قبلَ يومين، أعلن المُدير العام للأمن العام اللواء عبّاس ابراهيم أن «العسكريين المخطوفين شهداء. والملف أُقفل». تذكّر هذه الجملة بملفات كثيرة طُويت أمام القضاء العسكري ونامت في الذاكرة، من نهر البارد إلى باب التبانة، وصولاً إلى عبرا. لكن مشهد عرسال (2014) الذي سيق فيه حوالى 37 عسكرياً الى الأسر (وبعضهم الى الذبح) بصورة مذلّة، يحتم فتح الصندوق الأسود لهذه البلدة
يؤكد أكثر من مرجع سياسي وعسكري أن «المؤامرة» على جنود المؤسسة العسكرية ليست فرضية، وأبطالها ليسوا شخصيات سياسية وحسب، بل شاركت فيها قيادة الجيش نفسها آنذاك. صحيح أن التدخلات السياسية خلال «غزوة عرسال»، مطلع آب 2014، شلّت حركة الجيش وفرضت عليه وقف إطلاق النار، ما أدى الى هروب الإرهابيين الى الجرود مصطحبين معهم العسكريين الأسرى. لكن ذلك لا ينفي حقيقة أن القيادة تخلت عن «حقها المقدس» في حفظ أمن عسكرها، وخصوصاً أنها لم تكُن مضطرة للعودة إلى قرار سياسي في مثل ذلك الظرف.
يعود مرجع سياسي إلى «مرسوم قضى بتكليف الجيش حفظ الأمن والنظام ووضع كل القوى المسلحة بإمرة قائد الجيش، وذلك مع إعلان البقاع منطقة عسكرية إثر الأحداث التي جرت بين الجيش ومناصري الشيخ صبحي الطفيلي في محلة عين بورضاي في مدينة بعلبك عام 1997، ومنذ ذلك الحين، يجري تمديد العمل بهذا المرسوم بشكل دوري». لذلك، فإن «الجيش خلال الغزوة لم يكُن في حاجة الى قرار سياسي. غير أن غياب الرؤية في عهد العماد جان قهوجي زاد من حجم الفواتير التي يدفعها العسكر»، وخصوصاً أنه «بغضّ النظر عن الخطأ السياسي، لم تمارس قيادة الجيش صلاحياتها القانونية لتقوم بواجبها بمعزل عن السياسة». في حالة عرسال، يقول المرجع، إن «الغطاء السياسي الذي غطّى الفلتان في المنطقة واستسهال الجيش جعلا من المؤسسة تستسلم للمؤامرة، بعدما خضعت لسلطة مترهلة ومرتبطة بمئة مشروع». بالتأكيد، ليست كل المؤسسة مسؤولة عن التقصير والإخفاق، «وأي حديث عن المحاسبة يجب أن يطال أشخاصاً بعينهم، بعدما أثبت العسكر قدرته على تحقيق الإنجازات متى توافرت الإرادة، ومتى وجدت القيادة الحقيقية غير الخاضعة لرهانات ووعود سياسية».
تربط مصادر سياسية أخرى هذا الملف بمعطيات عدّة. أولها، بالدعم المحلّي والإقليمي والدولي لتنظيم «داعش» عام 2014، الذي وصل عمقه إلى الموصل. وفعلياً، لم يكُن للجيش أي قدرة على خوض معركة كبيرة ضدّه. لكن القيادة كانت قادرة، على الأقل، على مكاشفة الرأي العام بحقيقة ما يجري على الأرض. وثانيها، عدم تنبّه الجيش إلى أن خال أحد عسكرييه (عبد الرحيم دياب) كان أميراً لـ«داعش»، وأنه كان على تواصل دائم معه، وخصوصاً مع تأكيد مراجع عسكرية أن «الرواية التي تقول بأن دياب هو من سلّم عدداً من رفاقه الى المجموعات الإرهابية ثبتت صحتها بعد إعلانه الانشقاق عن الجيش». وثالثها أن «القوة المنتشرة لم تكن تتصرف كوحدات قتالية في حالة حرب، بل كوحدات أمن داخلي، بعدما تلقت القيادة ضمانات من القوى السياسية بأن أحداً لن يتعرّض للجيش، ووافقت على وقف للنار لـ 48 ساعة للسماح بوساطة هيئة علماء المسلمين والنائب جمال الجراح». رابعاً «تغطية الخاطفين وأنسنتهم من قبل أطراف سياسية، وتحديداً تلك التي كانت تؤمن زيارات الأهالي لأبنائهم في الجرود». أما المصيبة الأكبر فكانت «في محاسبة ضباط وعناصر صغار في المحكمة العسكرية بتهمة التقصير، فيما بقي الكبار خارج دائرة المحاسبة». وعلى سبيل المثال، تلفت المصادر الى وقائع كانت تشير الى أن ثمّة ما يحضّر للعسكر، قائلة إن «أحد الضباط المسؤولين عن قوى الأمن الداخلي غادر صباح يوم الغزوة إلى منطقة اللبوة واستمر في ممارسة مهماته من هناك». وأضافت ان «بعض الأسماء التي كانت موجودة في عرسال خلال المعركة، ومعروفة بارتباطها بداعش والنصرة، لم يُسمح بالمسّ بها، وكلما كانت تذكر أسماء هؤلاء، كان بعض الأجهزة الأمنية يتدخل على الفور لسحبها من التداول بحجة أنها محسوبة عليها».
بإحباط واضح، يستذكر العميد المتقاعد شامل روكز بعض ما عايشه في تلك المعركة. في اعتقاده أنه «لو اكتملت المهمّة لما كنّا قد وصلنا إلى ما وصلنا إليه». لا يعطي روكز أهمية لما يقال عن الضغط السياسي، بقدر ما يحمّل القيادة العسكرية المسؤولية. يشير الى أن «الجهاز العسكري ارتكب بعض الأخطاء التي منعت حماية مراكز الجيش، وخصوصاً أن مهمته كان يجب أن تكون هجومية لا دفاعية». بعد يومين من القتال، طلب الى فوج المغاوير التدخل، وحين وصل روكز الى المنطقة آتياً من اللقلوق، شعر بأن ثمة خطأ ما. فمع وصول المغاوير الى ساحة المعركة، شنّ الجيش هجوماً واستعاد المواقع التي خسرها، ومنها مهنية عرسال، «والسرعة في استعادتها تطرح علامات استفهام عن طريقة سقوطها». بعدها كان بالإمكان الانتقال من خيار الدفاع الى خيار الهجوم. لكن فجأة صدرت الأوامر بوقف العمليات، «ما سمح للمجموعات المسلحة بنقل العسكر الى الخطوط الخلفية». يصر روكز على «أننا كنا قادرين على كسب المعركة». روكز الذي صدرت أوامر بسحبه من هذه المعركة بعد أربعة أيام يستغرب «عدم إجراء تحقيق ولا محاسبة»، وخصوصاً أن «هناك تفاصيل عسكرية لا علاقة لها بالطبقة السياسية، إذ يحق لأي قائد ميداني القيام بما يراه مناسباً لحفظ أمن جنوده». ويعتبر أن «جزءاً ممّا حصل فيه مؤامرة، وجزءاً آخر فيه سوء تقدير». سوء التقدير هذا أزهق أرواح أبناء المؤسسة العسكرية المدعوة اليوم الى فتح التحقيق ومحاسبة كل المتورطين في هذه العملية.