كلما تصاعدت التصريحات الإسرائيلية ضد حزب الله، ارتفعت توقعات المحللين بأن إسرائيل تستعد لشن حرب، وبالتالي يبدأ التهويل من الجهات المحسوبة على الجانبين الأميركي والإسرائيلي بأن الحزب يورّط لبنان والمنطقة في حرب لا طائل منها، وبأن هذه الحرب من النوع الذي لا يُبقي ولا يذر.

لكن من الواضح أن التهديدات الإسرائيلية فقّاعات لا قيمة لها، بغضّ النظر عن قوة حزب الله وإمكاناته وخبراته التي اكتسبها في سوريا والعراق، وهي بحد ذاتها تجعل العدو يفكر آلاف المرات قبل القيام بأي عدوان.
ولشرح الرؤية التي تؤكد استبعاد شن حرب إسرائيلية على لبنان قريباً، لا بد من العودة قليلاً إلى الماضي، لاستخلاص فكرة عن الجو الذي يجب توافره كي تجرؤ إسرائيل على شن هذه الحرب.
عندما شن الجيشان المصري والسوري، عام 1973، هجومهما الصاعق الذي كاد يحقق نصراً على إسرائيل، تدخل الأميركي، ليس فقط لتقديم الدعم العسكري للعدو، بل أيضاً لتفكيك الجبهة المصرية ــــ السورية الموحدة، فتولى وزير الدفاع الأميركي آنذاك جايمس ستيلزنغر تزويد إسرائيل بالسلاح عبر الخط الجوي المفتوح، فيما عمل وزير الخارجية هنري كيسنجر على تفكيك الجبهة الموحدة. ونجح الاثنان في مهمتيهما وانتصرت إسرائيل على الجيشين.
رأت القيادتان السياسية والأمنية الإسرائيلية حينئذ أن فتح الجبهات، كما حصل عام 1967، أمر لا يمكن تحمّل نتائجه. فأصبح في أساس الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية ألّا تخوض إسرائيل أي حرب في ظل جبهات موحدة ضدها. وهذا ما حصل لاحقاً، في اجتياحي 1978 و1982 للبنان، حين شنّت الحربين وهي مطمئنة إلى حياد مصر بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد، وإلى عدم قدرة سوريا على التأثير، لكونها غارقة في حربها مع الإخوان المسلمين.
وعندما شنّ العدو حرب «تصفية الحساب» مع المقاومة في تموز 1993، كان مطمئناً إلى أن سوريا لن تخرّب مشاركتها في «عملية السلام» وتدخل المواجهة، وكذلك في حرب «عناقيد الغضب» (1996)، عندما جعلت إسرائيل كل الأنظمة العربية خلفها، فكانت سوريا في ذروة عزلتها الإقليمية... وفي اجتياحاتها لغزة كانت متأكدة من عدم قدرة إيران أو سوريا أو حزب الله على فتح الجبهات لأسباب سياسية متعددة.


بعد قرار واشنطن بالسيطرة المباشرة على المنطقة، مع احتلال العراق عام 2003، وجد الأميركي والإسرائيلي أن أقصر طريق لتثبيت هذه السيطرة هو «قطع أذرع إيران» في الخارج وتطويقها ضمن حدودها. فحُرِّك الملف النووي وشُدِّد الحصار الاقتصادي عليها، وفي الوقت نفسه استُخدمَت سياسة العصا والجزرة مع حليفة إيران في محور المقاومة، سوريا، لإبعادها عنها، بعد أن أصبحت الجيوش الأميركية على حدودها الشرقية، فكانت حرب تموز 2006 التي توقعت واشنطن أن تكون نهايتها مخاضاً لشرق أوسط جديد، أميركي بالكامل.
فشلت الحرب وهُزمت تل أبيب، ومن خلفها واشنطن، بفضل صمود المقاومة والدعم السوري والإيراني، فانتقلت الولايات المتحدة وإسرائيل مع حلفائهما في أوروبا والخليج إلى مخطط جديد نواته سحب سوريا من محور المقاومة والعمل على شيطنة إيران وحزب الله، من خلال نشر الفتنة المذهبية ودعم الحركات التكفيرية عبر السعودية وقطر، وتجييش هذه الحركات لتتولى مقاتلة حزب الله وإيران، بالنيابة عن إسرائيل.
استخدم الأميركي العراق ساحة أساسية لنشر الفتنة المذهبية، لكون الولايات المتحدة تحتل أراضيه، ولديها القدرة من خلاله على تنفيذ مخطط كهذا. وكانت صفارة الانطلاق إعدام صدام حسين بعد أربعة أشهر على انتهاء حرب تموز2006 بصورة مستفزّة للشارع السنّي في العالم العربي، وبعدما كانت دمشق متهمة بقتل الرئيس رفيق الحريري، «جُيّر» الاتهام إلى حزب الله، ووُجِّهَت كل من قطر وتركيا للعمل على سحب سوريا من محور المقاومة. وعندما أخفقت، تقرر العمل على إطاحة النظام في دمشق وإقامة نظام جديد معاد لإيران، أي بما معناه إنهاء «سوريا الدور»، لكون النظام الجديد سيقطع الإمداد عن حزب الله، وبالتالي يمكن استفراده في أي حرب مقبلة، بعدما كان الدعم السوري أهم أسباب انتصار تموز 2006.
تولى الحلف الغربي ــــ الإسرائيلي ــــ العربي ــــ التركي شنّ حرب غير مسبوقة على سوريا، أداتها الأساسية الحركات التكفيرية التي أتى بها من كل أنحاء العالم. لكن سوريا بدأت بالخروج من هذه الحرب منتصرة، بسبب قوة محورها ودخول إيران وحزب الله بقوة لمساعدتها، والدعم الروسي الذي أرادت موسكو من خلاله العودة إلى الساحة الدولية بقوة بعد 25 عاماً على ضمور دورها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي؛ وهو ما يمثل هزيمة كبرى للمحور المعادي لها وانتصاراً كبيراً لمحور المقاومة.
لم تنجح واشنطن بضرب «أذرع إيران»، وفشلت في استمرار حصار طهران اقتصادياً بعد صمودها ونجاحها في الحصول على اتفاق دولي يعترف بحقوقها النووية، وها هي تصبح ومحورها أصحاب القدرة الأساسية في المنطقة، فيما دبّ الانقسام في المحور الآخر. وهنا، ازداد الخوف الإسرائيلي، وبدأ التهويل بالحرب، يساعده على ذلك الإعلام الخليجي.
هذا التهويل لا ترجمة عسكرية له. والسبب أن إسرائيل خائفة من خوض حرب على حزب الله منفرداً، فهل تجرؤ على خوض حرب ضده وهي تعلم أن لا وجود لحواجز تمنع إيران وسوريا من دعمه مباشرة في هذه الظروف؟ المنطق يقول إن إسرائيل تهوّل بالحرب لتشكل حائط أمان دولياً لها، خوفاً من شن حرب عليها، في انتظار أن تنجح في تفكيك هذه الجبهة. وهذا لا يعني أن الأميركي، ومعه الإسرائيلي، ضعف أو استسلم. ولكنه يبدّل خططه، وهو الآن يعمل على سحب العراق من محور المقاومة بعد أن كان لإيران الفضل الأساسي في تحريره من «داعش»، ولكون بغداد أحد أضلع هذا المحور. كذلك تحاول واشنطن أن تضغط في سوريا لتكون شريكاً في صناعة مستقبلها مع روسيا، التي ترى فيها واشنطن شريكاً مقبولاً... في سوريا فقط.
 

المصدر: يوسف عبد الرضا - الاخبار