تعد جماعة السلفية الجهادية حديثة العهد في فلسطين، ولم تظهر إلا من عشر سنوات تقريبًا، وتتركز بالكامل في قطاع غزة ولا يكاد يكون لها وجود في الضفة الغربية نتيجة القبضة الأمنية القوية للسلطة الفلسطينية. ومن أبرز تنظيماتها جيش الإسلام، وجيش الأمة، وجماعة التوحيد والجهاد، وأنصار الله. علمًا بأن هذه الجماعات توحدت منذ عام تقريبًا في إطار فضفاض سُمي مجلس شورى المجاهدين في بيت المقدس.
ويعود تأخر وصول السلفية الجهادية إلى فلسطين، إلى عدة أسباب منها ما امتازت به الحركة الوطنية الفلسطينية تاريخيًا من فاعلية وحضور لثراء تجربتها، ولإمساكها بكثير من مفاصل القوة داخل المجتمع. إضافة لقوة الحركة الإسلامية الفلسطينية وتجذرها داخل المجتمع؛ وهو ما كان له أثره الملحوظ في الحد من امتداد السلفية الجهادية، فقد تمكنت الحركة الوطنية والاسلامية الفلسطينية من استيعاب الطاقات الشبابية المتدينة التواقة إلى العمل المقاوم، وخصوصًا في إبان الانتفاضتين، كما نجحت في إدارة حوار جاد مع الإسلاميين الشباب ممّن تأثروا بنوازع سلفية جهادية، وقد تمت أغلبية النقاشات في المساجد والسجون والجامعات.
ومثّل تقارب الموقف لدى الفصائل الفلسطينية المختلفة -الوطنية والاسلامية- من الحركات السلفية الجهادية، كابحًا منع تمكين هذه الحركات السلفية الجهادية من التمدد والانتشار وذلك حتى العام 2007 على الأقل عندما ازاحت حركة حماس بعملية عسكرية أجهزة حكومة محمود عباس من غزة.
منطلقات السلفية الجهادية في فلسطين
لا تعتبر الجماعات السلفية الجهادية نفسها جزءا من النظام السياسي الفلسطيني، بل جزءا من منظومة دينية أكبر تشمل العالم الإسلامي وتتباهى بالعلاقة مع الجهاد العالمي والقاعدة. وتنكر الحركة السلفية في الأراضي الفلسطينية كونها أحزابًا أو قوى سياسية أو مجتمعية، مؤكدة أنها تمثل منهجًا من التزم به فهو سلفي أكان معهم في تجمعاتهم أم لم يكن.
ولعل أوضح صورة عن الرؤية السلفية الجهادية في السياق الفلسطيني هي تلك التي قدمها الناشط والقيادي السلفي الفلسطيني محمود طالب (17 إبريل/نيسان2011) الذي قال: “نحن نؤمن بأن الجماعات الإسلامية التي تدخل الانتخابات والمجالس التشريعية هي جماعات بدعية، نبرأ إلى الله من أفعالها، كما نؤمن أن العلمانية على اختلاف راياتها ومسمياتها وأحزابها هي كفر بواح مخرج من الملة، ونؤمن أن الحاكم بغير ما أنزل الله وطائفته المبدلين للشريعة هم كفار مرتدون، والخروج عليهم بالسلاح والقوة فرض عين على كل مسلم، ونؤمن أن الديمقراطية فتنة العصر، تكرس ألوهية المخلوق وحاكميته، وترد له خاصية الحكم والتشريع من دون الله، فهي كفر أكبر مخرج من الملة، فمن اعتقدها بمفهومها هذا أو دعا إليها أو ناصرها أو حكم بها فهو مرتد، مهما انتسب إلى الإسلام، وزعم أنه من المسلمين. وبالتالي فإن إقامة الإمارة الإسلامية وعد سيتحقق”.
أما القيادي السلفي أبو عبد الله المهاجر فأكد من جهته في حديث لصحيفة الشرق الأوسط –أكتوبر/تشرين الأول الماضي 2012- على الهدف الأساس للسلفية الجهادية في فلسطين والمتمثل بإقامة الإمارة الإسلامية قائلًا: “نحن دومًا نخطط لإقامة شرع الله في الأرض، وهذا فرض وواجب على كل مسلم، ومشروعنا قائم بإذن الله، وسيأتي اليوم الذي يحقق فيه المجاهدون مشروعهم”.
