ارتداء القفازات، كما الأقنعة، حيلة الجبناء. لكن جعل الخوف من تهمة الخيانة وكأنه خوف من رصاصة طائشة، فهذا والله حيلة البلهاء. أما التذرّع بالاختلاف الدائم حول الهوية الوطنية، فهو، في حدّ ذاته، المرض المستعصي مع حاملي فيروس "الانكار". ومعهم لن يستقيم الحال ولا النقاش!
مشكلة أهل الانكار مزدوجة: فشل ذريع في التوقعات والتقديرات، وإلقاء اللوم على المنتصرين. هؤلاء ينفون عن الآخرين معرفة الحق والصواب. جلّهم لا يرتاح على مذهب أو رأي، والتاريخ عندهم حمّال أوجه لا حقائق فيه.
في حالتنا اللبنانية والعربية، يصبح فشل النظام الرسمي العربي، ومعه نخب وأفكار وأحزاب، في حفظ السيادة والاستقلال والعجز عن تأمين التطور والازدهار، مبرراً للاعتراف بالعدو. يريد أهل الانكار لنا أن نكون مثلهم. أن نعيش تحت وطأة الهزيمة كل العمر.
أهل الانكار يشكون من أنظمة متهالكة تسببت بالفقر والتخلف والاحتلال. ثم يقولون لمن يحاول ــــ وقد نجح ــــ في مواجهة الاحتلال وتقليص حجم الظلم: لا نريد سيادة واستقلالاً على أيديكم. ثم يصدرون الفتوى بأن المشكلة ليست في الاحتلال والاستعمار، بل في من يرفض الاستسلام. ومع خلاصات كهذه يصبح صحيحاً قولهم بأنه لا مجال لاتفاق على وطنية أو مقدّسات، ولا حتى على بعض من قيم!
لنعد إلى بديهيات كالتي تلجأ إليها الشعوب من أجل صياغة تفاهمات الحدّ المقبول للعيش بسلام. يتم جمع الأوراق والأفكار في دستور يرسم إطار الوطنية العامة، ولا يغلق الباب على تعديلات فيه أو نسف له. وفي حالتنا نسأل:
هل ثمة تفاهمات أولية لدينا في لبنان؟
هل إسرائيل عدو لنا؟
هل تمثّل مجموعات الإرهاب خطراً علينا أم لا؟
إذا كان لدى البعض رأي آخر، فليخرج ويقل لنا، علناً، إن إسرائيل ليست عدواً. وليطالب بإلغاء حالة الحرب معها، وليقل لنا إن ارهابيي العصر لا يشكلون خطراً وإنهم أخوة لنا. ولكن، ليرفق موقفه بالدعوة إلى استفتاء، كما تفعل الدول التي يعشقها أهل الانكار، وبرعاية من يشاؤون. وإذا ربحوا بفارق واحد في المئة، سنذعن لهم، أو نترك البلد ليرتاحوا منا.
أما إذا كانت النتيجة، كما هو واقع الحال، حيث أن غالبية لبنانية حقيقية مقتنعة بأن إسرائيل هي العدو، بعدما جرّبناها جميعاً، محتلاً أو حليفاً، وبأن الإرهابيين يمثلون نقيض الحياة، وقد جربناهم انتحاريين أو ثواراً أتقياء... فماذا نفعل؟
كيف يستقيم الحال مع هؤلاء، وهم لا يرون حقيقة القوى المعادية لبلادنا. وهي القوى التي تعطينا الدرس تلو الآخر، عقداً بعد عقد، بأنها تحتقرنا، ولا تريد لنا مكانة تعلو فوق نعالها.
