اقتدت حكومة الرئيس سعد الحريري بتجربة حكومة الرئيس تمام سلام: لا مكان للملفات الخلافية على طاولة مجلس الوزراء ولا تطرح، ويترك لافرقائها المعنيين مناقشتها خارجه والتفاهم عليها قبل العودة بها اليه كي يبارك قراراتها

في معظم ما شهدته حكومة الرئيس سعد الحريري، في الاشهر التسعة المنقضية، ثمة مطبخ يكبر او يصغر خارج مجلس الوزراء، يدير التوافق على الملفات الخلافية وينجزها طال الوقت او قصر، بغية المحافظة على تماسك الحكومة الحالية. حدث ذلك في معظم قراراتها الرئيسية: قانون الانتخاب، التعيينات الادارية والامنية وصولاً الى الديبلوماسية، السياسة الخارجية حيال الغرب، الموازنة. لم تنفجر الحكومة في اي من الملفات هذه، وحرصت ورئيسها على تذليل العراقيل تباعاً.

سَهُل في معظمها التفاهم بسبب ارتباطها الوثيق بتقاسم الحصص في الادارة والمداراة المتبادلة في توزّع المكاسب ومراعاة موازين القوى داخل مجلس الوزراء، من غير انكار اي من افرقائه ان الوجه الآخر له محشو بكمّ لا يستهان به من التناقض والتنافر والانقسام، كالموقف من الحرب السورية وسبل معالجة مشكلة النازحين، ومن نظام الرئيس بشار الاسد، ودخول حزب الله في الحرب تلك. كذلك الامر بالنسبة الى مواجهة الجيش ارهابيي جرود عرسال وتقييد دوره بذريعة ان هؤلاء معارضو النظام، مروراً بعلاقة حزب الله بايران واندمامجه في الصراع الاقليمي بينها ودول الخليج، انتهاء بالسياسة الخارجية المرتبطة بقطبي التجاذب الايراني ــ السعودي. ثم كانت اخيراً حرب حزب الله لطرد ارهابيي جرود عرسال.
بقيت هذه الملفات في منأى عن مجلس الوزراء، الا انها ظلت مثار تراشق يومي تقريباً الى ان انفجر احدها الاربعاء الفائت 9 آب، عند طرح زيارة الوزيرين حسين الحاج حسن وغازي زعيتر الى دمشق، المقررة غداً. في شق مكمل لزيارة دمشق انقسام حاد بين فريقي الحكومة حيال احتمال التنسيق الامني بين الجيش اللبناني ونظيره السوري وحزب الله في حرب الجرود ــ2.