أسباب انتشار السلفية الجهادية في غزة
يمكن الإشارة إلى سبعة أسباب رئيسية ساعدت على انتشار السلفية الجهادية في غزة مكان الانتشار الرئيسي لجماعات السلفية الجهادية:
الأول: مشاركة حماس في الانتخابات التشريعية وسعيها للانخراط في المنظومة السياسية الفلسطينية، بما في ذلك منظمة التحرير، ما اعتُبر برأي السلفيين اتباعًا لوسائل علمانية، وتبنيًا للأسلوب الديموقراطي في الوصول للسلطة ما يتعارض مع الأسس الشرعية والفكرية التي تستند إليها السلفية الجهادية.
الثاني: يتمثل في التهدئة التي سادت قطاع غزة بشكل شبه متواصل –مع فترات تصعيد متقطعة- منذ وصول حماس إلى السلطة في يناير/كانون الثاني 2006، وهو ما وضعه السلفيون الجهاديون في سياق تخلي حماس عن خيار المقاومة وتكرارها لتجربة حركة فتح، وتقاعسها عن واجب الجهاد في مواجهة الممارسات "الإسرائيلية" وتحديدًا الاستيطانية والتهويدية في القدس بشكل خاص والضفة الغربية بشكل عام ووصل الحد ببعضهم إلى اتهام حماس بأنها تركت الجهاد من أجل السياسة، معتبرين ذلك خللًا في العقيدة، وتراجعًا عن الثوابت، وفقدانًا للأمل في الإصلاح والتغيير الداخلي.
الثالث: يتعلق بالحصار الذي فرضته "إسرائيل" ضد غزة، حتى الحرب الأخيرة –نوفمبر/تشرين الثاني 2012- وعمدت من خلاله تل أبيب إلى التحكم بكل ما يدخل غزة أو يخرج منها، وسعت إلى إدخال الحد الأدنى من المواد الغذائية والوقود؛ بما يحول دون انفجار الوضع أمنيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وفي نفس الوقت يمنع غزة من ممارسة حياتها بشكل طبيعي في الأبعاد والمناحي المختلفة؛ ما خلق حالة من الفقر والبطالة والعوز بدت مثالية تمامًا لنمو وانتشار الأفكار السلفية الجهادية.
الرابع: يتعلق بالانقسام الفلسطيني باعتباره أحد أسباب نمو الحركات السلفية الجهادية، خاصة أن البعض وضعه في سياق الصراع على السلطة. وكان لعلاقة حماس مع فتح في مراحل مختلفة كحكومة الوحدة، والصراع الميداني، واتفاق مكة، والذي أدى إلى تفشي التطرف في صفوف فئة من الشباب شعرت بالغبن والظلم وهذا ما يفسر نجاح هذه الأفكار وهذه الظاهرة بالتغلغل في أوساط عناصر حماس، حيث اتهمها السلفيون آنذاك بـ"فساد العقيدة وموالاة العلمانيين والتحاكم للقوانين الوضعية"، وهي من أكثر الفترات التي انتشر فيها الفكر السلفي بين أوساط شباب حماس.
الخامس: يتمثل بصعود تنظيم القاعدة ولاحقًا " داعش " في السنوات العشر الماضية وانتشار أفكارهما ولو بشكل متفاوت في العالم العربي، وميل شريحة -ولو محدودة- من الشباب لأسلوب السلفية الجهادية بوصفه النموذج المناسب لمواجهة الهيمنة الأميركية والغربية على المنطقة. وترى الجماعات السلفية، أو "البنلادنيون والدواعش " الفلسطينيون حماس كـ"حركة وطنية" تشارك في المجالس التشريعية، أكثر من كونها "حركة إسلامية" تحكم بالشريعة، ويتذرعون بذلك المسوغ الأساسي للدعوة إلى العودة لـ"منهج الجهاد"، وترك المنابر السياسية والتشريعية، والحكم بالشريعة، بدلًا من القوانين الوضعية. وتوجه هذه الجماعات السلفية جملة انتقادات لحماس بعدم إعلانها قيام الإمارة الإسلامية بعد السيطرة على قطاع غزة، ما يعتبر برأيها: " تقصيرًا في إكمال أداء الواجب الشرعي الذي كلف الله به المجاهدين". ويؤكد السلفيون أن البدايات الأولى للخلاف الفكري والفقهي بينهم وبين «حماس» ترتبط بمسألة إقامة "الدولة الإسلامية" وتطبيق الشريعة.
