اليوم، لن يتذكّر الّا قلة قليلة أنّ زياد الدويري، مخرج فيلم "الصدمة"، قد نجا بفعلته. ونادرون من سيتذكرون أصلا ما فعله "الفنّان"، "المبدع" الذي مارس التطبيع، اي فعل الخيانة، بحجة "قبول الآخر"، كما نسوا الى اين وصلت "شركة المحبة" التي افتتح لها الراعي فرعا في الكيان الصهيوني يوم زاره فاتحاً بطلاً وعاد منه فاتحاً بطلاً. تعود الحياة الى احداث تستجد، واسماء تحتل مراكز الاهتمام الاولى. تلك هي عادتنا، هواياتنا الابشع: النسيان وعدم مراكمة التجارب ورصفها بحيث يصبح المشهد كاملا، ونتجاوز الاحداث، كأنّها لم تكن. لذا، ليس الدويري المبدع الوحيد . جميعنا مبدعون في التزاحم حول بقعة الضوء، هجوما او دفاعا، وعدم ربطها بأي حدث قد يكون مرتبطا بها ولا زال في الظلّ.
في لبنان، ومنذ نشأته ككيان اراد الاستعمار فصله عن محيطه التاريخي، برز التناقض بين فريقين، الاول يجاهر بولائه للغرب واعتباره خشبة خلاص هذه "القطعة سما" من اصلها وانتمائها العربي. كما جاهر بالأمس ايضا باعتبار ما فعله الدويري انجازا ابداعيا، وهذه حقيقة نظرة هذا الفريق للعلاقة مع العدو. اما الفريق الثاني فلا يرى لبنان منفصلا عن حقيقته العربية، وليس مجرد حامل لوجه عربي. هذا الفريق لم ير يوما في الكيان الصهيوني الا كيانا عدوا محتلا لأرض عربية اسمها فلسطين، ودفع ثمن قناعاته وخياراته من دمه ومن مستقبله ومن كل ما يملك، وكان دوما المتهم بعدم قبوله للآخر وبالتخلّف عن الركب الكوني. هذا الفريق نفسه الذي يخوض وسيخوض معركته ضد "الاخر الصهيوني"، من اجل فلسطين عربية، من اجل عالم خال من الصهاينة، من اجل حياة اجمل.
هي مسألة خيارات اذاً، وبناء عليها يتم الحكم على ايّ حدث. وبناء عليها انقسم الفريقان، بين مشجّع لخيانة زياد الدويري وبين مدين لها. وهذا امر طبيعي. اما ما ليس طبيعيا، فهو تلك المجموعات " المثقفة" من رواد المقاهي "الثقافية" ، من مستكتبين واعلاميين، الذين لطالما بدوا متناقضين. يرفعون بيد شعار "لا للتطبيع" وباليد الأخرى يلوّحون برايات "الرأي الآخر". يا لفرحنا اليوم وقد اصبحت الخيانة، تلك التي كنا نصفها بالعظمى، مجرد رأي اخر! اوليست هذه هي الديمقراطية بنظر حملة لواء الثقافة التبشيرية الاميريكية الذين يخشون ان تصنفهم "ارهابيين" لعدم قبولهم بالآخر؟ هذا هو الآخر! هللوا له طيلة اليومين السابقين، واظهروا من خلاله كل ما فيهم من انحرافات اخلاقية ووطنية. كشفوا عن وجوههم الحقيقية، تارة باسم "الفن والثقافة والابداع" وطورا باسم "الرأي العام". لا نتحدث هنا عن اولئك الذين ينظّرون لأهمية التطبيع والمنافع التي قد تنتج عنه، ولا عمن جاهروا تاريخيا بولائهم للصهيوني وتباهوا بتعاونهم معه. فهؤلاء اجاب التاريخ الحديث على مقولاتهم بوضعها في نفاياته وتجاوز مفاعيلها التي ابرزها اعدام الخائن بشير الجميّل. نتحدث هنا عمن يزايدون على المقاومين في العداء للصهاينة ثم يجدون من على منبر اخر ان زياد الدويري بطل شجاع تجاوز العداوات وذهب بابداعه الى ما خلف الصراع كما رأوا قبلا ان زيارة رجل دين الى الاراضي المحتلة هي رحلة دينية. هؤلاء ليسوا مجرد مصابين بانفصام وطني، ولا بازدواجية الخيارات والضياع السياسي والمجتمعي. هم اكثر من ذلك. لقد اصبحوا اشبه بفريق يتناغم الى حد التماهي مع الافكار والمفاهيم التطبيعية تحت ستائر عديدة يعتمدها الغرب لخرق المجتمعات المعادية للصهيونية وابرزها الشعار الخالي من اي مضمون : الرأي الآخر. وحالة زياد الدويري، ليست الوحيدة التي تعتمد السند القانوني باستعمال جواز سفر دولة اخرى ليزور الكيان المحتل. كثيرون غيره قد يكونون فعلوها متسللين من هذه الثغرة القانونية التي اصبحت اليوم فجوة كبيرة نحو التطبيع، اي نحو الخيانة التي ستبقى عظمى ولو شاء تسميتها عكس ذلك الف فنان والف قانون!
المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع