لم تعتبر إسرائيل الجماعات الإرهابية التكفيرية تهديداً لها منذ طورها الأول في ثمانينيات القرن الماضي؛ لا تهديد مباشر بالمواجهة أو غير مباشر كفكر وتأسيس لعقيدة أو ايدولوجيا قد تضع نصب أعينها تحقيق ما يضر بمصالح الكيان الصهيوني، حتى ولو من منظور دعائي شعاراتي بدون ممارسات واقعية، بل على العكس، لطالما نظرت وتعاطت تل أبيب مع هذه الجماعات على أنها فرص واستثمار وتوظيف سياسي وأمني وحتى جيوسياسي على مستوى استراتيجي يحقق مصالحها وأهدافها. بداية من الاستبعاد والاستبدال، أي استبدال العدو المنطقي –إسرائيل- من جانب هذه الجماعات ومنظريها وكوادرها بعدو وجودي أخر حتى ولو كان من أبناء شعوبهم بسردية طائفية تكفيرية ضُفرت بأن يكون مسرح عمليات هذه الجماعات في بداياتها بعيداً عن فلسطين المحتلة، وصولاً لتشكيلهم جبهة متقدمة ميدانية على أرض المعركة تحمي إسرائيل وتستظل بها عسكرياً ولوجيستياً.
هذا الأمر ليس استنتاج أو رأي يحتمل التأويل ووجهات النظر، ولكنه مثبت على الجانبين ليس فقط في الأحداث والحوادث والتصريحات والمفارقات “الاعتيادية” التي تدل على مفاعيل هذا التوظيف والاستخدام والاستفادة المتبادلة، ولكن أيضاً في تقديرات أمنية وإستراتيجية دورية تصدر عن مؤسسات التفكير واتخاذ القرار في الكيان الإسرائيلي، مفادها العام يستبعد خطورة الجماعات التكفيرية على إسرائيل، ويقدم عليها بترتيب أقصى حركات المقاومة ومحورها، سواء من حيث التواجد بالقرب من حدود فلسطين المحتلة، أو بفاعلية هزيمة هذه الجماعات على يد مكونات هذا المحور في ساحات بعيدة مثل العراق، وهو ما يعني على الجانب الأخر أن هذه الجماعات على طيلة مسار تطورها من مرحلة أفغانستان حتى “دولة الخلافة” ما هي إلا كيانات وظيفية يسهل توجيهيها لخدمة أهداف حلفاء واشنطن في المنطقة وعلى رأسهم تل أبيب، وهنا الأمر ليس وكأنه محصور في سوريا أو العراق ولبنان كمعطل وعائق أراد به إشغال المقاومة واستبدال الساحات والعدو، ولكن حتى توظيفهم في خلق واستدامة بيئة فارغة أمنياً واستراتيجياً تترعرع فيها هذه الجماعات، مثلما هو الحال في سيناء، حيث تقيد اتفاقية السلام بين القاهرة وتل أبيب تواجد كثيف سواء من الناحية الديموغرافية أو الحضارية التنموية أو العسكرية والأمنية جعلها مرتع خصب لهذه الجماعات، وجعلت اقتلاعها أمر في غاية الصعوبة، مع المقارنة بحالات هذه الجماعات في سوريا والعراق، والفارق في الإمكانيات والجهوزية.