السادس : لعبت الأوضاع الاقتصادية دورًا في تنامي الظاهرة السلفية، بما في ذلك الحصار المفروض على غزة، وما صاحبه من ضغط واقع على سكانها، ما دفع بالبعض لاتهام حماس بالتسبب بالأزمة، واستغلال صغار السن من الطلبة والعاطلين عن العمل، من قبل المنظرين والمحرضين، والتأثير عليهم، واستغلال أوضاعهم الصعبة.
السابع : لاعتبارات تربوية، ولضعف الجانب الدعوي المركز في المجتمع الفلسطيني، فقد ساهم الجهل الكبير في العلم الشرعي لدى الشباب في تغلغل العناصر السلفية، خاصة بسبب عدم اطلاع الشباب على الجوانب التخصصية كـ"فقه الموازنات ومقاصد الشريعة"، وهو الذي يجعل الكثير منهم ينحو باتجاه الغلوِّ والتطرف، دون وعيٍ لدينه وشريعته في ظل غياب ملحوظ للخطاب الجماهيري المُفنِّد للقضايا المثارة ضد الحركات المقاومة في منابر السلفية الجهادية وفي دروسهم ونشراتهم. تخشى حركات المقاومة وعلى رأسها حماس أن يكون ذلك التيار بجمعياته ومعاهده تربةً خصبة، ومأوى للشباب المتشدد الذي تجول في ذهنه أفكار الغلوِّ والتطرف والتشدد، حيث يجد في المؤلفات، والفتاوى، والنصوص الشرعية، ضالته المنشودة؛ إن لم يجد من أولئك العقلاء من يرشده، ويوضح له المنهج الصحيح للاستدلال.
هل يمكن اعتبار السلفية الجهادية خطرًا على حماس؟
لم تبلغ المجموعات السلفية الجهادية في غزة مرحلة تهديد «حماس» ونفوذها في القطاع بعد، لكنها باتت تثير القلق، خصوصا بعد ان شهد قطاع غزة انفجار خمس سيارات لقيادات من حركة حماس في توقيت واحد، اضافة إلى بث التنظيم تسجيلًا مصورًا يتوعد حركة «حماس» وقادتها بأن يكون مصيرهم في القطاع مشابهًا لما حصل لعناصر أكناف بيت المقدس (المحسوبين على الحركة) في مخيم اليرموك في نيسان (أبريل) 2015م. ولا شك أن مثل هذه التهديدات لا تتسم بالواقعية، لأن «حماس» تحكم قبضتها الأمنية على مفاصل القطاع، لكنها قد تثير بعض المخاوف وشيئًا من الإرباك، وذلك يرجع لعده اسباب:
1-تدرك حماس جيدًا أن عناصر داعش لا يؤمن جانبهم، فهم يعتمدون في المرحلة الأولى التي ينشئون فيها خلاياهم ومجموعاتهم على أمرين: المهادنة الظاهرية للسلطة الحاكمة أو للأحزاب الموجودة وخصوصًا الإسلامية، حتى تقوى شوكتهم، وتصبح عصية على الاستئصال والكسر؛ والثاني، توجيه ضربات محددة بهدف إثارة الفوضى، وإضعاف السلطة الحاكمة، وهو ما يطلق عليه في أدبياتهم مرحلة الشوكة والنكاية.
2-تحكم عناصر «داعش» أيديولوجية خطيرة جدًا، وأخطر ما فيها هو الاعتقاد السائد عندهم بأن قتال العدو القريب مقدم على قتال العدو البعيد. وبما أن عناصر «حماس» في نظرهم كفرة ومرتدون لأنهم لا يحكّمون شرع الله، لذا فإن المواجهة معهم لها الأولويـة على قتال الاحتلال الإسرائيلي.
3- معظم عناصر «داعش» من أبناء القطاع، وجزء من النسيج الاجتماعي، ويعرفون شوارع غزة وأزقتها، وليس من المستغرب أن يكونوا على دراية ببعض مخازن السلاح، والأنفاق، ومرابض إطلاق الصواريخ.
