قد لا يكون مقنعًا بالنسبة لأيّ إخواني أو وهابي -وكلاهما من ذات الفصيلة اللهم اختلاف القشريات-، أن يكون حزب الله أخطر على وجود "إسرائيل" من قناة الجزيرة، أو أن يكون بقاء الرئيس الأسد أخطر عليها من خطابٍ متخمٍ بالصراخ للرئيس التركي، وهنا لا نحاول إقناعهم بشيء خصوصًا في عصر سهولة الحصول على المعلومة، وسهولة الحصول على وجهة النظر ونقيضها بل وعشرات نقائضها.
فمثلًا يصر الرئيس التركي على أنّه أكبر وأكثر من يحارب الإرهاب، ونحن يجب أن نصدق أنّ جماعتي "داعش" و"النصرة" وغيرهما من فصائل الإرهاب، قد هبطوا من غامض علم الله على سوريا، وأتحفنا اليوم بتصريحٍ فيه من الهوجائية ما يكفي لتسخر منه عقلية برعونة بن سلمان، فقد قال "إنّ عملية درع الفرات غيَّرت جميع الموازين في سوريا"، وأنا مقتنعٌ جدًا بدليل نسياني المطلق للعملية وقواتها لولا تذكيره هذا، وهذا النسيان حتمًا ناتج عن شدة الأثر والتأثير، إنّ هذا التصريح لا يعدو كونه تجلٍ جليّ لهزيمة مشروع العدوان على سوريا.
بعد نتائج مؤتمر أستانة على الميدان العسكري، بدا وكأنّ أردوغان افتقد للكثير من أوراقه، فقد سُحبت منه تدريجيًا دون أن يكسب حتى اللحظة هامش للمناورة مع أميركا تارةً ومع روسيا تارة، وأدرك على حين غفلةٍ أنّ دخوله الأراضي السورية لم يكن سوى فخًا وعبئًا وليس مغنمًا، فقد وقع بين كماشة النقمة الكردية والشرعية السورية والتخلي الأميركي، ومرارًا قلنا أنّ أردوغان ليحظى بانسحابٍ آمنٍ من سوريا عليه تسليم قوات "درع الفرات" للجيش السوري أو انسحابهم مع جيشه إلى حيث ألقت، هذا في الوقت الذي كان يظنّ أنه سيقلب الموازين ويمسك بأوراق الضغط ليفاوض من موقع قوة، ليحصل على الطاولة ما لم يستطع الحصول عليه بالإرهاب، وهذه ظنونٌ صبيانية، لأنه أكثر من يعرف أنّ دخوله للأراضي السورية كان بعد موافقةٍ أميركية وضوء روسي أخضر وإيراني برتقالي، وكل هذا قائم على عدم ممانعة سوريا لظروفٍ في حينها، فمن يعطيك شيئًا قادرٌ على انتزاعه منك وقتما شاء، وهذا بعكس ما تنتزعه بالقوة الذاتية، فيحق لأردوغان التبجح بتغيير الموازين فيما لو كان في الأراضي السورية دون كل تلك المظلات الحامية، ففي الوقت المناسب الذي تقرر فيه سوريا وجوب إنهاء الوجود التركي، سيكون أردوغان على موعدٍ مع دفع الثمن، ويبدو أنّ المهزومين يتحدثون ذات اللغة، فكلما تعاظمت قوة حزب الله ازدادت "إسرائيل" تبجحًا.
ولكن الفرق بين أردوغان و"إسرائيل" أنّ الأخيرة لا تهوّن من قدرة العدو وقوته، وتتبجح بقوتها لا بضعف الخصوم، فقد قال الرئيس السابق لـ"مجلس الأمن القومي الإسرائيلي" الجنرال غيورا إيلاند، "أنّ الكيان الاسرائيلي غير قادر على تحمل حرب جديدة مع حزب الله، لذلك يجب تجنب اندلاعها قدر الإمكان" وأضاف "أنّ الهجمات الإسرائيلية في سوريا جرعة منخفضة ومحسوبة جدًا كي لا تتسبب بردّ مباشر ضد إسرائيل"، وحذر آيلاند من "أنّ إسرائيل ستكون أمام خيارات صعبة في حال انتهاء الحرب في سوريا، والذي سيكون فيها حزب الله في جانب المنتصرين". قد يكون هذا الكلام عاديًا ومعروفًا لولا أنّه أتى في سياق تحذيري تهديدي، حيث قال "أنّ الحرب في حال نشوبها يجب أن تنتهي في ثلاثة أيام لا ثلاثين يومًا"، وأضاف أنّ أفضل وسيلة لمنع الحرب هو "أن يفهم الجميع مسبقًا أنّ الحرب المقبلة ستكون ضد الدولة اللبنانية وبناها التحتية، أي تدمير لبنان"، وقد استوقفتني جدًا الثلاثة أيام التي يريد إنهاء الحرب خلالها، فإذا لم يكن مقصده استخدام السلاح النووي فكلامه مجرد هراء، وإذا صح هذا الافتراض فإنّ "إسرائيل" تدرك ما نتلمسه جميعًا منذ انتصار تموز، وهو أنّ الحرب القادمة هي الحرب الأخيرة، هل يدرك اللبنانيون والعالم العربي من خلفهم معنى أن تكون القوة الشرق أوسطية الأولى وثامن مصدري السلاح عالميًا تبحث عن موازين ردعٍ مع لبنان لتجنب مواجهته.
إنّ تهديد لبنان بهذا الفرز يهدف إلى صبّ الزيت على نار التباينات الداخلية، وكأنّ حزب الله ليس حزبًا لبنانيًا وأنّ مقاتلي حزب الله وجماهيره لا يستخدمون البنى التحتية، فهو يريد أن يسرق ماء لبنان ونفط لبنان وأراضي لبنان في صمت، وإن دافع حزب الله عن لبنان فهو من سيتحمل أمام اللبنانيين مسؤولية الدمار، فالمياه التي تسرقها "إسرائيل" من لبنان إيرانية والنفط التي تنوي سرقته هو إيراني، وشبعا وكفر شوبا بلدتان إيرانيتان، فعلى اللبنانيين انتزاع سلاح الحزب لتسرق "إسرائيل" في هدوء، ولكن من سوء طالع "إسرائيل" خصوصًا أنها تدرك بأنّ الحرب القادمة هي الأخيرة، فلن يكون لهذا التهديد أيّ فعالية على مستوى الداخل اللبناني، لأنّ الاسترزاق بالأصل قائم على خدمة أهدافٍ "إسرائيلية" بشكلٍ مباشر أو عبر أموالٍ عربية، وعليه فبعد زوال "إسرائيل" لا جدوى من العداوة مع سلاحٍ بلا أعداء، وأخيرًا بالعودة للأيام الثلاثة، فإنّ "إسرائيل" إما تبيّت نية استخدام الأسلحة غير التقليدية منذ اندلاع شرارة الحرب، وإما أنها تدرك أنّ قوة احتمالها للترسانة النارية لحزب الله لا تتعدى الأيام الثلاثة، وفي كلا الحالتين فهي توقع شهادة وفاتها.