بين اطلاق الرصاص المتعمّد والرصاص الطائش، وبين الطعنات والمشانق، بين القتل والانتحار، اصبحت يومياتنا حافلة بأخبار القتل، حتى اضحى تساؤلنا اين ستكون جريمة اليوم واي شكل ستتخذ اشبه بنكتة موجعة.

في وضع كهذا، كلنا مشاريع ضحايا، بغض النظر عن نمط حياتنا واماكن تواجدنا وطبيعة عملنا وكل التفاصيل المتعلقة بنا افرادا وجماعات. وهذا الوضع ليس قدرا ولا صدفة او مجموعة صدف تزامنت. صحيح ان الجريمة امر وارد منذ فجر المجتمعات، الا ان ارضها اليوم في لبنان تحديدا شديدة الخصوبة، وذلك لاسباب عديدة، نذكرها ليس خوضا في تبرير الجرائم لا من قريب ولا من بعيد.

ان انعدام الامن الاجتماعي بالاضافة الى البطالة وتردي الاوضاع الاقتصادية وتفشي الاتجار بالمخدرات (والمطالبة بتشريعها!) وتراجع العمل القضائي واختلال التوازن في العدل القائم على المحسوبيات حينا والامزجة احيانا، كلها عناصر ساهمت بشكل او بآخر في جعل الجريمة اقل رهبة في عين المجرم. بالاضافة الى دور الاعلام الذي حوّل الكثير من المجرمين الى نجوم تلفزيونيين تتسابق الشاشات الى استضافتهم في مشهد تسويقي ربحي.

ومع ارتفاع منسوب اخبار الجرائم، ارتفعت اصوات كثيرة تطالب باعادة تفعيل عقوبة الاعدام، كاجراء رادع.. الا اننا جميعا، او معظمنا على الاقل، وسواء كنا من المشجعين على هذه العقوبة او المناهضين لها، ندرك ان الاجراء الرادع لن يكون فاعلا في ظل الحفاظ على خصوبة الارض التي تصنع الجريمة والتي ذكرنا بعضا من عناصرها اعلاه. وبما ان الاعدام هو خيار قضائي متاح قانونا، لا بد ان نذكر ان التساهل في الاحكام عموما بدءا من الاحكام الهزلية على العملاء مرورا بالعفو عن المدانين قضائيا لاسباب سياسية وصولا الى تأخير المحاكمات والمماطلة ادى الى ضعف الثقة بالقضاء من قبل الضحايا والى الاستخفاف بالاحكام من قبل المجرمين، سواء الذين نفذوا جرائمهم وتواروا او الذين ما زالوا في طور التخطيط.

ثمة محطات كثيرة وجب اصلاحها ومعالجتها قبل الدخول في الجدل حول القبول بالاعدام او رفضه. ومفاصل كثيرة تستوجب الترميم بدلا من احصاء الضحايا يوما بعد يوم. وان كان السلك القضائي رأس الهرم في المسؤولية عن هذا الوضع، فذلك لا يعفي الاعلام من دوره في الترويج للجريمة عبر التعامل مع بعض المجرمين كأنهم ابطال اساءت لهم الظروف، وان كان البعض منهم ضحايا بشكل او بآخر، فإن ذلك لا يمنحهم اي سبب للتعاطف او معاملتهم معاملة "المثال". وفي هذا الاطار يقع الاعلام في فخ التناقض ان لم نقل الكذب حين يبرر هذه الاستضافات في اطار ادانة المجرم او حين تطالعنا القنوات بمقدمات انشائية تدين الاجرام وتزين سهراتها بلقاء مع مجرم آخر!

اننا في زمن التواصل لحظة بلحظة، ولهذا بشكل او بآخر، لم تعد هناك جريمة "مخفية".. صحيح ان هذا سيف ذو حدين، اذ يتيح الكثير من الاضافات على القصص الحقيقية، الا انه يشكل مساحة تسمح لنا ان ندرك اننا، كما نحن جميعا مشاريع ضحايا، علينا ان نكون جسر توعية قد يصل الى مشاريع المجرمين والى عائلاتهم المنكوبة بهم قبل الجريمة وبعدها.

لكل شيء مقدمات، ومن مقدمات الانهيار المجتمعي ان تصبح الجريمة مجرد خبر نتداوله اثناء وجبة طعام او نزهة ترفيهية. لذا، اقل الايمان ان نحاول، اقله ان نكسب شرف المحاولة، أن نكون في بيوتنا، في مدارسنا وجامعاتنا، في اماكن عملنا وفي الطرق، عناصر فاعلة ضد الجريمة قبل ان تقع، مع "الضحية" قبل ان تخوض عالم الجريمة بدور الجلاد، مع العائلة التي تكابر لأسباب اجتماعية او مادية لتتستر على من سلك اول درب الاجرام.. ان نكون في الخاص وفي العام صوتا يواجه القاتل، يدين تاجر المخدرات، يعزل المعنِّف، يجابه الفاسد، لا يهلل لمطلق النار في الهواء، لا يعذر السارق.. بذلك فقط، نحمي انفسنا واطفالنا، نحمي مجتمعنا من الغرق اكثر في مستنقع لا قيامة منه، ولا نجاة.

المصدر: شاهد نيوز

المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع