الأمنية.

هنا بدخول عنصري الزمن وقيام التفاوض خارجي - خارجي ترتفع أمام زيد معضلة أساس جديدة وهي أن يتحول وأهله إلى رهائن ويترك مصيرهم بأيدي أجهزة أمنية لها حساباتها الخاصة بها، غير آخذة بعين الاعتبار أولويات لا زيد ولا عمر.   

مما يدفعه إلى الارتداد إلى احتمال أن " العداء شخصي " بين المهاجمين وعمر، وبالتالي بعد إنهاء الهجوم والتوطن يمكن له أن يربط علاقات جوار معهم، فهم على كل حال لن يكونوا أسوأ من عمر، لكن قد يكونوا، وأثناء حساب الاحتمالات يسمع صوت أحدهم يصرخ " سوف نملك العمارة بالكامل "، لزيد أن يعتبر هذه العبارة حماقة صادرة عن أحد عناصر الجماعة وليست قرارا جمعيا، كما يمكنه أن يعتبر بأنها حماقة صادرة عن أحد عناصر الجماعة وهي قرار جمعي فقط حماقتها جاءت من جهة استباقها للأحداث، هنا الاحتمالات تنقسم إلى النصف سواسية.

مما يدفعه إلى بناء خيارين عقلانيين من المستوى الأعلى، الخيار الأول الهجوم والدفاع عن جاره رغم الخسائر المحتمل حدوثها لأنها ستنهي خطورتهم، وسوف تدفع ببقية الجيران إلى الانضمام ولو بعد مدة زمنية لاحتواء الخطر في دارته الأولى لكن التدخل قد يتأخر فتتوجه الأزمة إلى الدارة الثانية وهي امتلاك الطابق بكامله، وإما الخروج والانضمام إلى الجماعة المهاجمة واستهداف بقية الجيران معهم فيصير التوافق الهجومي متحققا بالانضواء وحماية البيت والأهل في نفس الآن، قائلا " البقية كانوا ليفعلوا نفس الشيء فهم أنانيون بدورهم لماذا أتحمل التبعات وقد أجني الرابحات ".

فالخيارين الأخيرين كلاهما خيار هجومي بوصفه فعلا خارجيا، لذلك يتحولان إلى خيار استراتيجي وعقلاني في المستوى الأعلى، وللخيارين مرجوع لعنصر الزمن وآليات التفاوض، فإن كان لهذين العنصرين دور حسابي في القرار في المستوى الأوسط، فإنهما تحولا إلى عنصرين حاسمين ونهائيين في المستوى الأعلى.

الملاحظ بأنه وعلى مستوى دور فاعل واحد تتناسل الخيارات على ضوء تزايد المعطيات وتتعقد لعبة حساب الاحتمالات، لكن لو تكاثر الفاعلون فإن صناعة القرار السليم تتعقد أكثر وزيادة حتى تصل مقام الإعضال الأقصى، فلو افترضنا باقي سكان العمارة والذين لا يخلون من كراهيات متبادلة اتخذوا قرارات مختلفة وتحركوا على هذا الأساس فالصدام لن يكون بين سكان العمارة والمهاجمين بل قد يتطور الوضع إلى قتال بين سكان العمارة أنفسهم على ضوء الزاوية التي اتخذوها في تدبير أزمة عمر، ومن هنا يرتفع السؤال الأساس: ما هو القرار الحاسم الواجب اتخاذه في ضوء اللايقين وتحت إسفين الكراهية المعتملة في سكان العمارة ؟ هذا ما سوف نشتغل عليه في هذه الورقة البحثية.

أفق الإدراك وتدبير دفق المعلومات خلال الأزمة:   

عادة ما يقع صانع القرار خلال فترة الأزمة أمام مشكلتين أساسيتين: المشكلة الأولى تهم التواصل لأن السرية هي التي تحكم العقلية خلال هذه الفترة بالذات، لذلك التواصل قد يضيق إلى أقصى دائرة ممكنة وقد ينعدم بالكامل، والمشكلة الثانية هي في تشخيص دفق المعلومات القادمة من كل حذب وصوب، إذ يصعب عليه تحليلها جميعا وتشخيص الهام والأقل أهمية، إذ " يزداد احتمال تفاقم المشكلات الاتصالية إبان الأزمات، حينما يتعلق الأمرُ بالاتصال بين الدول، فمما يعرقل الاتصالَ بين الدول أثناء الأزمات مشكلةُ تزايد المعلومات إلى حد يفوق القدرةَ الاستيعابية لصانع القرار، والتي تتفاقم كلما أرهقت الأزمة صانعَ القرار، ومن ثم يُصبِحُ من الصعبِ على صانع القرار تحديدُ المعلومات المهمة الآتية من مصادرَ مختلفة، كذلك فمما يعقِّدُ عملية الاتصال أثناء الأزمة محاولاتُ العدو تضليلَ صانع القرار، بالإضافة إلى المشكلات الإدراكية التي تواجه صانعَ القرار خلال فترات القلق النفسي التي أشرنا إليها في الفصل الثاني؛ ولذلك فقد توصلت دراسة ست عشرة أزمة دولية إلى أن احتمالَ وصول الرسالة دون تشويه إلى صانع القرار أثناء الأزمة لا يتعدَّى  40 % " (  )

وعليه يضحي من المنطقي أن يتوقع الفاعل الأسوأ ويبني عليه قراراته بوصفها حركة احترازية في سباق مع الزمن، لا بوصفها عملية صدامية جبهية، إذ يعمد إلى إزالة المثيرات الإقليمية والتي قد تدفع البعض إلى التهور.

