دفع اللبنانيون أثماناً باهظة لطرد العدو الإسرائيلي من الأراضي التي يحتلها. لكن ذلك لم يحل دون إقفال كافة «النوافذ» في وجهه. الاختراق الإسرائيلي الاستخباري تلاحقه الأجهزة الأمنية، التي خدشت عملها إلى حد التهشيم، الشوائب القضائية التي سمحت لعملاء كثر بالخروج من السجن. لكن الاختراق المعادي بات أبعد من التجسس: تطبيع معلن، ثقافياً، بلا أي محاسبة؛ وإسرائيليون يشرفون على تدريب هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان على مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب؛ وأنظمة إلكترونية إسرائيلية لطائرات سلاح الجو اللبناني! باختصار، إسرائيل (لا تزال) بيننا
«التعامل مع العدو» يمكن أن يتخذ أشكالاً مختلفة، مباشرة وغير مباشرة، ويمكن أفراداً أو جهاتٍ أن يتورطوا، قصداً أو عن غير قصد، في عملية بناء شبكة اتصالات ونقل معلومات تخدم هذا العدو... في كل الأحوال هناك مسؤوليات وعواقب تترتب حتى عن الخطأ غير المقصود. فكيف إذا كان «الخطأ»، مع افتراض حسن النية، صادراً عن هيئة التحقيق الخاصة لدى مصرف لبنان، وهي وحدة الإخبار المالي اللبنانية، التي أُنشئَت كهيئة مستقلة ذات طابع قضائي، بموجب القانون 44 المتعلق بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب؟
هذه الهيئة، التي يرأسها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، تقيم بالشراكة مع «المركز العالمي للأمن التعاوني» (Global Center on Cooperative Security) ووزارة الخارجيّة الدانماركيّة، ورشة عمل، في 12 أيلول الحالي، في فندق مونرو، بعنوان «منتدى التوعية: تعامل مؤسّسات التحويلات النقديّة مع الالتزامات الدوليّة لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب بموجب القانون 44»، بحضور قادة أمنيين وقضاة وموظفين عامين ومصرفيين وقانونيين ومكلفين تطبيقَ قانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب.
تبدو ورشة العمل هذه عاديّة وتندرج في إطار نشاطات الهيئة، لولا أن المعلومات التي سيُتداوَل بها في جلساتها ستصبّ في النهاية بين يدي الإسرائيلية ليات شِطريت، المسؤولة عن الشؤون الماليّة وبرامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في «المركز العالمي للأمن التعاوني»، وهي واحدة من أبرز مسؤولي المركز وأكثرهم تأثيراً في أعماله، وسبق أن شغلت منصب مديرة المركز في نيويورك.
وُلدت ليات شطريت في الولايات المتحدة الأميركيّة، حيث كان والدها يعمل في السفارة الإسرائيلية في واشنطن، وتنقلت مع والدها بين أربعة بلدان: الولايات المتحدة ومصر وإسرائيل والفيليبين، ثم انضمت إلى الجيش الإسرائيلي برتبة ضابط ملازم، وبقيت في الخدمة العسكرية ثلاث سنوات، أسهمت في خلالها بـ«تدريب القوات والإشراف على الدعم اللوجستي للمهمات»، بحسب ما أدلت به في مقابلة معها أجرتها مجلّة كلية الآداب والعلوم في جامعة «إيلينوي» في شيكاغو (ATLAS)، وأدلت به أيضاً في حديث مع CNN. كذلك عملت شطريت مع آرون ديفيد ميللر، المساعد السابق لوزارة الخارجيّة الأميركيّة والمتخصّص في الشؤون الإسرائيليّة ــ العربيّة، وعملت على دراسات وبحوث حول مكافحة الإرهاب وتبييض الأموال وتمويل الإرهاب، فضلاً عن انتسابها إلى جمعيّة «إسرائيل في القلب»، التي تعنى ببث أفكار إيجابيّة عن إسرائيل وتعزيز فهم التراث اليهودي.
