عمّا قريب لن يبقى «ناشط» إلا وهو يخجل بهذه الصفة. لقد أصبحت مدعاة للسُخرية. الناس مفطورون، إن تحدّثنا عن فطرة، على ما يجلب النفع إليهم... أمّا الزبَدُ فيذهب جُفاء. أولئك «الناشطون» زبَدٌ مصفّى. إنّهم يَلمَعون، ناعم مظهرهم، متحدّثون متأنّقون لبقون، إلّا أنّهم زبَد. إنّهم «رغوة» لا تلبث أن تذوب. لم ينفعوا الناس، على مدى العقدين الماضيين، منذ أن هبطوا علينا «مِن أعلى».
أقلّه لم يفوا بما وعدوا به، بما دغدغوا آمال الناس به، فما كان أمام الناس في النهاية إلا السخرية مِنهم. إنّها سُنّة أزليّة. لا مكان للنوايا هنا. سيُقال إنّ بعضهم كانوا مِن أصحاب النوايا الحسنة، وهذا صحيح، لكن في المحصّلة الناس لا يأكلون نوايا. مِن الظلم القول إنّهم، كلّهم، لم يُحقّقوا شيئاً. لقد أنجز بعضهم. لكن ماذا؟ يرقعون الثوب مِن هنا فإذا به يزداد انفتاقاً. إنّهم ليسوا الحلّ. هذا المؤكّد. ماذا عن الطالحين مِنهم؟ هؤلاء الذين استثمروا في أوجاع الناس، فملأوا جيبوهم، قبل أن «يُشمّعوا الخيط» ولا يعود مَن يسمع عنهم. يُمكننا أن نراجع سجل الجمعيّات، الحقوقيّة تحديداً، التي لمع اسمها خلال العقد الماضي، ثمّ، ومع عدم تحقيق الهدف الذي «ناضلت» لأجله... تبخّرت. هل يُسأل أمثال هؤلاء عن نقد ذاتي؟
يَزداد سَنَة بعد سَنَة مزاج السخرية مِن «الناشطين» و«الناشطات» في بلادنا. يعيش هؤلاء، هذه الأيّام، أعلى مستويات التراجع «النضالي» بعد أن باتوا يشعرون باستخفافهم مِن قبل الناس. في مصر بدأت السخرية منهم، شعبيّاً، تظهر قبل مرحلة «الربيع العربي». قبل أكثر مِن ستّ سنوات، في القاهرة، شاع فيديو يُسخّف هؤلاء بعنوان: «إزّاي تبقى مناضل بسبع خطوات في أقل مِن خمسة أيّام». حالة «الناشط» و«الناشطة» تشابهت كثيراً في نموذجي مصر ولبنان.
مَن هو الناشط؟ ما هذه الصفة! بلغ الهزل بهذه الكلمة إلى حدّ أن ضيف إحدى الفضائيات كُتِب تحت اسمه «ناشط». هكذا فقط. لم يعد مُهمّاً تحديد نوع النشاط أو مجاله. إنّه ناشط وكفى. يتعاطى المنشّطات مثلاً! يذهب الصالح بالطالح. اللافت أن سمعة المنشّطات، على لساننا، ظلّت سيّئة، على عكس الناشط، الذي أُريد له أن يكون «جميلاً». بعد انتهاء الحرب الباردة كان لا بدّ مِن ناشطين وناشطات. ملايين الناس أصبحوا بلا عمل. لا بدّ للمنتصر في تلك الحرب أن يوظّفهم. كان هؤلاء، بداية، مِن اليساريين، أيتام الحالة السوفياتيّة عالميّاً، فأصبحنا نرى شبّاناً يرتدون قمصان غيفارا بينما هم يعملون، في العمق، بما يروق للرأسماليّة العالميّة. كائنات تمّ مسخها. لاحقاً، ومع مرور السنوات، طوّر هؤلاء أنفسهم، بعد أن دخلت عليهم أجيال جديدة، إلى حد أن تبخّرت المفردات اليساريّة مِن أصلها في خطابهم. أصبحنا أمام جماعات رأسماليّة، في المحصّلة، إنّما «ناشطة». أصبح هذا مشهداً عالميّاً. جاءت ما تُسمّى «مواقع التواصل الاجتماعي» لتمسخ تلك الصفة، الناشط، على نحو غير مسبوق. أصبح بإمكان أيّ «ضرّاب طبل» أن يوصف بالناشط. أن يُقدّم نفسه إلى الآخرين بهذا العنوان. أن تتسابق عليه وسائل الإعلام، التي لا تقّل عنه ضحالة، والمليئة هي نفسها بالناشطين والناشطات، وهكذا الكلّ يأكُل والكلّ سعيد. هناك مواقع إلكترونيّة تُعلّمك «كيف تتحوّل إلى ناشط». الخطوة الأولى، في هذا البرنامج، هي: «العثور على الدافع». مِن الأمثلة على الدافع: «ربما تكتشف أنّ شركة ما في مدينتك تتسبّب في تلويث النهر، وتقرر أنّك ستفعل شيئًا للمساعدة على إيقاف هذا التلوّث». طبعاً، لاحقاً سيستمرّ التلوّث، إنّما أنت بهذا تكون سعيت لإيجاد معنى لحياتك. أمّا كيف يستغلّك الآخرون، السياسيّون مثلاً، فأنت، على فرض صلاح نواياك، ستكون أتفه مِن أن تنتبه لذلك. أنت تُصنع على هذا النحو أصلاً.
السخرية مِن هؤلاء أصبحت الآن موجة، كما كانوا هم، أساساً، موجة. يلعب هؤلاء، ولا بدّ من الاعتراف، في منطقة الفراغ. هذه المنطقة التي لم تجد بعد مَن يشغلها. هذه إحدى أزمات شكل عالمنا الحديث. أخيراً لا بدّ مِن الإشارة إلى أنّ تعريف النشاط، بحسب «لسان العرب» لابن منظور، هو: «ضد الكسل يكون ذلك في الإنسان والدابة»... ومِن معاني الناشط أيضاً، في لغتنا، بحسب المصدر نفسه، هو: «الثور الوحشي، الذي يخرج مِن بلد إلى بلد».