4- طبيعة التركيبة العائلية في غزة، تدفعها للانحياز إلى أفرادها، وحمايتهم إذا ما تعرضوا لأي ملاحقة أو تهديد. وبالتالي فإن أي مواجهة مع أحد عناصر «داعش» قد تمتد إلى صراع مع العائلة، كما حصل مثلًا في حالة ممتاز دغمش، الذي اختلف مع «حماس» بعد أن كان محسوبًا عليها، وبدأ بتشكيل حالة عسكرية، خارج نطاق الأطر المعترف بها. وحين تدخلت الأجهزة الأمنية التابعة لـ «حماس» لضرب مجموعة دغمش، آزرته عائلته ورفضت التخلي عنه، مما اضطر «حماس» إلى إبرام اتفاق مع عائلته.
5- قد يسعى عناصر «داعش» إلى زعزعة الاستقرار في شكل مستمر داخل القطاع، لضرب الحاضنة الشعبية لـ «حماس»، وتنفيذًا لبعض الأجندات الخارجية المخترقة للتنظيم.
6- الدعاية الداعشية داخل القطاع لا تفوّت فرصة في التحريض على «حماس» باعتبارها منظمة براغماتية، تهادن الاحتلال، وتبرم مصالحات مع الفصائل الفلسطينية العلمانية، ولا تسعى إلى تطبيق شرع الله (من قتل المرتدين، وإقامة الحدود، وفرض الجزية على المسيحيين). وقد باتت «حماس» تخشى من تأثر بعض عناصرها بهذا الخطاب، في ظل الثوران الداعشي الذي تشهده المنطقة، حيث سجلت حالات انشقاق عديدة خلال الأشهر الماضية، وإن كانت لا تزال محدودة.
7- تنامي قوة الجماعات المتطرفة في سيناء، ومبايعتها لأبي بكر البغدادي، قد يدفعها للتمدد إلى غزة.
أمام هذا المشهد، تحاول «حماس» احتواء خطر «داعش» من خلال أمرين رئيسيين: الأول، الحوار الفكري المكثف معهم من خلال العلماء والمشايخ. بيد أن المعضلة التي يشتكي منها الدعاة هي صعوبة إقناع هؤلاء الشبان، لأن أيديولوجيتهم تقوم على احتكار الحقيقة، واعتبار أنفسهم هم فقط الفرقة الناجية، فهم أصلًا لا يثقون بالعلماء ولا يعترفون بهم، ويعتبرونهم مرتدين وعلى ضلال. أما الطريق الآخر الذي تسلكه السلطة في غزة للحد من خطورتهم، فهو المتابعة الأمنية، حيث تعمل أجهزة المخابرات داخل القطاع على اعتقال كل من تشي تحركاته بأنه بات يشكل تهديدًا حيث تعمل على تجفيف منابع واوكار السلفيين الجهاديين.
ثمة حلقة غامضة في تاريخ وسلوكيات السلفيين الجهاديين في كل من سوريا والعراق وسيناء فالشباب المسلح في السلفية الجهادية هم شباب مضلل ويتم توجيههم من قبل بعض المخابرات الدولية كالمخابرات الامريكية مثلا بطرق مباشرة او غير مباشرة، بينما يذهب بعض المختصين إلى ما هو أبعد من خلال ربط قيادات داعش بأجندة امريكية صهيونية في المنطقة، معللين ذلك بالممارسات التي تتبعها داعش على الارض من خلال استهداف مقدرات الدول الاسلامية وآثارها في حين لم تتعرض اسرائيل إلى أي هجمات على الرغم ان ما يفصل بين داعش في سيناء وحدود اسرائيل؛ وكذلك بين داعش في سوريا وحدود اسرائيل هو بضع مئات من الامتار فقط، وعليه فإن استطاع الموساد الاسرائيلي أو المخابرات الامركية اختراق السلفية الجهادية بغزة فمن المرجح ان تسعي دولة الاحتلال إلى تجهيز السلفيين بديلا عن حكم حركة حماس لغزة.
لا أفق قريباً لنجاح الحركات السلفية الجهادية في غزة
شكلت فلسطين دائمًا الحيز الأكبر في خطاب السلفية الجهادية العالمية الدعائي، ولطالما كان إيجاد موطئ قدم في فلسطين أمنية تداعب مخيلة السلفيين الجهاديين على مستوى العالم.
ورغم أن التيار السلفي الجهادي في فلسطين عندما باشر العمل ظن أن كل الظروف تُساعد على إنجاح تجربته، إلا أن الوقائع التالية أثبتت خطأ هذا الظن، رغم أن طبيعة الحالة الفلسطينية كان يُفترض بها أن تُنجح أي تجربة - خصوصًا لو كانت تجربة قتالية - نظرًا لوضوح العدو أولًا، ولاستعداد الفلسطينيين الفطري لأي فكرة عاطفية جديدة ثانيًا، وتعدد الفصائل والتنظيمات الفلسطينية والذي يمهد لأي ولادة تنظيمية جديدة ثالثًا. هذا الفشل الذي يعلمه التنظيم الأم "القاعدة" جعله يبتعد عن إسباغ أي صفة رسمية على تشكيلات السلفية الجهادية في غزة، حتى إن الظواهري الذي انتقد حماس بشدة نظرًا لدخولها الانتخابات رفض أن يدلي بأي تعليق على المعارك الدامية التي حصلت بين حماس وبين هذه التشكيلات في موقف أثار استغراب الكثيرين، الأمر الذي يمكننا معه القول بكل ثقة إن تجربة السلفية الجهادية على عكس بقية الأذرع السلفية الجهادية على مستوى العالم لم تفشل فحسب، بل فشلت ذلك الفشل الذي يُسمى "الفشل الكامل" .
ويعود سبب فشل تجربة السلفية الجهادية في غزة لأربعة أسباب رئيسة الأول متعلق بالزمان والمكان، والثاني الخطاب العام، والثالث بطبيعة البنية التنظيمية، والرابع بالتصرفات والأفعال.
السبب الأول: الزمان والمكان
انطلق النشاط الفعلي للسلفية الجهادية من غزة بعد انسحاب إسرائيل منها ودخول حماس الانتخابات التشريعية، حيث كان القطاع عمليًا محررًا من الاحتلال الإسرائيلي؛ ما منع السلفية الجهادية من تنفيذ عمليات استعراضية ضد إسرائيل فحرمت من عنصر مهم جدًا من عناصر الاستقطاب الجماهيري في الوقت الذي لم تُبذل فيه أي جهود حقيقية لتأسيس خلايا عسكرية في الضفة الغربية الخاضعة للاحتلال بشكل كامل؛ وهذا أدى لترسيخ الدعاية المضادة لخصوم السلفية الجهادية حول طبيعة الدور السلبي الذي تلعبه في غزة وكذلك عن أهمية وأهداف وجودها العسكري في ظل بقعة محررة، ويرسخ أيضًا دعاية مضادة أخرى ترى أن هدف السلفية الجهادية مناكفة التنظيمات الموجودة وعلى رأسها حماس والتنغيص عليها .
السبب الثاني: الخطاب العام
كانت إحدى ركائز الخطاب السلفي الجهادي في قطاع غزة المفاضلة الشديدة مع بقية الفصائل الموجودة، فأحد عناصر هذا الخطاب الرئيسة كان تكفير حكومة حماس وتحريم العمل داخل أجهزتها، والاتهام المتواصل للحركة بالتخلي عن منهج المقاومة بعد دخولها الانتخابات. ولم يقف الأمر عند حكومة حماس فحسب بل تعداه لتحريم العمل مع بقية الفصائل الفلسطينية الموجودة حتى أن " جماعة الجهاد والتوحيد " احدى أهم الحركات السلفية الجهادية في غزة والتي بايعت القاعدة حرمت العمل ايضًا مع تلك التي تنتمي للتيار الإسلامي كحركة الجهاد الإسلامي والتي تعد ثاني أكبر التنظيمات الفلسطينية المقاتلة في غزة .
