لا يزال العهد وحكومته يتعاملان مع التطورات الإقليمية على قاعدة الحياد. لكن التطورات المحلية والإقليمية أظهرت أن منحى جديداً يفرض نفسه على الجولات الخارجية لرئيس الجمهورية ولرئيس الحكومة. فهل يبقى مكان للحياد وسط الاصطفاف الحالي؟

على أهبة استعداد رئيس الجمهورية العماد ميشال عون للقيام بزيارات لفرنسا وإيطاليا والجمعية العامة للأمم المتحدة واحتمال تلبيته الدعوة الرسمية لزيارة إيران، لا يمكن القفز فوق مجموعة من الاعتبارات ترافق هذه الإطلالات الخارجية التي لا تشبه تلك التي استهل بها عهده.

يبدو لافتاً برنامج الزيارات الخارجية المكثفة لرئيس الجمهورية ولرئيس الحكومة سعد الحريري الخارجية وتزامنها وتوقيتها بما يخدم تطلعات كل منهما وأهدافه. إذ يسعى رئيس الجمهورية وفريقه الى إظهار دور الرئيس وتمثيله لبنان في المحافل الدولية كالأمم المتحدة، بعيداً عن تمثيل الحريري للبنان في القمة الإسلامية التي عقدت في الرياض في أيار الماضي وزياراته لباريس قبيل زيارة عون ومن ثم موسكو. وإذ يحرص عون على هذا الدور الخارجي بخطاب يراد له أن يكون حيادياً، يعمل أيضاً على القيام بمروحة شاملة من الزيارات لا تستثني أحداً. وبما أنه لا يمكن التعويل على دورَي فرنسا وإيطاليا في رسم مسار لبنان، إلا ما يتعلق بالجانب التاريخي من العلاقات الثنائية، ولا الرهان على ما تقدمه فرنسا التي تتخبط في البحث عن دور ما للرئيس إيمانويل ماكرون، فإن زيارة عون المفترضة لإيران هي التي يمكن أن ترسم مشهداً داخلياً جديداً، وخصوصاً إذا وضعت في الإطار الإقليمي الذي بدأ يتضح ولا يبتعد عون عنه، ولا سيما بعد المواقف السعودية الأخيرة.

فجولات رئيس الجمهورية تأتي بعد الإنجاز الذي حققه الجيش وحزب الله في معركة جرود عرسال ورأس بعلبك والقاع. وإذا كان عون قد حرص على إظهار دوره كمقرر وشريك أساسي بصفته قائداً أعلى للقوات المسلحة في إنجاز العملية العسكرية التي قام بها الجيش، إلا أنه أيضاً لم يكن بعيداً عن إظهار دوره شريكاً في قرار خروج تنظيم «داعش» من الجرود الى سوريا، وموقفه وموقف التيار الوطني الحر الذي يمثل، الداعم لمعركة جرود عرسال التي قام بها حزب الله، ودور الأخير في التحرير الثاني. من هنا، يحمل عون في جعبته هذا «النصر الذي حققه لبنان» على «داعش» ليبشر به على المنابر الدولية. لكن لا يمكن عزل هذا الانتصار عن الواقع المستجد في تطويق روسيا وإيران وحزب الله والجيش السوري للتنظيم الإرهابي في سوريا، واستعادة النظام السوري أنفاسه مجدداً، والقفزة الجديدة في العلاقات اللبنانية ــــ السورية والمرشحة لأن تتطور. والمستجدات التي رافقت عمليتي جرود عرسال والقاع ورأس بعلبك أظهرت أن رئيس الجمهورية طرف أساسي وحليف للمحور الإقليمي الذي أعلن انتصاره. من هنا، يمكن تلمس إشكالية موقفه الذي لن يكون معزولاً عن التطورات الإقليمية التي تتقدم في اتجاه يصبّ أكثر نحو خطاب سبق أن اعتمده عون قبل تسلمه الرئاسة، ولم يكن بعيداً عنه رئيساً للجمهورية.
لكن إطلالات عون الخارجية التي يريد العهد استثمارها بخطاب حيادي مغطى بالنصر على الإرهاب، لمصلحة معالجة ملف النازحين والمطالبة بتعزيز تسليح الجيش، تطرح أسئلة عن إمكان صمود هذا الحياد، ولا سيما أنها تأتي في لحظة مفصلية إن لجهة العقوبات الأميركية على حزب الله أو محاولة الولايات المتحدة إبقاء تحذيراتها للحزب ولإيران واضحة عبر رسائل سياسية وعسكرية، كما حصل مع قافلة «داعش» من دون أي التباس، الأمر الذي يزيد أيضاً من الضغط على العهد الذي لا يبدو أنه سيتراجع أمام موقفه الإقليمي. ناهيك عن المنحى الذي ستتخذه القيادة السعودية من التطورات الأخيرة، علماً بأن عون الذي بدأ عهده بزيارة الرياض لم يشهد بعد نحو عشرة أشهر على تسلمه الرئاسة، استثمار هذا الانفتاح، الذي لم يؤمن أكثر من رعاية الاستقرار الداخلي، على إيقاع تسلم الحريري رئاسة الحكومة لا أكثر ولا أقل. ولم تشرّع الرياض الأبواب أمام علاقات سعودية «فوق العادة» مع رئاسة الجمهورية.
ولا يمكن التعويل على هذه الإطلالات لجهة استثمارها إن في موضوع النازحين أو المساعدات، لأن للدول المعنية أيضاً أجندتها الخاصة وتوقيتها، ولا تظهر حاجات لبنان على هذا المستوى في سلّم أولوياتها. وقد سبق أن عقدت مؤتمرات دولية حول النازحين لم تقدم للبنان سوى النزر اليسير من مطالبه السياسية والمالية. أما المساعدات العسكرية والأميركية تحديداً فهي تخضع لبرامج واعتبارات وآليات عمل مختلفة عن الخطب السياسية.
وفي شق آخر، لا يمكن عزل الوضع الداخلي عن جولات رئيس الجمهورية، إذ تتابع الدوائر الدبلوماسية التطورات اللبنانية الداخلية ولو من دون أي «تورط» فعلي في الملفات اللبنانية، ولا سيما مع انشغال الدول الكبرى، ومنها المعنية بشأن لبنان، بأزمات أكبر من الواقع اللبناني، كما يحصل في كوريا الشمالية والعلاقات التركية ــ الأوروبية وعودة فتح الملف النووي الإيراني والاستفتاء الكردي. لكن هذه الدوائر لا تغفل متابعة بالحد الأدنى لأداء العهد والإنجازات التي كان يفترض أن تتحقق. وكما رصدت منذ أشهر الاستقرار الداخلي والإنجازات العسكرية والأمنية في ضبط الوضع الداخلي، فإنها أيضاً ترصد كل ما يحكى عن احتمال تأجيل الانتخابات النيابية الفرعية تحت أي حجة. فكيف لو كانت هذه الحجج من طراز تأمين مصالح فئوية وحزبية لهذا الطرف أو ذاك؟ وكذلك، فإن ما بدأ يتسرب من أحاديث جانبية حول مسار الانتخابات النيابية المقبلة واحتمال إجراء تمديد جديد للمجلس النيابي لا يجد صداه الطيب في الأوساط الدبلوماسية التي رحبت بصدور قانون للانتخاب بعد انتظار سنوات، من دون أن تنسى أن ملفات لبنان الاقتصادية والاجتماعية لا تزال كلها متعثرة.

المصدر: هيام القصيفي - الاخبار