كيف لنا مناقشتهم وهم يقولون لنا إنه لا موجب لمقاومة الاحتلال وقتال الإرهابيين، وإن كل ما علينا فعله هو الصمت، وانتظار بركات الرجل الأبيض؟
هل يقول لنا أهل الانكار كيف نتصرف معهم وهم يرفضون مراجعة مواقفهم وتصريحاتهم ونصوصهم خلال ربع قرن، وكيف لم يصيبوا في تشخيص أو تحليل أو تقدير واحد؟
بماذا نصفهم، عندما يصبح موقفهم معادياً لمن يرفض الاحتلال والقهر والمجانين. بماذا ننعتهم وهم يرفضون كل مقاومة للعدو والإرهابيين؟
هل من صفة تطلق على هؤلاء، سواء في العالم المتخلّف أو المتقدّم، أو حتى في عوالم من ينتظر على الرصيف، غير صفة الخائن والعميل؟
أهل الانكار يريدون لنا اعتبار فشلهم، المتوالد سنة بعد سنة وإطاراً بعد إطار ومشروعاً بعد مشروع وفكرة بعد فكرة، أنه نتيجة تعنّتنا نحن، وإصرارنا نحن، على مقاومة الاحتلال وأدوات الاستعمار!
على أيّ حال، من بين قلة يمكن مناقشتهم، بعض العقائديين، حتى العظم، من فريق يرفض كل ما يمتّ إلى عالم المقاومة بصلة. بينهم حازم صاغية، المنتمي طواعية إلى نادي الخصوم. وبرغم ما يعتبره جرأة في رفض المقاومة، فهو لا يزال يخاف من قول حقيقة موقفه من إسرائيل ومن الإرهابيين وفي كيفية مواجهتهم... إذا كان يرى وجوباً لهذه المواجهة.
في مقالة له في ٢٦ تموز الماضي، كتب حازم صاغية في «الحياة» ما عناه درساً لنا بعد انتصار المقاومة في تحرير جرود عرسال من قتلة وإرهابيين. قال بجدية أو سخرية: «إنّ من ينتصر يتعلّم الرحابة والثقة في النفس. يدعو خصومه، وقد انتصر، إلى طيّ صفحة الماضي. إلى فتح صفحة جديدة. وقد يقول، مثلاً، عبارات من نوع: «عفّى الله عمّا مضى». قد يتذكّر الأوصاف القديمة التي نسبتها كتب الإنشاء إلى العرب: العفو عند المقدرة».
حسناً، لنفعل ذلك، وقد فعلنا، لكن: كم مرة تقول للشخص نفسه عفى الله عما مضى، وكم مرة تسامحه، وكم مرة تطلب له العفو؟ ألم يتعلم من كل ما مضى، ويتوقف عن الخطأ؟ ألا يعرف أن المدرسة التي يتعلم فيها فاشلة، وأن مرجعيته خائبة، وأن خياراته تجعله في مواجهة الجدار دوماً؟ لكن حازم صاغية يكرر وصفته الدائمة بأن «انتصار طرف كهذا ــــ وليكن على «داعش» أو «النصرة» أو إسرائيل ــــ هزيمة. لن يُبتزّ أحد بالطبيعة القبيحة للطرف الآخر، لكنّ أحداً ينبغي ألّا يُبتزّ بالطبيعة المثيرة للغثيان في هذا الطرف».
هل نعود هنا مع حازم صاغية نفسه، إلى ما كتبه عشية تحرير العام 2000، يوم طالب المقاومة بإلقاء السلاح والرحيل، حتى قبل خروج قوات الاحتلال؟ وجد ما يكفي من الأسباب لحلها. لكن الجواب جاءه يومها من جهاد الزين الذي دعاه لأن يصبر ويهدأ ولا يغضب من انتصار مقاومة ليست على ذوقه الايديولوجي!
ثم يعود حازم صاغية، في ٢ آب ٢٠١٧، لينشر في «الحياة» درسه الجديد لنا بأن «ظاهرة العمالة والخيانة، لا تنشأ إلّا في بيئة الأنظمة الاستبداديّة والتوتاليتاريّة التي تقول بوجود قضيّة مقدّسة أو قضايا مقدّسة»، ثم تراه لاعب جمباز يقفز فوق كل الحقائق صارخاً «أعطنا قضيّة مقدّسة وخذ عملاء وخونة». وحتى لا يطول بنا الانتظار يقف بيننا مثل خطيب حاسماً النقاش: «نحن مختلفون عميقاً في معنى الوطنيّة، في معنى مكافحة إسرائيل، في معنى محاربة الإرهاب». ثم يزجر بنا متوهّماً تفوقاً معرفياً وأخلاقياً ليقول: «قياساً بوطنيّين كهؤلاء، يسعدنا أن نكون خونة هذا البلد وعملاءه. إنّ الدنس خير من تلك القداسة».
في كل ما سبق، يبقى حازم صاغية أميناً لفكرة سكنته منذ اكتشف عجز المقاومة الفلسطينية عن تحرير فلسطين، وعجز الحركة الوطنية اللبنانية عن إنتاج حل لأزمة لبنان. وهذا حقه. لكن المشكلة التي تحزّ في القلب، أن يصل به فقر المنطق وصدأ أدوات التحليل، إلى أن يعتبر مهاجمة الخونة والعملاء تورية تخفي «طائفيّة مقنّعة بحيث تُستخدم تهمة العمالة لتجنّب ذكر جماعات طائفيّة أخرى هي المقصودة فعلاً بالشتيمة».
في هذه النقطة، من المفيد لفت انتباهه إلى أن آخر ما يتمناه المرء لشخص مثل حازم صاغية، أن يكون مواظباً على سماع أناشيد فؤاد السنيورة حول الطائفية والمذهبية. لأن حقيقة ما نعيشه يقول، بوضوح، بأن اتهام الآخرين بالعنصرية والطائفية هو، في الحقيقة، حيلة المهزومين!
بالأمس، كتب حازم صاغية مقالة بعنوان «زمن حزب الله» متحدّثاً عما شهده لبنان في الأسابيع الماضية، وبدا فيها متفاجئاً وعاتباً كيف «نعيش اليوم الحقيقة الخطيرة التي هي اندماج البندقيّة بالتأييد الشعبيّ العابر للطوائف». ثم في لحظة تخلٍّ يرى أن هناك أسباباً لانتصارات حزب الله بينها «سبب اسمه حسن نصر الله: الوجه السياسيّ الوحيد غير التافه في صحراء السياسة اللبنانيّة. ذاك الرجل بنى موقعه بالعمل والجدّ والسهر، والعيش تحت الأرض... في خطاباته سلّح، ويسلّح، جمهوره بالحجج التي تغذّي سجالهم السياسيّ... يخطب نصر الله فيُشتقّ موقف سياسيّ من خطابه».
ربما يجد البعض في ما يقوله حازم صاغية «إقراراً بالهزيمة». ربما في ذلك بعض الحقيقة. لكن الأكيد، أنه إقرار يشبه إلى حد المطابقة إقرار ابو مالك التلي بهزيمته في جرود عرسال. إنه أشبه باستسلام من خسر المعركة ولم يبدّل قناعاته. حازم صاغية، هنا، لا يخبرنا بجديد عندما «يمدح» عدوه الأول، و«يبهدل» من اعتبرهم هو، يوماً، الأمل في بناء دولة لا وجود للمقاومين والممانعين فيها. لكن الصدمة التي لن يتأخر حدثها وستفقده صوابه، تتعلق بأن الغرب، الذي يعشقه صاغية، يركض بكل أنفاسه، بالإغراء كما بالتهديد، صوب حزب الله وما يمثله، يريد منه تواصلاً، أو علاقة وتعاوناً، وربما تحالفاً إن لزم الأمر. وهي صدمة سبق لحازم أن جرّبها قبل عقود!