وبملاحظة معظم الأسئلة التي كانت توجه على منبر التوحيد والجهاد والتي كان يجيب عنها عادة أبو الوليد المقدسي - وهو أمير جماعة التوحيد والجهاد في غزة - كانت متعلقة بحماس حركة وحكومة وكيفية التعامل معها، حيث يقول المقدسي صراحة مع الصحفي الأجنبي روبرت غرين "جنودك سيقاتلون بشراسة أكبر حينما يشعرون ببعض الكراهية، لذا قم بتضخيم الفروقات بينك وبين العدو"،
هذا التضخيم الذي وصل حد التكفير والتفسيق كانت نتائجه عكسية على النشاط السلفي الجهادي في غزة ونهايته المأساوية، فحماس ليست فاعلًا هامشيًا في القطاع، بل هي الفاعل الأقوى والأكثر فاعلية، وسبق وأن هزمت أقدم تنظيم فلسطيني هزيمة كبيرة، ولم تسمح مطلقًا بأي تنظيم جديد يهدد سلطتها، وهذا ما تُرجم عمليًا في معركتين كبيرتين قصمتا ظهر السلفية الجهادية، وهما معركة الصبرة سنة 2007، ومعركة مسجد ابن تيمية سنة 2009،
ولو أخذنا بعين الاعتبار أن أبناء التيار الإسلامي هم مركز الاهتمام السلفي الجهادي للجاهزية الفكرية والعقدية للاستقطاب، وأن أكبر شرائح التيار الإسلامي في غزة مشكلة من أبناء حماس والجهاد الإسلامي علمنا بوضوح الخطأ الفادح باستعداء السلفية الجهادية لحماس والجهاد الإسلامي وأنصارهما، ورغم أن الدعاية السلفية الجهادية في بداية الأمر بدا أنها ناجحة، لكنها انتكست في النهاية لكون حالة النقمة التي سادت أبناء حماس خصوصًا كانت متعلقة بالجانب السياسي - الخشية من تنازلات سياسية مكلفة - أكثر من الجانب الشرعي، وكان دخول حماس لحالات اشتباك متعددة مع الكيان الإسرائيلي مبددًا لدعايات السلفية الجهادية دائمًا.
المفارقة المضحكة هنا أن حماس واجهت هذه الدعاية بشكل مضاد للسلفية الجهادية حينما بدأت تعايرها بالفارق النوعي بين قتال الطرفين لإسرائيل، وإذا كان الاتهام بالتخلي عن المقاومة قد بُدد تمامًا مع الوقت كان خطاب التكفير والتفسيق فجًا وصادمًا ومكلفًا كذلك.
السبب الثالث: البنية التنظيمية
رغم محدودية التيار السلفي الجهادي وقلة أفراده وأنصاره، وهو احد الأسباب الرئيسية التي تفرض على الجماعات السلفية استبعاد أي عنصر يسمح بتشرذمها ويجعل هذا "التشرذم" نظريًا من المحرمات أو على الأقل شيئًا مستبعدًا، إلا أن التفكك والتشرذم كان سمة ملازمة للتيار السلفي الجهادي من البداية، فقد وصل عدد التنظيمات السلفية الجهادية لأكثر من 14 تنظيمًا. فأول تنظيم سلفي جهادي "جيش الإسلام" نشأ بعد الانشقاق عن تنظيم ألوية الناصر صلاح الدين، هذا التفكك كان ملاحظًا حتى من قِبل محبي وأنصار السلفية الجهادية في غزة وخارجها، فالكثير من الاستفسارات التي كانت تُطرح في المقابلات مع أبرز قادة التنظيم على المنتديات الجهادية، وكذلك الأسئلة التي كانت تطرح على منبر التوحيد والجهاد متعلقة بكيفية التوحد بين هذه التنظيمات في جسم واحد وعن سبب هذا التفكك من الأساس، وقد وضح أبو الوليد المقدسي أسباب هذا الخلاف على منبر التوحيد الجهاد في ستة أسباب وهي الفرقة والاختلاف والافتقاد للمرجعية الشرعية وافتقاد القيادة الرشيدة وانتشار أمراض القلوب وتقديس الشيوخ وإقصاء كل جماعة للأخرى .
وقد حاولت التنظيمات الجهادية تشكيل جسم موحد مرارًا ولكنها فشلت، وانتهى بها الأمر بتشكيل جسم فضفاض لا يلغي وجود التنظيمات الجهادية وفي نفس الوقت يجمعها في جسم واحد، حيث تم تشكيل مجلس شورى المجاهدين في غزة من قِبل ثلاثة تنظيمات "جيش الإسلام - أنصار السنة - التوحيد والجهاد"، وتجدر الإشارة إلى أن الانقسام السلفي الجهادي في سوريا - ممثلًا في جبهة النصرة من ناحية و"داعش" من ناحية أخرى - أسهم في بروز انقسام داخلي في قطاع غزة بين من يؤيد النصرة ومن يؤيد "داعش" مما أسهم مرة أخرى في حدة الانقسامات الموجودة سابقًا.