السابق لا يندرج تحت المفهوم الشائع الهزلي لنظرية “المؤامرة”، ولكن كتوظيف عملي يسمح بتهيئة بيئة مناسبة لبقاء وتمدد وتقوية إسرائيل من منطلق إضعاف الدول المحيطة بها وتفتيتها وانحدار بنيتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية من مفهوم الدولة والوطن، إلى مستويات قبلية وطائفية وعرقية. أهم أدوات تنفيذ هذا الانحدار داعش وأخواتها، حيث أن هذه التنظيمات والجماعات الإرهابية التي تمتعت في بداية “انفلاتها” في السنوات الأخيرة بغطاء إعلامي وثقافي ومادي ودعائي صورها في وضع “المعارضة” و”الثوار” سرعان ما تكشف إنهم يخدمون مصالح تل أبيب بشكل واعي أو غير واعي، وهو ما يتجلى في فزع إسرائيل الحالي من هزيمة هذه الجماعات في كافة الساحات من سوريا للعراق للبنان لسيناء، وهو ما يجعل الأمر كما لو كان بشكل بديهي يقترب من التبسيط المُخل بأن وجود واستمرار هذه التنظيمات أفضل لإسرائيل من أن يتم القضاء عليها ويحل محلها مكون عضوي وطبيعي من أبناء هذه الأوطان، خاصة إذا كان بعضهم يعادي الكيان الصهيوني بشكل وجودي، وهو ما يفسر حالة الفزع الإسرائيلي خلال الأشهر القليلة الماضية ويجعل مسئوليها يصرحون في السر والعلن أن ما يحدث من تغيرات في المنطقة يصب في عكس مصلحة إسرائيل.
“المنطقة تتغير ولكن ليس لصالحنا”. هكذا كان العنوان الأبرز لتقرير رئيس الموساد الذي يرى أنه على مستوى استراتيجي حقق خصوم إسرائيل نجاحات دفعت بأرفع جهة أمنية إسرائيلية لدق ناقوس الخطر ليس بخصوص أخطار على “الأمن القومي الإسرائيلي” ممثلة في حركات المقاومة في شمال وشرق وجنوب فلسطين المحتلة، ولكن بأن هذا الوجود وعلى مستوى المستقبل البعيد لن يكون مؤقتاً ولن يكون خيار القضاء عليه متاحاً، بل أن كل ما تملكه إسرائيل تجاهه بعد المتغيرات الأخيرة أن تقوم باحتوائه ومحاولات خفض معدلات الخطر لحد أدنى على إسرائيل أن تتعايش معه.
هذه المتغيرات الاستراتيجية بشكل عام يمكن تلخيصها في واقع جيوستراتيجي جديد ولوجيستي مفاده أن الطريق من طهران لبيروت مروراً ببغداد ودمشق صار معبداً أمام إيران وحلفائها وحركات المقاومة المختلفة، التي تجعل حزب الله بعبارة وردت في التقرير السنوي الخاص بالفرص والتهديدات قبل عامين “قوة في حجم دولة تهدد إسرائيل بشكل وجودي تخطى المعالجة الأمنية والعسكرية وإمكانية الردع المتبادل، وبالتالي فإن هذا الأمر على مقياس أعم يشكل كابوساً لدى صانعي ومتخذي ومقدري القرارات في الكيان الصهيوني.
ويدرك المسئولين الإسرائيليين أن هذا تحدي هذا الواقع الجديد أكبر من إمكانيات تل أبيب، فما بالك بتغييره، وأن الأمل شبه الوحيد هو أن تعمل واشنطن بشكل مباشر على تغيير هذا الواقع عبر مسارات متعددة ومتشابكة تقارب في معظمها فرض الأمر واقعياً بالتدخل العسكري المباشر، سواء تم ذلك عبر توفير الغطاء السياسي لإسرائيل لأن تتدخل في سوريا مباشرة عبر جيوب داخل الأراضي السورية المحاذية للحدود مع فلسطين المحتلة، أو تقطيع التواصل الجغرافي بين مكونات محور المقاومة من العراق إلى سوريا إلى لبنان، وهو ما لم تنجح فيه حتى الأن المفاوضات أو التفاهمات بين تل أبيب وبين القوى المؤثرة في سوريا وعلى رأسها موسكو وواشنطن؛ فنتنياهو في زيارته الأخيرة لروسيا حمل على أجندة أولوياته محاولة إقناع الكرملين بصيغة توافقية “تبعد إيران عن حدود إسرائيل“، بحسب تعبير الأخير قبيل زيارته، والذي صرح في وقت سابق أن  “الاتفاق الأميركي ــ الروسي هو فشل استراتيجي كبير جداً“ الذي أوجز في اجتماع مجلس الوزراء المصغر الأسبوع  قبل الماضي مخاوف دولة الاحتلال من واقع ميداني في طريقه للتبلور لواقع استراتيجي طويل المدى مفاده “داعش تخرج وإيران تدخل”، في إشارة إلى أن المحاور الاستراتيجية والمدن والمناطق الحدودية التي يهزم بها التنظيم الإرهابي وأخواته على يد محور المقاومة، تخرجها من سيطرة “الحزام الأمني” التي شكلته هذه التنظيمات على مدار السنوات الماضية، والتي بدأت تل أبيب التعاطي معها على أنها واقع مستقبلي أساسه تكوين هذه التنظيمات لما يشبه جبهة دفاع أولية عن الكيان الصهيوني، تجلت بصورتها الصارخة في المناطق الغربية والجنوبية وعلى تخوم هضبة الجولان المحتلة، حيث تعاون وثيق وعضوي بين هذه التنظيمات وبين جيش الاحتلال، بما في ذلك الإمداد اللوجيستي والدعم المعيشي والصحي وعلاج مصابي الجماعات الإرهابية في مستشفيات إسرائيل، وصولاً إلى تنسيق أمني واستخباراتي جرت مفاعيله أكثر من مرة على مدار سنوات الأزمة في سوريا. 
