لن يحتاج أهل المنطقة الحدودية مع سوريا إلى وقت طويل حتى يلمسوا الفرق بين ما كانت عليه الامور قبل أمس وما سيكون عليه الوضع لاحقاً. ست سنوات من التغييرات التي لم تشهدها هذه الحدود خلال عقود طويلة، حفرت الكثير، ليس في وعي السكان فحسب، بل في ذاكرتهم الطرية، عن حكايات الموت والنار والآلام، تضاف اليها المشكلة الأكبر التي لا تحلّ من دون مصالحة كبرى، ليس بين أبناء القرى اللبنانية الحدودية وحدهم، بل بينهم وبين السوريين على الجانب الآخر من الحدود.

لكن، بعيداً بعشرات الكيلومترات في عمق لبنان، سيظل المشهد السياسي عالقاً عند الذين يرفعون شعار «لا عودة لعقارب الساعة الى الوراء»، فيما هم يضبطون ساعاتهم على توقيت صيف عام 2011، عندما اشتعلت المنطقة السورية من الحدود اللبنانية من جنوبها حتى شمالها، ويوم فكروا أن تغييراً هائلاً مقبل على المشهد اللبناني كله، علماً بأن غايتهم ظلت هي هي، في استثمار دماء الحدوديين لتثبيت سلطتهم في بيروت وجبل لبنان. وكل توقع بتغيير حقيقي يصيب قوى الفريق المهزوم محلياً وإقليمياً ودولياً، هو وهم بوهم. ذلك أن هؤلاء من طينة تدعو خصومها الى عدم التعامل معها برفق. وكل تواضع يصدر عن منتصر يفهمه هؤلاء مؤشر ضعف يصدر عمّن يحتاج الى تسوية.

في كل التجارب القاسية التي عاشها لبنان خلال ثلاثين سنة، ظل هو الفريق نفسه. كان اسمه ورثة صيغة ميثاق 1943، ثم صار اسمه الجبهة اللبنانية لإنقاذ الصيغة نفسها، ثم صار اسمه حماة دولة ما بعد غزو عام 1982، ثم تحول الى نادي متعبي الحرب الاهلية، قبل أن يتحول الى فريق المتضررين من تكليف الولايات المتحدة والسعودية سوريا بإدارة ملف لبنان، وما لبث أن صار نادي المنتفضين على الوصاية السورية، الى أن استفاقوا على أنهم أيتام رفيق الحريري، قبل أن يصبحوا فريق 14 آذار، لينتهي بهم الأمر، بقايا العصر الاميركي الغابر.
هؤلاء، لم يتوانوا عن استخدام كل شيء في سبيل مصالحهم. قصدوا دمشق يتوسلون حافظ الاسد لإرسال جيشه لإنقاذهم، ثم نثروا الأرز على جنود العدو الاسرائيلي وهو يقتل إخوتهم في البلاد، ثم ركبوا قطار إعادة الإعمار وكسب ودّ الخليج وماله، قبل أن يضحّوا بكل شيء في الدولة، من مؤسسات وطنية وتعليم وصحة وبنى تحتية، وينكلوا بالناس أفراداً وجماعات باسم الطوائف والمذاهب. وفي كل مرة تهدأ فيها النفوس، يعودون الى عاداتهم القديمة، ليبثّوا سموم الحقد والتفرقة، لأنها الارض الخصبة لعيشهم.
اليوم، لا يتوقع أحد من هؤلاء المراجعة، ولا إعلان الندم، ولا الاستعداد لتغيير جوهري في الفكرة والخطاب والممارسة. وهم الذين واكبوا داعمين، بالسياسة وغيرها، بناء الجماعات التكفيرية وقواعدها وحواضنها الشعبية في كل المناطق الحدودية مع لبنان، وهم الذين منعوا الجيش عام 2014 من خوض معركة كانت أسهل مع الإرهابيين أنفسهم، وهم الذين رحّبوا بكل قميء يدخل البلاد ويعبر منها الى سوريا.
هؤلاء عندهم هدف واحد، هو عنوان حقدهم على كل من يقاوم الاحتلال الاسرائيلي وسياسات أميركا والغرب وممالك القهر في لبنان. وعمالتهم الدائمة للخارج، تجعلهم مجرد مرتزقة، يقومون بالأدوار المنوطة بهم. باتت لديهم خبرة لا تستدعي من المشغل إلا دقّ النفير. ولذلك، نتوقع منهم كل شيء سلبيّ ومدمر. لكن، على ماذا يتّكلون اليوم؟
مع الأسف، ليس بين أيدي هؤلاء اليوم، اللبنانيون منهم والغربيون على حدّ سواء، سوى حيلة اسمها «الجيش اللبناني». وهم الذين سنسمع قصائدهم وأشعارهم وأغانيهم في حبّ الجيش الذي تولّت القوى الخارجة من بيوت الكتائب قتاله والتحريض عليه طوال سنوات الحرب الأهلية، ثم صنّفوه مؤسسة معادية خلال الوجود السوري. وبعد ذلك، تولّى الحريري الأب حملة تجويعه ومنع تسلحه، كما لا يزال الحريري الابن يفعل، وهم الذين منعوه من إنقاذ العسكريين عام 2014، وطلبوا منه القبول بمبدأ «الأمن بالتراضي»، ثم تركوه عرضة لكل ذبح من قبل عناصر الجماعات المتطرفة، ومنعوه حتى من ملاحقة المتورطين والمشتبه فيهم، بحجة الحريات السياسية.
هؤلاء الذين فعلوا كل ذلك بالجيش، لم يوافقوا أصلاً على قراره خوض معركة الجرود. وعندما أصرّ الرئيس ميشال عون على ضرورة قيام الجيش بدوره، حاولوا وضع العراقيل، ولما تقرّر الأمر، سارعوا الى محاصرته بالشروط السياسية، وأصبح هؤلاء ـــ الفاشلون في الحروب عندما قادوا الشباب الى حتفهم، أو ناصروا شباباً غاضبين ودفعوا بهم الى النار السورية ثم فشلوا ـــ خبراء عسكريين، يعرفون كيفية إدارة المعركة في مناطق لم يعترفوا يوماً بأنها جزء من لبنان، ورسموا، كما عواصم الغرب، الخطوط الحمر من حول حركة الجيش لمنع التنسيق الإلزامي بينه وبين رجال المقاومة وجنود الجيش العربي السوري، في معركة تقع على أرض واحدة، وضمن مربع واحد، وضد عدوّ واحد.
اليوم، لن ننظر الى هؤلاء، ولن نتوقع منهم غير ما يعرفون القيام به من خسّة وذلّ وغدر الأفاعي. لكن العين على الجيش الذي بمقدوره، في ظل رعاية الرئيس عون له، أن يقطع الطريق على هؤلاء، وأن يرسم الإطار الفاصل بين الاستثمار السياسي غير المجدي، وحقائق ودروس فرضتها معركة الجرود الأخيرة. والتوجه الى الجيش، ليس فقط لكونه مؤسسة يأمل اللبنانيون أن تكون على الدوام محطّ تفاهم وتقدير، بل لكون تجربة المعركة تستدعي رفع الصوت، في مواجهة أصوات لا تعرف اليوم، ولا غداً، كم خسر الجيش في هذه المعركة من دماء!

المصدر: الاخبار