السبب الرابع: التصرفات والأفعال
اشتهر التيار السلفي الجهادي في غزة بخمسة أفعال رئيسة؛
الأول- اختطاف الصحفي البريطاني آلان جونسون،
الثاني- معركة الصبرة بين جيش الإسلام وحكومة حماس،
الثالث - معركة مسجد ابن تيمية بين جند أنصار الله وحكومة حماس،
الرابع - عملية "البلاغ " ضد "إسرائيل" والتي نفذتها جماعة جند أنصار الله
الخامس- اختطاف الناشط الإيطالي المؤيد للشعب الفلسطيني فيتوريو آريغوني وقتله.
ومن خلال هذه الأفعال نُدرك جيدًا عدم تناسب التوجهات العسكرية والامنية للسلفية الجهادية بين الاقتتال الداخلي الذي كان له النصيب الأكبر من جهد هذه الاتجاهات وبين مقاومة الاحتلال وبالتالي (نصيب إسرائيل منها مقابل نصيب الجبهة الداخلية الفلسطينية). وبجانب الاقتتال الداخلي أيضًا أسهم التيار السلفي الجهادي بتشويه سمعة المقاومة الفلسطينية من خلال تنفيذ عمليات اختطاف ضد صحفيين ومتضامنين أجانب كان أكثرها دموية اختطاف أريغوني وقتله. كذلك ينظر التيار السلفي الجهادي نظرة شك وريبة في قوافل فك الحصار المتجهة لغزة، بالإضافة لخرق إجماع الفصائل الفلسطينية حول التهدئة مع الكيان الإسرائيلي واستمرار إطلاق الصواريخ بشكل متقطع على المستوطنات الإسرائيلية مما يؤدي لإغلاق المعابر- في الوقت الذي يظهر فيه محدودية المشاركة السلفية الجهادية في الحروب مع إسرائيل وهذا بدا واضحًا في حرب 2008 وحرب 2012 وحرب 2014 -.
بالإضافة لتفجيرات داخلية استهدفت مقاهيَ وأضرحة ومقرات مسيحية، وفي الآونة الأخيرة اتخذت هذه التصرفات منحى خطيرًا عندما قام بعض الجهاديين بزرع عبوات ضد مقرات تتبع الحكومة وكتائب القسام، فكان من الطبيعي أن يتولد نفور شعبي واسع من التيار السلفي الجهادي من ناحية، وملاحقة أمنية حكومية من ناحية أخرى؛ مما يحرم التيار من الحاضنة الشعبية أولًا وحرية العمل والتنظيم ثانيًا، وهذا أسهم بشكل واضح في انحسار نفوذ هذه الجماعات وضعف الإقبال عليها.
كل هذه الأسباب مجتمعة أدت لفشل التجربة السلفية الجهادية في غزة - على الأقل حتى كتابة هذه السطور- وتشرذمها؛ مما جعل الأجنحة الرئيسة للفكر السلفي الجهادي على مستوى العالم ترفض الاعتراف بأي تنظيم داخل قطاع غزة، فبجانب تنظيم القاعدة الذي لم يعلق على أي حالة اقتتال بين حماس وهذه التنظيمات، اتبع " داعش " نفس المنهج رغم تعطشه لبسط نفوذه في أي مكان - أسس التنظيم فرعًا له في أفغانستان رغم أن أدبيات السلفية الجهادية تقترب من طالبان أكثر بكثير من اقترابها من حماس - ولم يفعل في قطاع غزة نفس الأمر، ليس حبًا في حماس التي يخونها التنظيم وأحيانًا يكفرها - كما في خطاب أبي عمر البغدادي بعنوان "الدين النصيحة" سنة 2008 - بقدر ما هو انعدام ثقة بأهلية التنظيمات السلفية الجهادية في غزة ومقدرتها على صنع معادلة في الواقع الموجود.
المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع