لم نعد نقرأ «أحيا حزب الله ذكرى مجزرة 13 أيلول». كفّ عن فعلها، منذ أكثر مِن عشر سنوات، يوم كادت البلاد تنفجر مذهبيّاً. لم يكن لتلك التظاهرة، التي انتهت بمجزرة، علاقة بالخلافات المذهبيّة، لكنّها كانت في لبنان. هنا حيث يُمذهَب كلّ شيء، حتى الهواء. كانت «مِن أجل الدفاع عن الأرض، السيادة، الأمّة، وعن مصير الأجيال».
هكذا تحدّث السيّد حسن نصرالله يومها. لم يكن أكمل عامه الثاني أميناً عاماً للحزب. الحزب الذي لم يكن أكمل شهره الثاني على تكريس مبدأ «الكاتيوشا مقابل المدنيين». خرج، كمقاومة، مرفوع الرأس أمام «عمليّة تصفية الحساب» الإسرائيليّة (أو عدوان الأيّام السبعة). حصل ذلك عام 1993. فهِم إسحق رابين، كما سلفه شامير، أنّه يواجه «عرباً مِن نوع آخر». العرب الآخرون كان لهم رأي آخر. السُلطة في لبنان، مثلاً، قرّرت أن تُكافئ المقاومة: الجيش اللبناني يُطلق النار على تظاهرة شعبيّة لحزب الله، في منطقة الغبيري عند جسر المطار (القديم) تحديداً، هكذا «بلا سبب». كان قراراً سياسيّاً بامتياز. لم تكن تظاهرة مُسلّحة. مدنيّون كلّهم. تسعة شهداء وعشرات الجرحى. نساء ورجال، خرجوا ليهتفوا ضدّ «اتفاقيّة أوسلو». كانوا يهتفون فقط. هم ثلّة نادرة كانت لا تزال تهتف، آنذاك، ضدّ «الكيان الإسرائيلي». يُريدون فلسطين، كلّ فلسطين، غرباء في منطقة قرّر حكّامها المضي في «مقرّرات مدريد» (للسلام). كانت أرضهم مُحتلّة، جنوب لبنان كان محتلاً، وهم يُقاومون إنّما ببعد نظر. شيء ما في هذه الثلّة كان يجعلها في هذه القضيّة تحديداً، ودوماً، تنظر أبعد.
إطلاق النار لم يكن تحذيريّاً، بل نحو الرؤوس والصدور مباشرة، للقتل. رمي بأسلوب الحصد. لم يعرف حزب الله جرحاً في وجدانه أعمق مِن تلك المجزرة. أناشيد، على مدى السنوات اللاحقة، أقيمت مِن أجلها: «لن ننسى أيلول». إحياء سنوي لأكثر مِن عشر سنوات. دخلت مفرداتها في الذاكرة الشعبيّة داخل تلك البيئة. مَن عاش في الضاحية يذكر اللافتات السنويّة إلى جانب صور الشهداء... الأبديّة. تشاء الأقدار أنّ يستشهد ابن نصر الله، هادي، قبل يوم واحد مِن حلول الذكرى الرابعة للمجزرة. كان الحزب أعدّ ما يلزم للإحياء، وسط «باحة الشورى» في حارة حريك، فجاء الحدث الثاني. بدأ السيّد كلمته في تلك الليلة عن ذكرى المجزرة، مُسهِباً، قبل أن يتحدّث عن شهادة ابنه: «إنّ إطلاق النار على العزّل على طريق المطار كان يهدف إلى إشعال حرب داخليّة يعرفون كيف تبدأ ولا يعرفون كيف تنتهي». كانت المجزرة عميقة في وعي الحزب إلى حدّ وضعها بنداً أول في الكلمة، قبل البند الثاني، الحدث الآن، أيّ استشهاد ابن قائد المقاومة. كانت إشارة غير عابرة. ويُتابع كلمته: «لقد كانت محاولة لخلق شرخ داخلي وقد تخطيناها بحكمة وصبر، وأخذنا أكثر المواقف شجاعة في تاريخ الحزب، لأن أسهل الأمور كانت إعطاء الأوامر بالردّ، ولكننا أبينا وارتضنيا حمل الجراح». لم يكن مضى على انتهاء الحرب الأهليّة، يوم تلك المجزرة، أكثر مِن ثلاث سنوات. الغضب الذي جال في سماء الضاحية، يومها، وسط قواعد الحزب تحديداً، كان كافياً كوقود أوّلي لقلب الطاولة على الجميع. كانت مغامرة. لو حصل ذلك، فهِم الحزب، فإنّه قد بَلَع الطُعم. لم يكن ليحصل التحرير بعدها بسبع سنوات. لم يكن ليكون «صخرة» عام 2006. لم يكن ليصنع، اليوم، المعادلات في المنطقة. كانت لحظة مفصليّة بكلّ المعنى التاريخاني. كانت الجماهير تهتف لنصرالله، ليلة المجزرة، بتلك الكلمات التي دخلت قاموس بيئتها لسنوات تلت: «يا شورى يا أفاضل، نُريد أن نُقاتل». تَردّد لاحقاً أنّ شركة «كوكا كولا» في لبنان طردت موظّفين لديها لأنّهم شاركوا في تشييع الشهداء. قيل أيضاً إنّ الراحل السيّد محمد حسين فضل الله أفتى بمقاطعة تلك الشركة. فضل الله الذي صلّى على جثامين الشهداء في مسجد الرضا ــــ بئر العبد، وخلفه نصر الله، والكثير مِن الغاضبين. الحزب الغريب، آنذاك، حتّى داخل بيئته إلى حدّ ما... تجرّع علقم صبرها ومضى.
أربعة وعشرون عاماً على تلك المجزرة. تسعة شهداء هذه أسماؤهم: سكنة شمس الدين، حسن بزّي، سمير وهب، عبّود عبّود، صباح علي حيدر، علي طويل، محمد عبد الكريم، مصطفى شمص ونزار قانصوه. هناك مَن شهد على أحدهم يركض نحو سيّدة هوت أرضاً، إذ أصيبت برأسها، لنجدتها. فارقت الحياة في اللحظة. همّ أن يَستر ما ظهر مِن جسدها... فأصيب هو. شهيد جنب شهيدة. تلك مجزرة لم تُمثّل فيلماً بعد. يسخر نصر الله يومها، غاضباً: «يحدث هذا في بلد يُقال عنه بلد الحريّات!». أجيال كبرت على نشيد «المجد لأيلول الشهداء». النشيد الذي قيل إنّ عماد مغنيّة شارك فيه بصوته. كان نشيداً تقطر الغربة مِن كلماته، الكبرياء المجروح، أسى مَن لا ينام على ضيم: «المجد لأيلول الشهداء، رفضوا الصهيونيّة نادوا: إنّا حتف الصهيونيّة. المجد لأيلول الشهداء، بدمائهم، دون مذلّة، غسلوا عار السِلم العربي».