وفي السياق السابق، يقول جاي ياخور، الباحث والمحاضر بمركز هرتسليا متعدد المجالات الذي ينظم مؤتمر “هرتسليا الاستراتيجي السنوي”، أن “تل أبيب بنت سياستها تجاه سوريا على فرضية أن الأسد لن يتمكن من عبور هذه الأزمة، وأن سقوطه سيؤدي لإضعاف محور إيران وحزب الله، وهو ما لم يحدث حتى الأن، بل ان فرصة استمرار نظام الأسد صارت أقوى من قبل، لتوفر دعم إقليمي من حلفاءه في لبنان وإيران، وكذلك تغير موقف الدول الأوربية تجاهه بسبب تبينها خطر التنظيمات المتطرفة مثل داعش والنُصرة عليها، وأخيراً بسبب التغيرات التي حدثت في دول الثورات العربية، حيث أصبحت الجماهير والحكومات أقل حماساً من حدوث تغيير عنيف مثلما حدث في ليبيا. ولذلك فأنه على تل أبيب أن تعمل في المستقبل القريب على إعادة تدوير المتغيرات وتوظيفها لمصلحتها بشكل مرحلي في إطار إستراتيجية أمنية وسياسية أولوياتها كالتالي: منع وصول أسلحة متطورة إلى حزب الله عن طريق سوريا، تحديد أي من الفصائل المسلحة في سوريا ستتعامل معها إسرائيل وتوطد علاقتها وتدعمه طبقاً لموقفة منها كدولة واستغلال التحالف الدولي ضد داعش في تثبيت وضمان ذلك بالإضافة إلى ضمان أن لا تنقلب هذه الفصائل ضد إسرائيل بعد دعمها ومساعدتها كما حدث في حالة داعش مع داعميها في الخليج، وأخيراً إبعاد المعارك عن الشريط الحدودي قدر المستطاع والتمهيد لاتساع المنطقة العازلة بين سوريا وإسرائيل”.
وكمحصلة عامة، فإن الموقف الإسرائيلي المعلن هذه الأيام لا يأتي إلا تصديقاً على سياسة عملية مستمرة طيلة الأعوام الماضية، ولكن توقيت الإعلان عنه له دلالات هامة تشير إلى أنه مع أي تطور ميداني على الساحة السورية لا تجد إسرائيل غضاضة من بذل مرونة أكثر في تدوير زوايا استراتيجياتها سواء في إعادة ترتيب الأولويات أو قرار التدخل المباشر بعد فوات إمكانية التدخل غير المباشر عبر \ دعم المسلحين المتمركزين على حدودها مع سوريا؛ فخلال الأسابيع القليلة الماضية شهدت الساحة السورية واللبنانية معارك عسكرية كبيرة فاقت نتائجها الاستراتيجية توقعات تل أبيب المتمحورة حتى هذه اللحظة حول تأجيل الصدام المباشر بينها وبين محور المقاومة الذي بات على مرمى حجر منها.

المصدر: البديل