لأنه تحليل المعطيات والمعلومات لا يكون لها اعتبار إلا في ترسيم خطوات الصدام الجبهي، لا الفعل الاحترازي الاستباقي.

فيصير في مفروض البحث أن مجمل سكان العمارة إذا تراخت الأزمة ولو في شقة عمر، سوف يعمدون إلى الانضمام إلى المهاجمين لتحقيق رفاههم الذاتي على ضوء المستجدات، فيكون الخيار العقلاني الأصوب هو خروج زيد والدفاع عن عمر رغم الكراهية المتوطنة، لأن التداعيات قد تضحي أكثر جسامة ويصعب الخروج منها إلا بخسائر كبرى على الجميع.

ذلك أنه وفي دراسة مطولة حول كيفية تدبير معضلة السجين خلص روبيرت أكسيلرود إلى أن برنامج واحدة بواحدة حقق  نجاحا أكبر من غيره من البرامج، ذلك أن هذا البرنامج كان بسيطا جدا، فعندما يتعرض لغدر من اللاعب الثاني يبادله الغدر في النقلة التالية، لكن إن بادره اللاعب الثاني بخطوة تعاون بادله في النقلة التالية بتعاون، حتى يتوصل إلى تفعيل سياسة واحدة بواحدة، ويضحي هناك توافق بين اللاعبين لجمع أكبر نقط ممكنة في ظل التعاون وحده. (  )

لكننا واقعا ننطلق من مقدمة لا تعتبر أخلاقية وهي أنه في ظل العداء تكون القاعدة العامة هي الغدر، بقصد تصفية حسابات أو تخلص من غريم إقليمي غير مرغوب به، فتكون واحدة بواحدة هي تسلسل للأزمات والاحتقانات قد تدفع إلى حرب إقليمية عاجلا أم آجلا، فيكون الأولى هو اعتماد آلية وقائية تزيل فتيل " اهتبال " باقي الفاعلين للفرصة وجر المنطقة إلى أزمة خانقة ومزمنة، تضحي مشتلا طبيعيا للاحتراب سواء ذي الوتيرة المنخفضة أو المرتفعة.

فيصير وفقا للفرضية التي أقمناها هي أن يتدخل زيد لدفع المهاجمين وتحمل الخسائر وفق تقدير الموقف المعتبر بحصر الصدام في قلب شقة عمر، بدلا من انتظار بناء القناعات لذا باقي سكان العمارة، فتضحي مقولة أمير المؤمنين سلام الله عليه " إن هبت أمرا فقع فيه فإن شدة توقيه أعظم مما تخاف منه " دينامية استباقية بحس وقائي معتبر، وسط منطقة تغوص في اللايقين وتضعضع في صنع القرار الاستراتيجي.

فوفقا للرؤية الأولية ومع قيام العداء سيتحرج الجيران من التدخل المباشر في الأحداث لأنهم لم يعودوا يتوفرون على معطيات حجم النجاح الذي سيحققه المهاجمون من أساسه، وفي نفس الآن يضحي احتمال نجاح زيد وعمر في دفع المهاجمين موجبا ردعيا للإقدام على أي فعل مباشر منهم.

صحيح أنه بعد هذه العملية مبدئيا لن تكون لك لا ناقة ولا جمل لأن أقصى ما سوف تحرزه هو إرجاع الأوضاع إلى الحالة التي كانت عليها، لكنها يقينا تكفل لك العقال للجم كل التداعيات الممكنة وفق أسوأ السيناريوهات هذا إن لم ينقلب العداء تعاونا أكثر صلابة في المستقبل، إن خفت من شيء فقع فيه أو تراجع إلى الخلف تحت إسفين الكابوس.

 

 

  ـ لويد جنسن: سياق صنع القرار تر الدكتوران محمد بن أحمد المفتي و محمد السيد سليم، عن الموقع الإليكتروني : HYPERLINK "http://www.alukah.net/culture/0/69721/" \l "ixzz4f5i0YGMG"http://www.alukah.net/culture/0/69721/#ixzz4f5i0YGMG

  ـ يرجع إلى كتاب روبيرت أكسيلرود : نشوء التعاون ترجمة فريق منبر الحرية عن دار النشر منبر الحرية وخصوصا البحث المتعلق ب " نجاح مبدأ واحدة بواحدة في ألعاب الحاسوب ". 

المصدر: شاهد نيوز

المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع