منذ قيامي بعملية اغتيال المشروع المُعدّ للبنان والمنطقة في عام 1982، ومساهمتي في خسارة إسرائيل مشروع دولتها الكُبرى، وظل الكيان أسيراً ضمن أسواره التي لم تكن مشيَّدة بعد، ثم خسرت الولايات المتحدة أشدَّ حلفائها المعدّين لأدوار أساسية ومنهم بعد مقتل بشير الجميل، المدعو رفعت الأسد الذي وصلتْه أموال طائلة من الخليج على مدى سنوات، وقد تحضَّر وقتها للانقضاض على قصر المهاجرين مع سرايا دفاعِه المحيطة بالعاصمة.

ناهيك عن خسارتهم الجزئية أو المؤقَّتة للقاعدة الفعّالة لهم في لبنان، والتي لم ييأسوا إلى يومنا هذا من صبّ اهتمامهم بها، بالرغم من كل الأحداث التي جرت لهم فيها، سيَّما أن لديهم حلفاء وعملاء أشدَّاء وأوفياء، حتى رصدوا مليار دولارٍ لبناء سفارتهم الجديدة.
ومنذ ذلك التاريخ، وأنا أتعرَّض مع عائلة أبي الكُبرى لشتّى أنواع وصنوف التعذيب والتصفية والنفي والحرمان من أبسط الحقوق، كل ذلك خارج القوانين والأعراف والتشريعات الدولية والمحليّة، إلى حدٍّ انقطَع فيه اتّصالي بكل أفراد عائلتي الذين ما زالوا على قيد الحياة. ولكن نتعرَّض أيضاً لحملة منظّمة ومبرمجة ومموَّلة لتشويه سمعتنا، في الوقت الذي لم يبالِ فيه أيٌّ من المستفيدين مما قمت به، بالدفاع عني وعن عائلتي، أو حتى مساعدتنا في شيء، وفي مقدّمة هؤلاء بعضُ الأحزاب والسياسيين ممن تقدموا في السلطات على حساب ما قمنا به. ومعهم رجال الأعمال المرتبطون غالباً بهم، والذين يقومون باستثمارات كبيرة ورابحة.
هذا سبب رئيسي، دفعني إلى تدوين هذه السطور ليس إلا لأنَّ الناس في بلادنا لا تتمتَّع بذاكرة قوية فتنسى الموقف والكلام، لا بل لأن بيننا من لا يبقى ثابتاً على قناعة، ويحتاج باستمرار إلى صاحب الشأن، ليوضح الأمور والملابسات ويقدم ما يعزز القناعة، بعدما يتعرض هؤلاء للحظة شك نتيجة تصريح مبتذل من أيّ عميلٍ أو مجرم حرب أو سارق أو متورّط بالخيانة، كما أنَّ صاحب الشأن في حالتي، لا يملكُ وسيلةً إعلامية على حسابه أو في مقدوره التصريح بما شاء وقتَ يشاء. فكيف عندما يخرج شخص مثل جورج فريحة بكتاب هدفه تبرئة ساحة «بشير» عن المسلمين ــ من ملف معاهدة السلام مع إسرائيل ــ علماً بأن علاقات «بشير» الإسلامية، اقتصرت في حينه على حفنة شخصيات تقليدية تمثِّل نسبةً متدنية من الشارع الوطني والإسلامي فترة الحرب الأهلية، وأبرزهم صائب سلام.
كما أن كلام فريحة المتلفَز على قناة «OTV» المعروفة التوجُّه في هذا الملف منذ كان العماد ميشال عون ضابطاً في الجيش، انحدرَ إلى مستوى دوني بهدف المساس ولو كلامياً بالأعراض، مثل الإيحاء بعلاقة مشبوهة بين جان ناضر الذي كان قد تجاوزَ الستين من العمر وشقيقتي التي في السادسة والعشرين، والتي طُلبت للزواج أكثر من سبع مرات خلال سنوات قليلة، لشخصيتها الحاضرة وجمالها وسمعتها الحسنة ومستواها الأكاديمي والثقافي. إذ تخرجَّت في كلية إدارة الأعمال في الجامعة اليسوعية وأتقنت ثلاث لغاتٍ بشكلٍ ممتاز، فيما لم تلتقِ بناضر إلا مرَّة واحدة بطلبٍ من خالتي ماري عازار التي كانت على معرفة به منذ مقاعد الدراسة، وأرادت إبلاغَه رسالةً شفهية في مسألةِ بيعٍ أثارها وسوف تردُ معنا بعد قليل، وقد نزلت لدقائق من البيت إلى مكتبه في المبنى أمامي وأمام كل الكتائبيين والجيران الحاضرين. وهكذا أمسى بشير ــ حسب رواية فريحة غير الصحيحة على الإطلاق ــ مقتولاً بسبب علاقة مشبوهة، لأنهم كانوا على علمٍ بالقاتل وأعفوا عنه!
لعمري قد يصلحُ كلامٌ كهذا مشهداً لفيلمٍ خيالي ساخر، إذ اغتيل في المنطقة الشرقية كل الذين عُرفوا علانيةً بانتمائهم للحزب السوري القومي الاجتماعي تقريباً، وقد تخطَّى عددهم الخمسمئة من المسجَّلين في مكتب الشهداء، وفق ما قاله لي مسؤول المكتب من آل حاموش في عام 1981، فكيف لو عُرف أي شخص حاول اغتيال قائدهم، سواء كان قومياً أو حتى كتائبياً أو بأي انتماء؟!
لم يكتفِ الكاتب بهذا المقدار، بل ذهبَ أبعد من ذلك ليخلطَ بيني وبين ابن عمّي الذي قصدوا تصفيته - انتقاماً من عائلتنا - عن طريق إرساله إلى الجبهات بالرغم من انخراطه في صفوفهم خلال حرب السنتين، قبل أن يتركَهم على أثر اعتقالِهم له وتعذيبه ــ فيما عجزوا عن تصريفِه بسبب شراسته ــ وكانوا قد تمكنوا من استمالتِه نظراً إلى وضعه العائلي. فهو نشأ يتيماً، فقد والدته وهو في الرابعة من عمره. واعتادوا أخذه لتدريبه عشية الحرب من مدرسة دير المعوش للرهبان ذي النظام الداخلي دون علم عمّي شفيق الذي كان يعيده إلى المنزل نهاية كل أسبوع. وهو كان يعمل في إدارة مصنع للألبسة أسسه والدي من ماله، ليديره زوج خالتي في منطقة الحدث ببيروت، وقد سُرق مع بضاعته وآلاته ومحتوياته بالكامل أيام الحرب.
كان عمّي شفيق قد تعرّف إلى الزعيم أنطون سعادة في مطلع الثلاثينيات وانتمى لحزبه (رقم بطاقته 34، وهناك وثائق عنه في تاريخ الحزب)، وكان يلتقي به يومياً في الكوخ أو عند المنارة على جل البحر، قبل أن يكون هناك آلات تصوير فوتوغرافي لأن مجمل الصور المأخوذة لسعادة، باستثناء حفنة منها، أُخذت في لبنان بعد عودته من مغتربه في الأرجنتين عام 1947، وقد خسر عمّي وظيفته، رجل تحرٍّ في العدلية من دون أن يتمكَّن من العمل لفترة طويلة، بعدما حُرم القوميون من حقوقهم المدنية، ما جعل أبي يمدّ له يدَ العون وتركه ليعتني بالأراضي في القرية.
وقد استغل الكتائبيون حالة عمي وابنه كما تفعلُ عادةً الأحزاب الطائفية في بيئاتها، ولم يكن في عائلتنا مؤيد لحزب الكتائب سوى ابن عمّ لأبي، وكان موقفه سبب انقطاع علاقتنا به، علماً بأن بيار الجد كان يزور بيتنا عشية كل انتخابات نيابية، علَّ الوالد يبدّل رأيه. ولأن والدي لم يكن مسيَّساً أو ذا انتماء، فقد سارَ على طريق أبيه في قبول الآخرين من بقية الطوائف اللبنانية، وعدم الانحياز للدين في السياسة، وعندما أعدموه انتقاماً من عمليتي أعدموا إلى جانبه وفي الوقت نفسه عمّي الأصغر فؤاد الذي كان عازباً وحملَ دون معرفتي المُسبقة بطاقةً كتائبية، إنما لم ألاحظ ممارستَه لعضويته في حزبهم.
وهكذا كرّسني فريحة في كتابه مقاتلاً مستبسلاً في صفوفهم على الجبهات أمام الأحزاب من الطرف الآخر الذين قتلتُ منهم المئات ــ حسب تلميحاتِه وتلميحات مقدّم البرنامج المتجاوب معه من دون أي تحفّظ ــ حتى يثيرَ حفيظتهم وغيظهم ضدّي، كما فعلوا عندما حمّلوني ذنب مجازر صبرا وشاتيلا التي ارتكبوها بأنفسهم بسبب اغتيالي «القائد الإنساني» الذي وقف حائلاً دون حدوثها، وكأنّ استمرار الاجتياح ــ لو بقي رئيساً ــ لم يكن ليسقِطَ عدداً أكبر من الضحايا أو كأنه لم يكن المبادر والمعلّم الأول في مجال تلقينهم كيفية القيام بتلك المجازر التي احتاجت إلى حشد قوات وتخطيط مُسبَّق، بدءاً بالكرنتينا والضبية وحارة الغوارنة، مروراً بتل الزعتر وجسر الباشا وغيرها من المواقع ضدّ المدنيين العزَّل. ولذلك سعى فريحة إلى تبرئة بشير من بعض هذه الجرائم، ما ذكَّرني بحديث أسعد شفتري المخادع في توبتِه، عن عدم تعذيبي أو ضربي أو إيقاع أي ظلمٍ بي لأنني اعترفتُ فوراً وبابتسامة ومن دون أي تردد!
يجدُر التنويه هنا بإجراءات بشير الميليشيوية في استدعاء الشبان قسراً في المنطقة الشرقية للخدمة الإلزامية، والذي كان قد بدأ في حيّ البدوي والناصرة، حيث كنت أتردد إلى منزل إحدى خالاتي المسافرة منعاً لمصادرتِه ككل المنازل الفارغة، فيما أُرغمتُ على حمل بندقية والتردد لمرتين أو ثلاث لا أكثر إلى موقع البرجاوي، حتى لا يصادر رئيس القسم طوني الأشقر الشقّة، كما قال لي خلال مكالمة هاتفية، بعدما لاحظ تهربي منهم، وذلك لانتمائي سراً للحزب القومي، سيَّما أن وساطة مسعود الأشقر رئيس وحدات الدفاع عن بيروت آنذاك، والزميل لشقيقتي في الجامعة لم تنجح في إعفائي كلياً من النزول.
ولا حاجة للعودة أكثر من ذلك في الوقت الحالي أو لذكرِ مزيدٍ من الأسماء وما دبّروه وفبركوه من سيناريوات إعلامية محترفة ومتأثّرة بعلم المخابرات بين مختلف الأجهزة الموجودة فوق الأراضي اللبنانية في مختلف المراحل التي واكبت عملية خروجي من المعتقل إلى يومنا هذا.
المشكلة اليوم، أنّه بعد كشفِ الديباجات المتّفق عليها بين مختلف الأطراف، وهدفها التنصل من أي مسؤولية عني، بحجّة عدم تفتيح الجروح، ما يقودهم عملياً إلى التضحية بي أنا، والتضحية بعائلتي جيلاً بعد جيل. واليوم، لم يعدْ أحدٌ قادراً على تحمُّل وجود شخصٍ مثلي. وقد أصبحت عبئاً على ضمائرهم. فأنا شخص لا يُباع ولا يُشترى، ولم أعدْ أنتمي أو أتبع لأحد أو أتلقى أوامر أحد. وأبقى الشخص المغيَّب قسراً، أحترمُ الجميع، لكنني أتوقع أن يُبادل بالمثل. وسوف أظل أقول كلمتي الحرَّة متى استطعت، وسأبقى حتى آخر يومٍ من حياتي ملتزماً بوطنيتي وقوميتي وبأخلاقي.
ومن هذا المنطلق، وبعدما تأكَّد لي تمسُّك الجميع بمحاكمتي، وعدم تطبيق القوانين على حالتي،
وبعد تثبيت حجبي عن الظهور ومنعي من إصدار أيّ كتاب، أو التعبير عن رأيي في أي وسيلة تواصل اجتماعي،
وطالما أنه لا فائدة من أيّ ردّ قانوني،
قررت كتابة هذا المقال بأسلوب القصص التي تُروى من جيلٍ إلى جيل، وفيه:
حدَّثني أبي،
ولد أبي في بيروت، كان جدي الشيخ حبيب صالح الشرتوني مختاراً لمنطقة رأس بيروت على مدى أربعة وعشرين عاماً، قضاها في خدمة الناس من دون أن يتقاضى راتبَه أو يتقاضى أيّ مال منهم، متّكلاً في مدخولِه المادي على شراكتِه مع أخيه في مصنع لإنتاج الحرير. وكانت بيروت تضم مئة ألف مقيم في مطلع القرن العشرين، ومنهم ستون ألفاً لرأسها الداخل في البحر.
درس والدي الطبّ في الجامعة الأميركية، وقبل تخرّجه بعام واحد اضطُرّ إلى ترك الجامعة والعمل في مستشفاها القديم الذي لا يزال قائماً إلى يومنا هذا، بعدما خسرَ جدي معظم ماله في تهمةٍ ملفَّقة عن عمالتِه للإنكليز ودعاوى أقامها ضدَّه المطران مبارك المؤيّد لهجرة اليهود إلى فلسطين ولبنان، لدى محاكم سلطات الانتداب الفرنسي، والتي سقطت ببراءة جدي وحقّه بردّ اعتباره في المحكمة، بينما توسّله المطران عبر رئيس الجمهورية حبيب السعد ألا يفعلها ليُلحِقَ به الضرر. والخلاف بينهما بدأ عندما صادف وجود ضيف بحضور المطران في منزل جدي في شرتون، ودار الحديث حول تأسيس مدرسة في القرية. وقد أساء المطران للضيف بالكلام، وهذا لم يكن مقبولاً وفق العادات والتقاليد، لكن أبي، عاد وموَّل المشروع في مرحلة لاحقة، ثم سجَّله باسم عمَّتي التي سكنت مبنى المدرسة بعد إغلاقها نتيجة وفاة زوجها في حادث.


وخلال مزاولة والدي عمله في مستشفى الجامعة، اضطر والدي إلى السفر سنة واحدة إلى الولايات المتحدة لنيل شهادة الطب. إذ كان يعمل في المشرحة التي يُجرون فيها أبحاثاً طبيَّة وعلميَّة وفي مختبر التحاليل، ويعمل حارساً على مستودع الأدوية والتحاليل المخبرية التي بلغت أسعارها أرقاماً خيالية أيام الحرب العالمية الثانية. وكان من بين أصدقائه ضباطٌ أميركيون موجودون في بيروت أثناء تلك الحرب، وقد شجَّعوه على السفر حتى يحصل أيضاً على الجنسية الأميركية.
لكنّ جدتي ــ كأي امرأة قروية متعلّقة عاطفياً بأولادها ــ هددت بقتل نفسِها لو سافرَ وابتعدَ عنها. ونزولاً عند رغبتها، أكملَ عملِه حتى ترك المستشفى بعد ستة عشر عاماً وأسَّس مع أربعة من زملائه مختبراً طبياً عُدّ من أوائل المختبرات الطبية الخاصة في لبنان في ذاك الزمان، وكان اسمه «المختبرات الطبية المتحدة» الذي عملَ أكثر من نصف قرن على طريق الترامواي، وقد تبدَّل اسم الشارع أكثر من مرة، قبل أن تُسرق معداته ومحاليله في مطلع الأحداث، بالتعاون بين مالك المبنى وأحد التنظيمات المحليّة.
كان والدي يرفض تقاضي العمولة المتوافق عليها، بين الأطباء والمختبرات ومختلف أقسام الخدمات الطبية، ما دفعَ بمعظم السفارات والشخصيات إلى التعامل معه فترة مديدة من الزمن للصدقية والشفافية والدقة في النتائج.
في تلك الأيام، عرف والدي طبيباً اسمه الدكتور ماير Mayer وهو من عائلة ألمانية يهودية وعريقة، لكنه عارض قيام دولة إسرائيل، وهو مؤيّد لحقوق العرب في فلسطين، أحبَّ والدي كابنه، إلى حد أنه تمنى عليه الزواج بإحدى ابنتَيه، وقد رجاه السفر معه إلى الولايات المتحدة بعد تعيينه رئيساً لإحدى أهم المنظمات الطبيَّة العالمية، لكن أبي التزم برغبة والدته، فسافر Mayer، تاركاً له منزله مع فرشِه الذي باعَه وأرسل له المال. وفي إحدى المرات، التي كان فيها حاضراً لمؤتمر في ألمانيا، وجدَ أن لديه متّسعاً من ثماني ساعات، فطارَ إلى بيروت علَّه يقنع الوالد بالسفر والعدول عن قراره، بحيث قضى تلك الساعات الليلية جالساً إلى جانبه والدمعةُ في عينِه، لكنّ الأخير كان قد تزوّج في هذه الأثناء وأنجب شقيقتي البِكر.
أما منزل جدي المُستأجر فكان يقع بالقرب من فندق بلازا القديم في آخر شارع الحمرا الممتلئ بأشجار الصبَّار، ما يستدعي المرور بجلّ البحر سيراً على الأقدام لبلوغه حتى لا يتطاير وبرُ الصبّار مع الهواء على المارّة، وحيث كان أبي يصطادُ العصافير ببارودة أهداه إياها صديقٌ من آل لبان، وقد استعملتها بدوري أيام الطفولة. وقد توسَّلت مالكةُ المنزل جدّي البقاء فيه وامتلاكه مقابل مبلغٍ زهيد من المال حتى لا تترك العائلة رأس بيروت، بعدما سعى كثيرون لإقناع عمّي القبول بالمخترة بعد جدّي، فيما فضَّل الأخير وظيفةً في البريد المركزي أوصلتْه إلى إدارة قسم الطرود على مدى ربع قرن، وقد زرتُه برفقة الوالد مرةً واحدة في مكتبه الواقع إلى جانب مبنى البرلمان. وقد أصر جدّي على العودة إلى الجبل لمعاونة رئيس الجمهورية حبيب باشا السعد، الذي يقطن على مقربة من منزلنا، ومنذ ذاك الوقت شغل المخترة معاون جدّي من آل «ربيز»، ما أمسى تقليداً لعائلته.
منزل العائلة الأساسي كان جميلاً ووسيعاً، يقعُ في أول فرن الشباك بمحاذاة أحد فروع الجامعة اللبنانية، وتنازل جدّي لشقيقه عن حصته مقابل منزل الجبل العائد إلى العائلة أيضاً، والذي عادَ وأعطاني قسماً منه، وقد استعادته أمي بعد وفاته من ابن أخيه مقابل مبلغ مالي.
في منزل بيروت، مات الشيخ اللغوي سعيد الشرتوني (1) شقيق مؤلف «مبادئ الصرف والنحو» المعلم رشيد الشرتوني، وقد ظلت صورتان لهما معلّقتين في غرفة نومي في منزلنا القروي المبني قبل أكثر من مئتي عام، إلى أن نُسف ثلاث مراتٍ على يد ميليشيات «القوات اللبنانية» في شرتون، وسُرقت محتوياته، ومنها سيفٌ يرجع إلى زمنِ الرسول محمد، إلى جانب كتب قديمة جداً، بينها نسخة من الكتاب المقدَّس بالسريانية وحجمه يوازي حجم وشكل حقيبة السفر القديمة، بالإضافة إلى مفروشات فاخرة ترجعُ إلى القرن التاسع عشر.
لا ريب أن الشيخ حبيب عادَ ولعبَ دوراً مهماً في معاونة رئيس دولة ما قبل الاستقلال، بحيث أمَّن له أيضاً حماية منزله في زمنٍ درجَ فيه الثأر وحوادث الاعتداء الطائفي، ما عرَّض داره في «عين تريز» لأكثر من محاولة اعتداء، تماماً كما فعل الشيخ حبيب مع عائلات كثيرة كانت على وشك أن تُظلم في بيروت والجبل من خلال إسقاط الدعاوى المقامة ضدَّها مهما كان حكمها قاسياً، وكان يؤوي بعض العائلات في منازل لا يجرؤ أحدٌ على دخولها، بما في ذلك عناصر الدرك. وكان للشيخ رجاله، من قبضايات كان يلتقيهم في قهوة «الحاج داوود» الواقع في جلّ البحر. إذ كان كلامُه مسموعاً بين القرى والناس، وفق ما أكده لي المعمّرون من معاصريه.
كنا في نزهة عائلية وأوقفنا السيارة في شارع الحمرا، حيث مضى أخي الأصغر ليشتري لنا بعض الفلافل، وما لبثَ أن عاد منادياً أبي لأن صاحب المطعم سأله عن اسم والدِه مستشبهاً به. وعندما أجابه، أدمعت عينه قائلاً: «فُضيِت راس بيروت بس تركتوا». يومها، عرفتُ عن وجود العائلة في رأس بيروت قبل زواج أبي وانتقاله إلى الأشرفية، فرحتُ بعدها وبسبب حبّي للمعرفة أطرح أسئلة على أبي الذي كان قليلَ الكلام، لا يبادرُ به، حتى سمعتُ منه بعض هذه القصص، فيما عشتُ أو سمعتُ من سواه الباقي.
وتبيّن أن انتقال السكن إلى الأشرفية سببه رغبة أمي، التي عاشت هناك، حيث مولد جدّتي واسمها ملكة زيدان، وهي من أولاد عمّ الأديب جرجي زيدان، وانتُخبت رئيسة (لمدى الحياة) لأهم أخوية في زمانها «الحبل بلا دنس» التي اختارت جدّي نعمان صابر شاعراً لها. وماتت عشية الحرب الأهلية، فيما عادت والدتي وتسلمت لسنوات مهمة أمينة السرّ في فرع الأخوية الكائن في كنيسة مار يوحنا في الأشرفية، حيث كانت تتردد يومياً لحضور القداس وتوزيع التبرّعات على المساكين والفقراء الذين اعتادوا انتظارها يوماً في الأسبوع. وقد نشأت والدتي بين عائلات بيروتية كريمة كآل تويني، مقدسي، دباس وساسين، وقد بادلوها التحية والاحترام أينما صادفوها.
أما المبنى العائد إلى جدي (والد أمي)، فقد بني على مساحة ألف متر، وكلف جدي أربعمئة ليرة ذهبية جمعها خلال اغترابه في المكسيك. لكن المبنى استولى عليه حزب الكتائب بضرب احتيال قام به أحد أعضائه (جان غاوي) الذي سجّل عقد الإيجار باسمه، مؤكداً استعماله الشخصي لاستقبال بعض رفاقه في الحزب للعب الورق في أحيان كنادٍ وليس كمقرّ حزبي، قبل أن يصادروه لسنوات طويلة ويخلوا بعض شققه خلافاً للقانون، ليشتروه في المحصلة وبعد مفاوضات عبثيّة بمبلغٍ زهيدٍ من المال لا يعادلُ خمسة في المئة من قيمتِه الحاليّة، فيما ليس الأمر كما يُشاع أن جدي أو أختي كانا يسكنان الطبقة العلوية.
ومن هذه القصص (2) التي ذكرت أضيف خمساً فقط باختصار:
1ـ كان أبي عضواً في فريق كرة القدم «Varsity» الخاص بالجامعة، وتقاضى كمحترف ليرة ذهبية عن كلّ مباراة يخوضها الفريق ضدّ الفرق القادمة من خارج لبنان. وحصل أن قصدَ شخصٌ جدي في آخر أيام المخترة طالباً مساعدة مالية، وصادفَ حينها أنه لم يكن بحوزتِه مال كافٍ، ولم يشأ أبي أن يكسِرَ بخاطر أبيه، ففتحَ الجارور حيث يضع الليرات قائلاً للزائر أن يأخذ ما يريد، فأخذ الذهب وشيَّد به مبنيين صفراويي اللون في منطقة الصنائع، بقيا ماثلين إلى يوم دلَّني أبي عليهما في مطلع الثمانينيات.
2ـ نظّمت الجامعة لطلابها رحلةً بحرية إلى إيطاليا في أول عهد موسوليني مدتها شهر، ووالدي الذي اشتُهر بحبّه للفن والمعالم كان بين المسافرين على متن السفينة، وعندما وصل إلى هناك طُلب منه ــ باسم الوفد ــ إلقاء محاضرة بالإنكليزية، بثت عبر الإذاعة الرسمية عن علاقة لبنان بإيطاليا. فأعدَّها وألقاها وختمها بالقول: إنّ الموج الذي ارتطمَ بصخور شواطئ فينيقيا عاد وارتمى على سواحل روما. والذي حصل أن موسوليني أعجب بالمحاضرة، فأرسل له بطاقةً شخصية مع إشارة بحسم سبعين في المئة من أي مبلغٍ مستوجب الدفع، ما جعلَ الإيطاليين يخشون تقاضي أي مال عند رؤية البطاقة.
3ـ حضرَ إلى المختبر في أحد الأيام شخصٌ سرياني من العراق طُلب منه إجراء تحاليل وفق نظام كنيستهم قبل عقد قرانه على إحدى الفتيات، ليتبين أنه مصابٌ بداءٍ جنسي. وأمام كثرة استفساراته قال له والدي: دمكَ متّسخ. فأخرجَ الزبون كيساً من الذهب ووضعه على الطاولة، فأردفَ أبي: لقد ازدادَ اتّساخاً، خذ كيسك واخرُج من هنا، فهدد الرجل باستعمال ماله لعقد الزواج. وما إن خرجَ حتى اتّصل أبي ببطركيتهم. وبعد قرابة السنة مضى إليها ليأخذ عيّنة دم من البطريرك، فسأله عن اسمه، ولمّا أجابه قال: انحنِ قليلاً حتى أقبّل جبينك، وهل ما زال هناك أناسٌ مثلك؟
4ــ محاميان من عائلتنا، هما من أبناء عم لأبي، قررا أواخر الستينيات السفرَ إلى الخارج، بعدما تعرّضا لإزعاجات من كتائبيي شرتون لتأسيسهما نادياً ثقافياً رياضياً فيها، وتقديم مسرحية «طواحين الليل»، والتي حازت جائزة من وزارة السياحة واستقطبت حركة سياحية إلى القرية الوادعة على سفح جبلٍ يبعدُ ثلاثين كيلومتراً عن بيروت، فيما أودعا الأرباح في صندوق النادي، ما سمحَ ببناء مقرّ له. لكن قبل مغادرتهما لبنان، طلب أبي من أحدهما الذاهب إلى أميركا الوسطى، أن يسأل عن شخصٍ أرمني أقرضَه أربعة وعشرين ألف ليرة قبل أن أولد ولم يعدها. فعلّقتُ مازحاً بالرغم من صغر سنّي: وهل وصلت بك الحال إلى الشفقة على غريبٍ لا تعرفه لتقرضَه مالك، وفقط لأنه استعطفكَ بطلبه؟
5 ـ عندما سُرق مرفأ بيروت في عام 1975 وحُرقت عنابره ومستودعاته تمهيداً لإفراغها، سُرقت وأتلفت أطنان من أثواب قماش بقيمة ستمئة ألف ليرة لبنانية أو ما يعادل مئتي ألف دولار في حينه، وهي عائدة لمعمل الألبسة الذي كان والدي يملكه وكان اسمه كونترا ــ Contra، فأرسلَ أحدُ المسؤولين الكتائبيين من شرتون ــ والذي لا يشرّفني ذكر اسمه ــ لأبي خبراً حتى يُدخِلَ إلى المرفأ شاحنةً ويملأها بأي بضاعةٍ يرغبُ فيها. حضرَ أبي إلى المرفأ، وبعدما تأكّد من فقدان البضاعة أجاب المسؤول: لن أطعمَ أولادي مالاً حراماً. فاقترب أحدهم عارضاً بيعه أربعين ألف قميص ماركة بيار كاردان ــ Pierre Cardin، بأربعين ألف ليرة، فأعاد على مسامعه المقولةَ عينها، إلى أن اندفعَ أحدُهم من شرتون أيضاً وكان يحب والدي قائلاً: عمّي سوف أحمل لك بضعة أثواب في سيارتي ويمكنك رميها إن لم تقبلها. وفعلاً، حملها في سيارته وأوصلها إلى المنزل، فيما عادَ وأعطاها أبي لزوج خالتي الذي حصل باسم الشركة على اعتماد بنصف مليون ليرة من تاجر من عائلة شلفون في أفريقيا ليزوَّده بالألبسة، فنقل بفضلها عمله إلى جزيرة قبرص، عارضاً على أبي مشاركته، لكنه رفضَ المشاركة في مجالٍ لا يفقه فيه كثيراً.

 

(1) استعملتُ لقب شيخ لأنّ سعيد الشرتوني أرسلَ بعض مؤلفاته إلى السلطان عبد الحميد الذي منحَه هو وعائلته اللقب، فيما لم يستعمله أيّ فردٍ من أفرادها.
(2) قد يتبادر إلى ذهن البعض القول: ما شأنه وعائلته؟ وأين دوره في كل ذلك؟ ولماذا يأتي على ذكر تلك التفاصيل؟ وعليه أشير إلى أنّ التشويه المادي والمعنوي طالَ كل العائلة، ما اقتضى التوضيح قدر الإمكان ولو لمرة واحدة، كما أن من البديهي إصدار كتابٍ، لا مقالٍ فقط، لإلقاء بعض الضوء على جزءٍ يسير مما فعلته في حياتي، لأنه لا متّسع لذكره هنا، وسوف يقدّم هذا الكتاب ــ إذا رأى النورَ يوماً ــ جواباً شافياً عن السؤال المطروح بقوة منذ زمن، وهو: لماذا لم يحاكم أمين الجميّل حبيب الشرتوني؟

المصدر: الاخبار