لا تنتهي تداعيات استشهاد العسكريين مع فتح تحقيق داخل الجيش فقط. فالأسئلة مطروحة عن تحييد السياسيين والمسؤولين كافة عن هذا الملف، وحصر التحقيق بالجيش دون سواه، ما يعرّض المؤسسة العسكرية لسابقة
لا يتوقع أن تنتهي تداعيات خطف العسكريين عام 2014 واستشهادهم قريباً. وإذا كان أهالي العسكريين لن يتراجعوا عن مطالبتهم بالتحقيق في هذه القضية وكشف ملابساتها، إلا أن للقضية أبعاداً أخرى تتعدى الإطار الإنساني والقانوني، ولا سيما بعدما أحال مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي صقر صقر ملف استشهاد العسكريين الى مديرية المخابرات في الجيش لإجراء التحقيقات الأولية. فقد دار نقاش سياسي، في الأيام الأخيرة، حول كل ما يحيط بالقضية وما نجم عنها من تأثيرات سياسية، وما يمكن أن تتركه من ارتدادات على المؤسسة العسكرية.
وفي خلاصات هذه النقاشات الآتي:
ثمة قرار واضح وموقف لا لبس فيه من رئيس الجمهورية العماد ميشال عون وقائد الجيش العماد جوزف عون بإجراء التحقيق اللازم لمعرفة كل الملابسات التي رافقت العملية وما أعقبها. ويُنظر الى التحقيق على أنه ضروري، كما في كل قضية على هذا المستوى من الخطورة، ليس فقط لجلاء الحقيقة، أو لامتصاص نقمة أهالي العسكريين، إنما أيضاً لمحاسبة المتورطين والمسؤولين ليدفعوا ثمن أخطائهم. والإصرار على التحقيق يعكس حرص الجيش، بدرجة أولى، على إجراء مراجعة داخلية فعلية لمحاسبة أفراد السلك العسكري المسؤولين عن أخطاء ارتكبت قبل عملية الخطف وأثناءها وبعدها. وهذا أمر يجري في أي عملية عسكرية وفي أي جيش نظامي يحاسب فيه المخطئون ويكافأ فيه الذين قاموا بإنجازات، وهو أمر واعد، إن بقي في إطاره القانوني وليس الكيدي أو الشخصي. وهذا أمر يؤكده الجيش، كما رئيس الجمهورية بصفته قائداً أعلى للقوات المسلحة، لأنه يصب في خانة تعزيز وضع الجيش وتنظيم آليات المحاسبة وإظهار المسؤوليات كاملة.
لكن، في المقابل، هناك مجموعة من الملاحظات التي تقال في النقاشات السياسية تهدف الى الإضاءة على سير التحقيق حتى لا يتحول عن مساره، وحفاظاً على وضع المؤسسة العسكرية:
أولاً، إن الجيش الذي يخرج من انتصار بهذا الحجم على تنظيم «داعش»، يواجه للمرة الأولى في تاريخه تحقيقاً على هذا المستوى من الخطورة والدقة.
فالتحقيقات العسكرية الداخلية تجرى في شكل دائم داخل المؤسسة عند أي أخطاء ترتكب، ولا تكون عادة على هذا المستوى الوطني العام، ولا سيما بعدما أخذت قضية العسكريين المخطوفين كل هذا الدعم والاحتواء السياسي والشعبي. وهذا الأمر كفيل في حد ذاته بأن يضع الجيش أمام تحدّ أساسي وحساس ودقيق، لأنه سينعكس حكماً على وضع الجيش وعلى ضباطه وأفراده، الذين سيكونون معرضين، إعلامياً على الأقل، لحالة هي الأولى من نوعها لن تكون سهلة على المؤسسة العسكرية التي يفترض بها، وهي الحريصة على إجراء تحقيق شامل وشفاف، تفادي الفخاخ والمطبات أمامها.
ثانياً، إن وزير العدل سليم جريصاتي وجّه كتاباً الى النائب العام لدى محكمة التمييز القاضي سمير حمود، طلب فيه إجراء التعقبات بشأن جرائم قتل العسكريين في عرسال من الجيش وقوى الأمن الداخلي، «على أن تشمل هذه التعقبات جميع الجرائم المتفرعة وجميع الأشخاص الذين شاركوا أو تدخّلوا أو حرّضوا على ارتكابها». لاحقاً، أحال صقر الملف الى مديرية المخابرات لإجراء التحقيق. وهذا الأمر أثار التباسات حول حصر التحقيق بالمديرية التي تعنى عادة بالشأن الأمني، وليس بالشرطة العسكرية التي تحقق عادة في مسائل داخلية، وإن أقل خطورة. فإذا كان مشهوداً للمديرية عملها وإجراؤها التحقيق بطريقة شفافة ومن دون إثارة أي أخطاء حولها، إلا أنها ستكون اليوم أمام مسؤولية كبيرة في مواجهة ملف كبير وحساس وخطر ومتشعب، ما يضيف عليها ثقلاً كبيراً وضغطاً أمنياً مكثفاً نتيجة انصرافها إلى ملاحقة شبكات أمنية وإرهابية خطرة.
وهذا التكليف سيطرح أسئلة عن خريطة الطريق التي يمكن أن تعتمدها مديرية المخابرات والجيش في إجراء التحقيقات، ومن الذي يمكن أن تشمله، كمسؤولين عسكريين من مختلف الرتب منهم؛ من أصبح خارج الخدمة ومنهم من لا يزال فيها، علماً بأن الحوادث التي جرت عام 2014 متشعبة ومتداخلة. ولوجستياً، هناك تراتبيات متفاوتة ومتدرجة بحسب الرتب والمسؤوليات المعطاة الى الضباط وقادة الألوية والوحدات. فهل يمكن أن يفتح تحقيق واسع الى هذا الحد، ومن الذي سيستدعى الى التحقيق، ومن يبقى خارجه؟
ثالثاً، لا يمكن التعامل مع التحقيق مع مجموعة واسعة من الضباط والعسكريين، من دون الانتباه الى احتمال ترك تأثيرات على معنويات الجيش لأنه سيؤسس لسابقة هي الأولى من نوعها، وهناك خيط رفيع بين المحاسبة الشفافة وبين الكيدية والتشهير. وحساسية هذا الأمر أن المطالبة المحقة بفتح تحقيق في قضية خطرة كالتي حصلت في عرسال يمكن أن تتحول لدى أي جهة سياسية إلى مطالبة بفتح تحقيقات مماثلة داخل المؤسسة العسكرية من نهر البارد إلى 7 أيار، إلى أحداث عبرا، علماً بأن لكل القوى السياسية مآخذ على الجيش في هذه المحطات، كما أن في داخل المؤسسة نفسها مآخذ على أداء بعض الضباط المعروفين خلال تلك المراحل. فمن يمكنه أن يوقف مسلسل التحقيقات وتحويل الجيش الى كبش محرقة عند أي احتكاك سياسي من النوع الحاصل حالياً؟
رابعاً، إن إحالة صقر الملف الى المخابرات تعني حكماً عدم تكليفها بالتحقيق مع سياسيين، وهذه نقطة حساسة وخطرة لأنها تترجم بالسياسة تحييد الطبقة السياسية المسؤولة في تلك الفترة بالتكافل والتضامن، والصورة الحكومية الجامعة أثناء تلاوة الرئيس تمام سلام بيان الحكومة حينها لا تزال خير دليل على ذلك، فهل هذا الأمر مقصود سياسياً، ومن أوعز بحصر التحقيق مع الضباط والعسكريين وتحييد السياسيين؟ فحملة التضامن مع رئيس الحكومة السابق تمام سلام، وزيارة رئيس الحكومة سعد الحريري له، أثمرت عدم التحقيق مع المسؤولين السياسيين وحيّدتهم ومنحتهم حصانة وسلّطت الضوء فقط على الجيش. وهذا أمر لا يخدم الحقيقة التي يفتش عنها أهل العسكريين. وهذا يعني أنه بقدر تعزيز الشفافية داخل الجيش، فإن هناك من لا يزال يقوم بتسويات سياسية ضروية للاستقرار الداخلي وتحييد المسؤولين السياسيين كافة عن هذا الملف. وإذا كان التحقيق سيرسو في نهاية الأمر على الجيش، فلماذا أثيرت كل هذه الضجة السياسية وسلّط الضوء على محاضر جلسة مجلس الوزراء وانبرى مدافعون عن رئيس الحكومة وهيئة العلماء المسلمين للدفاع عنهم وعن دورهم التفاوضي، ليحيّدوا في النهاية عن أي تحقيق؟
خامساً، من الأسئلة المطروحة حالياً لماذا لا تحال هذه القضية إلى المجلس العدلي وترك القضاء يقوم بواجبه بعيداً عن الكيديات السياسية والشخصية وتعريض الجيش لهذا المدّ الإعلامي والتجاذب السياسي حوله مجدداً، وبذلك تنحصر الانعكاسات السلبية للتحقيق في الدوائر القضائية المعنية وعدم التفريط بإنجاز قام به الجيش، فيترك مرة أخرى عرضة للتشهير، مهما كانت الأسباب موجبة ومحقة. لأن ترك السياسيين، وغير السياسيين، المسؤولين عما جرى في آب عام 2014، من دون محاسبة أو تحقيق لا يحمل سوى عنوان واحد هو التسويات السياسية التي تتكرر في كل مرة.