في ذلك الزمن، كتب الراحل جوزيف سماحة عن صديقيه وليد نويهض وحازم صاغية، محللاً علاقة خاصة بينهما، وسجالاً حيال النظرة إلى إيران والغرب في ثمانينات القرن الماضي مع انكشاف فضيحة «ايران غيت»، إذ تبين أن الأميركيين يبيعون السلاح لإيران. قال جوزيف يومها إن «حازم ذهب في «الحداثة» محمولاً على المد الريغاني باعث أمجاد الغرب وأميركا ووائد كارتر، «الديمقراطي المائع» الذي لم يعرف أن يلقن خاطفي الأميركيين في بيروت الدرس الذي يستحقون. لكنه عاش مفاجأة «أميركية». أحسّ أن ريغان غدر به. جعله يعتقد أن أميركا العائدة بقوة إلى قيادة العالم هي خارج إطار التعاطي السياسي مع إيران».
قال جوزيف إن حازم «يهاجر من جواب إلى جواب». هي الهجرة التي تحولت مهنة. لكنها بلغت حدوداً تتجاوز الحدود المعقولة لسن التقاعد، وهو ما قد يكون العلاج الأنجع... أو لنقل إنه حيلة المفلسين!
اليوم، 14 آب، الذكرى السنوية لتحطيم المقاومة أسطورة جيش إسرائيل. ويصادف، أيضاً، يوم صدور العدد الأول من «الأخبار». نعود إلى ذلك الصباح الذي كتب فيه جوزيف سماحة إننا في «زمن يتميّز بوفرة «الحسابات الخاطئة». إنّ لبنان في مرحلة مفصلية، وكذلك منطقتنا. ويمكن قول الأمر نفسه عن العدوان المتمادي الذي نتعرض له. لقد دخلنا هذه المرحلة المفصلية لأن هناك من أجرى «حسابات خاطئة». لقد كدنا نعتاد أن هذه التهمة توجّه إلى من يقاوم ظلماً، أو يتمرّد عليه، أو يرفضه بعنف. إلا أن الفترة الأخيرة توفّر أدلة لا تحصى على أن التهمة انتقلت من جهة إلى أخرى. لم يعد سرّاً اليوم، من هو الطرف الذي خالف الدقة».
قال جوزيف قبل 11 عاماً ما يطابق حالنا اليوم، حيث ان لبنان«الخارج من صلابة الممانعة وركام الخرائب لن يكون لبنان الذي عرفناه قبل. فلبنان قبل 12 تموز 2006 كان وطناً معلّقاً ومزرعة سمّيت، تجاوزاً، دولة. يجب الحؤول دون ترميم المزرعة من أجل التقدم نحو بناء دولة المواطنين التي يمكنها، وحدها، بعدلها وقدرتها وحرصها السيادي، أن تستوعب هذا الاستعداد المذهل للانتصار على الصعاب، وأن تنظر إلى المقاومة، أيّ مقاومة، بصفتها عصباً يشدّ النسيج الوطني، ويقوّي صلابته، ويدافع عن عروبته، ويمنع انزلاقه نحو الخراب الكبير الرافع وهم «الحياد» والداعي إلى حرمان الأمة من المساهمة اللبنانية الفذّة. دلالات المواجهة المستمرة كثيرة».
اليوم، نقترب أكثر، من أي وقت مضى، من فرصة إعادة صياغة المنظومة السياسية والاقتصادية التي ستحكم هذا الشرق لعقود طويلة. وهي حقبة قاسية وموجعة بعوارض نموها، وربما بأصعب من آلام المواجهة مع المستعمر وشياطينه.
بيننا مقاوم يرتفع دوماً فوق القامات. وبيننا خونة وعملاء لن تغسل الدماء عارهم. وبيننا مهزومون يحتاجون الى علاج على يد مبدع يمنع عن مرضاه الارتماء في حضن شياطين العصر، حيث لا شيء سوى الجنون والانتحار!