قرر حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، منح بنك «ميد» المزيد من الارباح الاستثنائية، بذريعة مساعدته في تكوين مؤونات بقيمة 400 مليون دولار وتغطية خسائر محققة في محفظة تسليفاته المتدهورة، ولا سيما التسليفات الممنوحة لشركات وجهات مرتبطة ارتباطاً مباشراً بأعمال رئيس مجلس الوزراء، سعد الحريري، وعائلته وشركائه

 
في 18 تموز الماضي، تسلّم حاكم مصرف لبنان رياض سلامة كتاباً من رئيس مجلس الادارة ــ المدير العام لبنك ميد، محمد الحريري، جاء في نصّه الحرفي:
«كتاب رقم 168 - 7 / 17 / CGM-G
الموضوع: طلب استبدال الاحتياطي الالزامي بشهادات إيداع مصدرة من مصرف لبنان.
تحية وبعد،
بالاشارة الى أوضاع التسهيلات والقروض الممنوحة لبعض عملاء المصرف بحدود 400 مليون دولار، والتي تتطلب تكوين مؤونات بشكل تدريجي خلال فترة عشر سنوات،
جئنا بكتابنا هذا، نتقدم من سعادتكم، بصورة استثنائية، بطلب استبدال الاحتياطي الالزامي بالدولار الاميركي لمدة 10 سنوات بشهادات إيداع مصدرة من مصرف لبنان.

إن هذا الاجراء سيمكّن مصرفنا من الحفاظ على المؤشرات الايجابية الحالية.
وتفضلوا بقبول فائق الاحترام».
انتهى نص الكتاب.

المزيد من «الهندسات المالية»

بهذه العبارات البسيطة واللغة الركيكة، طلب بنك «ميد» من حاكم البنك المركزي «هندسة مالية» من نوع جديد، عبر السماح له بتحرير نحو 750 مليون دولار من الاحتياطي الالزامي بالدولار (المفروض على كل المصارف العاملة في لبنان بنسبة 15% من مجمل ودائعها بالعملات الاجنبية). ليس هذا فحسب، بل طلب أيضاً من «الحاكم» أن يصدر له شهادات إيداع خاصة لإعادة توظيف هذا المبلغ المحرر على فترة 10 سنوات، وبالتالي جني أرباح استثنائية فوق الارباح السنوية المتكررة بقيمة تصل الى 40 مليون دولار سنوياً تمثّل الفارق بين الفائدة المدفوعة على الاحتياطي الالزامي (1.2%) والفائدة المدفوعة على شهادات الايداع بالدولار (6.8%)!
أثار هذا الطلب اعتراضات واسعة داخل المصرف المركزي وخارجه، ليس لأنه يشكّل سابقة في حال الموافقة عليه ويستدرج المصارف الاخرى الى المطالبة بالمثل، وبالتالي يزيد كلفة احتفاظ مصرف لبنان بقدر عال من الموجودات بالعملات الاجنبية لديه، بل أيضاً لأن الطلب نفسه ينطوي، بحسب مصادر مطلعة، على مخالفات جمّة للقوانين المرعية الاجراء، التي لا تجيز لمصرف لبنان التدخّل من أجل دعم أرباح المصارف ورساميلها وإطفاء خسائرها من تسليفاتها السيئة، وتحصر نطاق تدخله في عمليات مدّ المصارف بالسيولة عند تعرّضها لأزمات النقص الحاد في السيولة. وكذلك، لأن دراسة الطلب في الادارات المختصة في المصرف المركزي كشفت أن هدفه شطب ديون وخسائر مرتبطة بأعمال تخص رئيس الحكومة سعد الحريري، وأسرته وشركائه، كما كشفت أن المبالغ التي يطلبها البنك مضخّمة وتفوق كثيراً ما يدّعي أنه بحاجة الى تكوين المؤونات له، إذ تبين أن بعض تسليفات الجهات المدينة التي أوردها في لائحة مرفقة بطلبه سبق أن كوّن لها مؤونات قبل فترة قصيرة، وهذا ما دفع كثيرين الى الاشتباه في أن طلب بنك «ميد» قد يكون متصلاً بحاجة الحريري الى تمويل حملته الانتخابية المقبلة.
هذه الشبهة كانت كفيلة بتحرّك رئيس الجمهورية ميشال عون، ورئيس مجلس النواب نبيه بري، وإبلاغ سلامة بوجوب عدم الموافقة على هذا الطلب. ولكن سلامة لم يستجب، بل عمد الى الالتفاف عبر اختراع طريقة أخرى تؤمن لبنك «ميد» المبالغ التي يطلبها، أو قسماً كبيراً منها.

قرار المجلس المركزي

تكشف المعلومات لـ«الأخبار» أن المجلس المركزي في مصرف لبنان، بناءً على اقتراح سلامة، قرر في جلسته أول من أمس ردّ طلب بنك «ميد»، لعدم قانونيته، إلا أنه قرر في المقابل منحه تسليفات استثنائية، بفائدة تقل عن 1%، لإعادة توظيفها في شهادات الايداع بفائدة 6.8%!
استند قرار المجلس المركزي الى المادة 102 من قانون النقد والتسليف، التي تنص على أنه يمكن «للمجلس، في ظروف استثنائية الخطورة، أو في حالات الضرورة القصوى، التي قد تلزمه الى تلبية حاجات الاقتصاد الملحة للحفاظ على استقرار التسليف، أن يقرر منح تسليفات استثنائية، مؤمنة على قدر الحاجة بضمانات عينية (أسهم، عقارات...) مقدمة إما من المصرف المستقرض نفسه، أو من أعضاء مجلس إدارته، أو من زبائنه، ويحدد مجلس المصرف نوع الضمانات اللازمة وشروط منح التسليفات الاستثنائية واستحقاقاتها».

سخاء «الحاكم» من جيب الناس

ليست هذه المرّة الاولى التي يستخدم فيها سلامة نص هذه المادة لتمرير منافع الى البنوك وزيادة أرباحها على حساب المال العام وبما يتعارض كلياً مع الهدف، أي مواجهة ظروف استثنائية الخطورة. كذلك فإنها ليست المرة الاولى التي يحظى بنك «ميد» بسخاء «الحاكم» وكرمه، إذ سبق أن نشرت «الأخبار» وثائق رسمية تكشف أن هذا البنك حقق أكثر من 275 مليون دولار أرباحاً استثنائية فورية من «الهندسات المالية» التي خصّه بها سلامة بين عام 2013 وأيار 2016. تُضاف هذه الأرباح الطائلة إلى نحو 300 مليون دولار من الأرباح الاستثنائية التي حققها بنك «ميد» من «الهندسة المالية» الشهيرة، التي نفذها سلامة مع المصارف بين حزيران وكانون الأول من العام الماضي، والتي كلفت نحو 5.6 مليارات دولار. بمعنى أن سلامة ضخ ما لا يقل عن 575 مليون دولار من المال العام الى بنك «ميد» وحده، قبل القرار الأخير، بالإضافة الى الأرباح السنوية المتكررة التي يجنيها البنك من خلال توظيفاته العالية في دين الدولة، والتي تدرّ له أكثر من 60% من مجمل أرباحه التشغيلية.
أزمة بنك أم أزمة فساد؟
يطرح أحد المصرفيين الممتعضين ممّا يقوم به سلامة تساؤلاً مشروعاً. يقول في معرضه تعليقه على العمليات السابقة ومضمون الطلب الاخير لبنك «ميد» وقرار المجلس المركزي المستند الى المادة 102 من قانون النقد والتسليف: «إمّا نحن أمام حالة خطيرة يعاني منها هذا البنك، وتستدعي تدخّل المصرف المركزي لإنقاذه مراراً وتكراراً، منذ عام 2013، أي منذ وصول أزمة مجموعة سعودي أوجيه الى ذروتها وإفلاسها فعلياً، وإمّا نحن أمام حالة تنطوي على فساد وتقوم على استغلال صلاحيات حاكم مصرف لبنان لتأمين منفعة خاصة، مالية أو سياسية. وفي الحالتين نحن أمام تسيّب متمادٍ للمال العام المؤتمن عليه رياض سلامة».

تساؤل هذا المصرفي، المطّلع على تفاصيل كثيرة، ينبع من وقائع مثيرة كشف عنها طلب بنك «ميد» الاخير. يشرح أن التقارير تبيّن أن بنك البحر المتوسط يعاني من ارتفاع مطرد في محفظة القروض غير المنتجة للفوائد، إذ ارتفع رصيدها من 98.8 مليون دولار في عام 2015 الى 153.9 مليون دولار في عام 2016. كذلك ارتفعت محفظته من القروض والتسليفات المصنفة «للمتابعة والتسوية» (أي إن المدين يواجه احتمالات التوقف عن السداد) من 233 مليون دولار الى 242 مليون دولار. يقول إن هذه المحفظة سبق للبنك أن كوّن مؤونات عليها بدعم متكرر من مصرف لبنان. ولكن الطلب الاخير يثير القلق، فهو يتحدث عن حاجة إضافية لتكوين مؤونات بقيمة 400 مليون دولار لتغطية ديون مشكوك في تحصيلها أو هالكة، تعود الى 5 مدينين كبار، كلّهم مرتبطون بشكل او بآخر بالحريري. ولكن في اللائحة التي قدّمها البنك لتبرير طلبه هذا يظهر أن التسهيلات والقروض المتعثرة لهؤلاء المدينين تبلغ أكثر من 460 مليون دولار، منها نحو 40 مليون دولار على شركة otas التركية التي تمتلك شركة «أوجيه تلكوم» حصة فيها، وهي تعاني من ديون متراكمة، وتلقّت بحسب «بلومبرغ» تحذيراً من الدائنين في تموز الماضي بوجوب سداد دفعتين من هذه الديون المستحقة، بقيمة 290 مليون دولار لكل دفعة. وكذلك يترتب أكثر من 142 مليون دولار على مجموعة من المقاولين من الباطن لدى شركة «سعودي أوجيه». ويوجد أيضاً دين على شركة AGE بقيمة 127 مليون دولار، ودين على شركة BEATA بقيمة 56 مليون دولار، بالاضافة الى خسائر مسجلة من إعادة هيكلة ديون شركة CELL C تقدّر بنحو 95 مليون دولار، وهذه الشركة التي تعمل في جنوب أفريقيا يعود جزء من ملكيتها الى شركة «أوجيه تلكوم»، وقد تسرّبت معلومات قبل شهر تفيد بأن شركة CELL C بصدد إعادة هيكلة تهدف الى تغطية مديونيتها البالغة 465 مليون دولار، تمهيداً لانسحاب «أوجيه تلكوم» منها.
المفارقة التي يكشف عنها هذا المصرفي أن بنك «ميد» سبق أن كوّن مؤونات على بعض ديون هذه الجهات، ما يعني أنه يحتاج الى نصف المبلغ الذي يطلبه، وبالتالي يمكن تأمين حاجته من أرباحه، ولا ضرورة أبداً لتدخل مصرف لبنان، إلا إذا كان المقصود إخراج الحريري من أزمته المالية ومنحه التمويل الذي يحتاج إليه لخوض الانتخابات النيابية المقبلة، إذا جرت طبعاً، أو أن البنك يواجه أزمة تعثر زبائنه، وفي مقدمهم الحريري، وبالتالي لا يجوز لمصرف لبنان تحميل المال العام الوزر نيابة عن المتسبّبين في الأزمة.

المصدر: محمد زبيب - الأخبار