بحسب الموقع الإلكتروني الخاصّ به، تأسّس «المركز العالمي للأمن التعاوني» في عام 2004، وهو يعمل مع الحكومات والمنظّمات الدوليّة والمجتمع المدني والجهات المانحة، من أجل وضع وتنفيذ سياسات شاملة ومستدامة للتحدّيات الأمنيّة الدوليّة، من خلال العمل على بحوث وسياسات تعاونيّة وبرمجات متطوّرة لتنمية القدرات، وذلك بالتعاون مع شبكة واسعة من الخبراء والمنظّمات الشريكة. وهو يركز عمله على أربعة مجالات، هي: السياسة الأمنيّة المتعدّدة الاطراف، مكافحة التطرف، العدالة الجنائيّة، والنزاهة الماليّة، فضلاً عن تمكين المتضرّرين من العنف داخل بلادهم. وسبق أن نظّم ورشات عدّة حول مكافحة الإرهاب بمشاركة «إسرائيل».
توجد شبهات كثيرة حول نشاط الإسرائيليين في هذا المركز، ولا سيما أنه يشكل غطاءً مهماً للوصول إلى مصادر معلومات مهمّة تتعلق بعمليات النظام المصرفي ووسائل الدفع والتحويلات، وهو ما قد تؤمنه أيضاً الشراكة بين هيئة التحقيق الخاصة و«المركز العالمي للأمن التعاوني».
الدعوة للمشاركة في ورشة العمل المذكورة وُجهت إلى «كلّ الوحدات المصرفيّة والمؤسّسات الماليّة التي تتعاطى التحاويل النقديّة الخاضعة لرقابة مصرف لبنان، والتي ينصّ عليها القانون 44، فضلاً عن شركات التأمين ووسطاء العقارات وتجّار السلع ذات القيمة المرتفعة، والمحاسبين وكتاب العدل والمحامين. بهدف إطلاعهم على موجباتهم المنصوص عليها قانوناً، وتدريبهم على كيفيّة تقديم التقارير إلى هيئة التحقيق الخاصّة، وتبادل الخبرات، والمحافظة على السجلات، لتنفيذ مهماتهم في مكافحة تبييض الأموال».
جميع المدعوين هم بمثابة «صيد ثمين»، وكذلك محاور الجلسات، إذ تنقسم الورشة إلى 4 جلسات: الأولى مخصّصة للتعريف بمخاطر عمليات تبييض الأموال وتمويل الإرهاب في لبنان، يقدّم خلالها كلّ من أنطوان مندور وراشد الطقش من «هيئة التحقيق الخاصّة» معلومات عن مخاطر هذه العمليات في لبنان، ويناقشان طرق مكافحتها بموجب القانون 44 والتعاميم المتصلة به.
الجلسة الثانية يديرها نائب مدير «المركز العالمي للأمن التعاوني»، جايسون إيب، ويتحدّث خلالها كلّ من رئيس وحدة التدقيق في هيئة التحقيق الخاصّة هشام حمزة، ورئيس قسم المباحث الجنائيّة الخاصة في الشرطة القضائيّة العميد زياد الجزّار، وقاضي التحقيق العسكري الأول رياض أبو غيدا، وتتمحور حول سلسلة مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب في لبنان، وتتطرّق لأهمّية المعلومات التي يقدّمها المكلفون التدقيق والإبلاغ عن المعاملات المشبوهة، ودورهم في وضع الأدلة اللازمة لتحقيقات ناجحة وملاحقات قضائيّة فاعلة، فضلاً عن كيفيّة رفع التقارير وإيصالها وتحليلها.
الجلسة الثالثة يتحدّث خلالها كلّ من فؤاد خليفة عن فرنسبنك، والياس سرور عن «مؤسّسة سرور للصيرفة»، وميشلين زيادة ممثلة «OMT»، وهي جلسة مخصّصة لتبادل خبراتهم في كيفيّة تنفيذ الالتزامات في مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، وتبيان المؤشّرات الدالة على هذه العمليات، وكيفيّة تقديم وحفظ السجلات.
أمّا الجلسة الرابعة، فينقسم المشاركون فيها إلى مجموعات، واحدة للصيارفة ومحولي الأموال، وثانية لتجّار المجوهرات والآثار ووكلاء العقارات، وثالثة للمحاسبين وكتاب العدل والمحامين، للقيام بأعمال تطبيقيّة لالتزاماتهم المحدّدة وفق القانون، مع عرض حالات وملء استمارات افتراضيّة ومناقشة كيفيّة العمل مع الجهات التنظيميّة. إضافة إلى مجموعة رابعة تضمّ القضاة لمناقشة كيفيّة التعامل مع قضايا مماثلة.
على أن يختم المنتدى بملاحظات وخلاصات يقدّمها القاضي أبو غيدا والأمين العام هيئة التحقيق الخاصة عبد الحافظ منصور، ونائب مدير «المركز العالمي للأمن التعاوني» جايسون إيب.