في ضوء ما حدث في جلسة الاربعاء، خرجت حكومة الحريري بخلاصة لم تتنصل منها مرة، مفادها ان انقساماتها هي التي تحمي استمرارها وتماسكها اكثر منه تفاهماتها، بدليل تمسك كل طرف بوجهة نظره المناوئة للآخر في الملفات الساخنة، ومقدرته في الوقت نفسه على ابتلاع موساها رغماً عنه. اكثر ما تصحّ هذه الخلاصة في الحريري نفسه الذي أنهى الجدل بإزاء انقسام الموقف من زيارة دمشق بشطب كل ما دار في الجلسة من المحضر كأنه لم يحدث. لعل العبرة الرئيسية ان اياً من الفريقين لا يريد اطاحة الحكومة في هذا التوقيت بالذات: لا رئيسها الذي يملك المفتاح يوم يعلن استقالته، ولا ثنائي حزب الله ــــ حركة أمل الذي يوازن فرض خياراته بالحؤول دون انهيار الحكومة.
خرج الحريري من جلسة الاربعاء اقرب ما يكون الى شاهد عيان على المسار الذي يقتضي تصورّه لحكومته، من دون ان تقع في فخ انقسامها على الملفات الاقليمية. ملفات كهذه يتعذر الاتفاق عليها داخل مجلس الوزراء، مقدار تعذر تذليل التناقض في المطبخ الخاص المصغر على هامش السلطة الاجرائية.
بالتأكيد يقارب البعض حصيلة الجلسة على انها هزيمة للحريري وفريقه السياسي الذي يمثل نصف الحكومة، ولم يسعه سوى الرضوخ على مضض لما انتهت اليها في نتائجها المباشرة وهو ان الوزيرين سيقصدان دمشق بصفتهما الرسمية وكوزيرين بالتحديد وليس الشخصية رغم معارضة رئيس الحكومة، ونتائجها غير المباشرة وهو الاقرار بأن القطيعة مع نظام الاسد لم تقع في الاصل وقد لا تكون في هذا الوارد.
لعل هذا الجانب هو الاكثر اهمية تبعاً لمعطيات من بينها:
1 ــ ليس كافياً ايراد البيان الوزاري النأي بالحكومة الحالية عن الصراعات الاقليمية كي يُعد ذلك قطيعة مع النظام السوري وحكومته. ليس كافياً ايضاً ان يرفض الحريري استقبال السفير السوري في بيروت او مصافحته في احتفال قصر بعبدا في الاستقلال كما في تشرين الثاني 2016 كي يفضي الى اقتناعه بانتزاعه شرعية وجود السفير في لبنان. ومع ان لا تواصل معلناً على الاقل بين رئيس الجمهورية ميشال عون والاسد، اسبوعياً شأن ما درج عليه سلفاه الرئيسان اميل لحود وميشال سليمان كل سبت، بيد ان المعلن ان الرئيس اللبناني حليف متين للاسد، وحليف متين لحليف الحليف وهو حزب الله الذي يقاتل الى جانب النظام.
2 ــ لا يزال لسوريا في لبنان سفيرها منذ عام 2008 هو علي عبدالكريم العلي يمثل رئيس بلاده ولا احد سواه قبل الحرب السورية وإبانها، ولا يزال يُستقبل رسمياً من رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان ويجول على القوى السياسية الحليفة لنظام بلاده بالصفة هذه. في المقابل لا يزال السفير اللبناني في دمشق يحتفظ بمنصبه وافضت التشكيلات الديبلوماسية الاخيرة الى تعيين سفير جديد هو سعد زخيا من المفترض ان الرئيس السوري هو ــ وحده ــ مَن سيوافق على تعيينه ويتسلم اوراق اعتماده كممثل لرئيس لبنان. لا تطبّع زيارة الوزيرين علاقة لبنان بجارته، ولا تمثل اعترافاً جديداً بنظام قديم في الاصل لم يسحبه كي يعيده.
3 ــ ليس خلاف افرقاء رئيسيين يمثلهم الحريري وحلفاؤه مع سوريا اليوم اسوأ مما كان ما بين عامي 2005 و2009. حينذاك امسكت قوى 14 آذار بالسلطة الاجرائية تماماً، ولم يمنع ذلك رئيس الحكومة فؤاد السنيورة من زيارة دمشق ومقابلة الاسد في تموز 2005، قبل ان يمضي هذا الفريق في عدائه لها في السنوات التالية والاتهام المباشر لرئيسها باغتيال الرئيس رفيق الحريري. لم تشأ الغاء المجلس الاعلى بين البلدين ولا شطب الاتفاقات الثنائية ولا طردت رئيسه نصري خوري، قبل ان تقود التطورات الاقليمية المتتالية الحريري، بعد اتفاق الدوحة وبعيد ترؤسه الحكومة، الى مصالحة ذلك النظام عام 2009.
4 ــ قد يكون من الصواب القول ان نصف لبنان متصالح مع سوريا ونصفه معاد لها، بيد ان الامر لا يصح عندما يتعلق بحماية الجيش ومصالحه. قد يكون ما حدث في حرب مخيم نهر البارد عام 2007، في ذروة التصعيد ضد الاسد ونظامه واتهامهما باغتيال الحريري الاب وتحميلهما مسلسل الاغتيالات، ان الجيش تسلّم من سوريا عبر القنوات التي لا تمر بالسياسيين، ذخائر ــ لأسلحة كانت زودته اياها مطلع التسعينات ــ لمواجهة تنظيم «فتح الاسلام» وتصفيته. لم يحتج يومذاك الى موافقة حكومة السنيورة على ما يفترض انها لا توافق عليه البتة. ذلك ما يقتضي ان يعنيه على ابواب حرب الجرود ــ2 التنسيق الأمني الحتمي بين الجيش ونظيره السوري، وكلاهما في مقلب من الجرود في مواجهة عدو مشترك.

المصدر: نقولا ناصيف - الأخبار